دراسات نقدية

 

قراءة في قصيدة (حلم العودة) ومتبوعتها (أحلم حلماً يتيماً) للشاعر منير مزيد

 

هيام فؤاد ضمرة

حبيبتي

كل تيارات الحطام تندفع نحو صدري

 وريح حادة تحرك بقوة

كل أشجاره الحالمة بالعودة

ليموت فيّ الحب

وما يعذبني أكثر

أنني ما عدت قادراً على الرحيل

من شتات إلى شتات آخر

وحياتي تمضي في العاصفة

خائفة

من ظلام أن يغطي سماءها

ترسو على الأخدود الجهنمي

 يستخدم الشاعر لفظ النداء الحبيبة لتحقق فعلين في مشروعه الشعري، فعل الرمز للوطن فلسطين، وفعل الطرف المقابل المتلقي فضفضة اعتمالات النفس وما يتثور داخلها من هواجس وأحزان وعذابات من حالة تشظي مكين، هو أسلوب اعتاده الشاعر كمعنى بليغ يلائم واقع بث النجوى والتوجعات، ويعبر عن ذلك التوق اللهوف لاخراج فضفضة تسكب أحر الاعتمالات وأضناها على الاطلاق، ومن غير الحبيبة من تطلق إليها أعنة انسكابات النفس وما يعتريها من حالة وجدانية ونفسية تثير فيه كوامن الحزن البليغ إلى درجة التوجع وفقدان الاحساس بالحياة؟.   

  وفي واقع الحال فالشاعر يطلق جملة من لواعجه الأليمة وعذاباته التي تعفر في يقينه ومشاعره وتؤثر على  كامل مكونه النفسي وحالته المزاجية التي ما فتئت تحاصره محاصرة حلقة النار الموشكة على أن تمسك بتلابيبه، فيشبه أساه وحسرته وخيبة أمله بتيارات الحطام المنقضّة على صدره انقضاض متوحش يوشك أن يودي به ويقضي على حلمه الكبير بالعودة، وما تيارات الحطام إلا الواقع المأزوم والمهزوم الذي تعايشة الأمة لعربية والانشقاق الفلسطيني الطاحن بسبب التنافس على السلطة وحصيد فوائدها، والتراجع البائس على موقف المحاور وتوالي الانتكاسات والتمزقات التي أصابت الكثير من الدول العربية وأشاعت الموت والخراب والعنف واقتتال الأخوة وأعادت الخطوات إلى الوراء، خاصة والعرب باتو يؤثرون نفض الأيادي من القضية ويغيرون أولوياتهم ويسلمون لحلول سلمية تمعن في تقديم التنازلات، حتى بات حق العودة المقدس مادة ثانوية قابلة للتنازل عنها على مذبح الحوار.

  وهو ما يشكل قمة الألم والخيبة والاحباط.. ويرى واقع التشرد من وطن إلى وطن لاصق بمصيره، يوهن فيه النفس والخطى وقد امتد به العمر وأصبح استمرار هذا الحال من المحال، وأن أمر الاستمرار في صنع البدايات في دول الشتات بات مرهقاً مع تباعد الزمن وافتقاد الجسم لحيويته وعدم القدرة على احتمال الصبرعلى شدائد الحياة.. فأي إنسان خارج وطنه مهدد لأن تنتزعه أدنى عاصفة حتى وإن تزيفت في أشكالها، والخوف مما تخبؤه الأقدار من سوء المآلات أمر وارد.. وكم قسوته ستكون فوق الاحتمال لو حصل ذلك؟

يا قدس ..

من غيرك سيرفع حمى الاحتضار عن روحي

عن أنفاسي المعطرة بالزيتون والعناب

خريري يموت .. أغنيتي تموت

فراشاتي . عصافيري

أزهاري .. فساتيني المطرزة

كلها تغتال..

 والقدس ذات مكانة عظيمة في الذهنية الفلسطينية، تعيش في ضمائرهم وتنبض في قلوبهم وتمنحهم قوة التحدي في مواصلة النضال من أجل التحرير، فيناجيها الشاعر مستشعراً سحرها الوحيد في قدرتها على أن تنتزع عن قلبه كل هذا الأسى وتمنحة دافعية عالية للتفاؤل بيوم يتغير فيه هذا الحال، ويبرز من وسط هذا العجاج من يحقق الأمل الكبير بالعودة لفلسطين ويعود عطر زيتونها للأنفاس ويتذوق عسيل عنابها المحبوب.

  والشاعر يستشعر حالة حادة من الكآبة وتملؤه بواعث التشاؤم كلما أحس بالحطام المندفع إلى صدره فتموت في نفسه الرغبة بالحياة وتفقد من حولة الأشياء ملامح الحياة، فيرى حياته وربيعه وفرحة كلها تموت، وحتى تاريخه يغتال، وتهاجمه هذه المشاعر كلما وردت أخبار الوطن المحتل والوطن الكبير على السواء بما يكتنفهما من تراجع.

 لأبديتي..

 لضوء إلهي يلمع في أعماق الحلم

يسمح حبيبتي لروح الظل الحزين

أن تبلل فكري بالدموع

لأحرق قلوب الحسدين

والعشاق

وتتركني أحرك قيثارتي في النهاية

 فأغرق في حلم لا متناه لأكتب سيرة العودة

 ولأن قضية الوطن لا تموت فإن التفاؤل يعاود حضوره ليضيء الأمل في حياته ويبعث بصيصاً من نور من خلال إنعاش الحلم الذي سيكون تحقيقه رداً صافعاً لمن رضوا لأنفسهم المهانة بديلا، ويربط هذا البصيص بفعل إلهي وليس بشري لأن البشر خذلوه.. ويتعظم الحلم في نفس الشاعر وهو يقدم وعده بأنه مصر على أن يعيش الحلم إلى أقصاه ويدونه شعره الباقي ما بقت الحياة، على مبدأ برمجة العقل المؤدي إلى نجاح الهدف وتقيق الأمل.

  ويُسِر الشاعر بهواجسه إلى محبوبته فلسطين وأنها الحلم الساحر الذي يرغب بمعايشته حتى تحقيق الحلم وشوقه يسابقه إلى الحلم متجاوزاً كل المحبطات، فتتحول روحه إلى ريشة محلقة في سماء الوطن بحرية تامة لا تقيدها يد مستعمر، وهو يبني حلمة الخرافي بقصائدة لتكون أعظم قيمة من عجائب الدنيا السبع التي سحرت العيون وأخلبت الذهون، وهو بذلك يحقق حالة التحليق الحالم.

 وأراني أتجاوز هذا العالم المتهالك

المتورم بالظلم

وعلى جناح روحي الأبدية

أحلق كريشة في الهواء

بين النجوم في طيران خيالي

أبني لنفسي معالم خرافية

من قصائدي

 ومن خلال توجعه  يؤكد حتمية الرجوع والعودة إلى الوطن كما وعد بذلك الخالق، إنما لا يسطيع تبين موعده وإن تعاقبت على ذلك الأزمان، فسوف تتناقل الأجيال هذا الحلم ولن يخبو أبداً ما دام حلماً تتوارثه الأجيال.

وحتمية العودة كما يراها الشاعر لأن كل فلسطيني يختزن برمجة حلم العودة في كيانه ووجدانه ويورثه إلى من بعدة بذات القوة ليكون الهدف الرئيس ما بين الأعين، فالأحلام كالنبت اليانع يظل مستنبتاً طالما غذى واعتنى به، تماماً كالقصائد المعبأة بالحلم الكبير تصبح من ذخائر الأدب المعمر إلى آخر المدى. وهذه القوة في تعزيز الحلم تؤكد الوعي لدى الشاعر في ضرورة بث الأمل ليصبح واقعاً متجاوزاً الأحلام..

 سنرجع..

 لأننا نكدس الحلم في ذاكرتنا

ونكتبه في أشعارنا

فالأحلام يا حبيبتي لا تموت

والقصائد لا تموت

 والشاعر يتبع قصيدته (حلم العودة) بقصيدة (أحلم حلماً يتيماً) كتأكيد على توحده مع حلمه لضمان الخروج من متاهات التشرد وذل الاغتراب القسري وأحزانه المودية إلى حالة التوحل في الهذيان، وهي تشكل قمة العذاب أن يعايش الانسان خيالاته متجاوزاً كل المحبطات ويرى نفسه مجبراً على ذلك حتى يتمكن من مواصلة خطوات الحياة، يُجمّل الواقع بالحلم حتى لا يفقد الأمل والحلم معاً.

 حبيبتي

بين عذابات الحياة ومرارة التشرد

يتعمق الحزن

يتوحل في الهذيان

تمر لحظات صافية تستسلم فيها الروح

لنداء ضيف رائع من السماء

حاملا أنفاسها المعطرة بشذى الاله

بشذى الأنبياء..

في هذه الرؤية

 في هذا الهذيان ..يا حبيبتي

أحلم حلماً يتيماً يتجذر في الذاكرة

قبراً تحت ظل زيتونة أحببتها

وأحبتني بحياء

تحج إليها كل العصافير المهاجرة

وتنبت عليه شقائق النعمان

 بوشوشة بيضاء

 ولكن وسط هذا الهذيان الموحل يطل على الشاعر ضيف، والضيف في المفهوم اللغوي هو ذلك الزائر الذي يجالسك بعض الوقت ليشعرك بانسانيتك الاجتماعية ويحرك بك مكنوناتك الطبيعية ثم يرحل عنك ويتركك ممتلئاً بنشوة الاحساس بالحياة.. ولهذا يصف الشاعر لحظات من الزمن تصفو فيها روحه لنداء ضيف رائع، وروعة هذا الضيف تكمن بأنه يحمل قدراً من النقاء والاخلاص في طبيعته، ضيف يحمل رائحة أرض الأجداد والوطن السليب، قد يكون الضيف هو الأمل وقد يكون روحاً حقيقية تستشعرها نفس الشاعر الرهوفة وتشكل ملهمته، وقد تكون وطناً مستضيفاً، ووصفها بالسماوية إما لجمال الصفات ونقائها أو هي حالة من الالهام الإلهي المعطر بشذى الوطن وشذى الأنبياء.. إنما الشاعر المرهف الاحاسيس يدري ما يعتمل في وجدانه من احساس وخيال يراها كما الرؤية التي تتشكل كما الحقيقة وما هي بحقيقة، حلم يتملكه، يبرز وسط مشاعر الهذيان، فقط لأنه يحلم حلمه اليتيم على الدوام حتى يتجذر الحلم في عقله وكيانه كما اليقين، يصاحبه في كل دقائق حياته، ليلاً ونهاراً يشاركه نومه وصحوته، بل ويشاركه أنفاسه.. ولكنه مضطر أن يقلص حلمه إلى الحد الأدنى في ظروف تغول المحبطات على الواقع الفلسطيني والعربي والدولي مكتفياً من حلمه بالحصول على مجرد قبر يضم رفاته لا يتجاوزحجم جسمه تحت ظل زيتونة تملك قدراً من ذاكرته، وما أظنه يعني بذلك إلا أهلاً تربطه بهم روابط جينية، يهمهم أن يتواصلوا معه ويزوروا قبره بين الحين والآخر ليترحموا عليه ، وهي طبيعة انسانية أكيدة وأصيلة في حب الارتباط  بالجذور مهما وهنت هذه الرابطة، فالعصافير المهاجرة كناية عن الأهل والأحبة، وشقائق النعمان كناية عن الارتباط بهذه الأرض التي لاتغادرها هذه الازهار في مواسم تفتحها، والروابط العائلية هي دائرة الأمان التي يود الشاعر أن تحيطه بجمالها وتستشعرها أحاسيسه

 حبيبتي.. ها هو حلمي اليتيم

يقطع يد السارق

يبحث عن أعشابه الشافية

في عكا

وبيارات يافا المقدسة

يصلي في مساجد القدس وكنائسها

ترافقه الملائكة

وأزرع تشردي

 أشجاراً راسخة جذورها

وأغصانها .. عالية

تعانق السماء

 ولا يفتأ الشاعر أن تعاوده حمى التأوه والتوجع على الحلم اليتيم الذي يحلمه، أو هو مضطر أن يأمله حين غامت الدنيا على الأحلام الكبيرة، وصارت تجاوزاً إلى الممنوع أو إلى المستحيل، والشاعر بذلك يجنح نحو فلسفة الأشياء وفلسفة الحياة نفسها وسط بيداء المشاعر التي تعتريه بهجمات غير خِفاف، يتأمل هذه الحياة في اختلاف ليلها ونهارها، في الموت والحياة وتجدد أشكال الحياة فيها، ورغم ذلك تظل ماضية في مسيرها، سادرة في نظامها، سارحة في دقة نظام كونها، وكأن دورها تمحور في دور عين الرقيب الذي يسجل مشاهداته في ظلم الانسان لأخيه الإنسان.

  ويخص الشاعر نفسه في هذا الموقف، وينظر إليها بأنها صاحبة المصير المقدس بحلم العودة الذي نجح بتوحده به وفي أن يخصه في أحلامه، فأمسى يطارح مشاعره وأحاسيسه خلال اقترابه من الخطوات الأخيرة لمسيرة حياته،  فيستشعراقترابه من شرفتها الأخيرة، يترقب خطوة الولوج الأخير إلى العالم البرزخي الآخر .. وكحال الذي يهذي فإنه يعبّر عن هذا الهذيان بعدم قدرته على التنبؤ بموعد النهاية، ومدى اقتراب خطواته من عتبتها.

 ومع اقراره لمحبوبته فلسطين بأن هذا هو فقط حلمه الذي لا يريد أن يحلم بسواه، وبأنه الحلم القاطع الذي يحسم جميع رغباته، فإن حلم العودة مقدس في احساسه ومشاعره وهي مشاعر تداوي كافة أسقامه، فيتعظم احساسه بملامح وطنه ومدنه المرتبطة بالوجدان من بيارات يافا وشواطئ عكا والحرم القدسي الأقصى في القدس والكنائس التاريخية، كلها تدعوه لأن يكون العنصر المشارك فيها ليتجول سائحا في مرابعها وليصلي داخل حرمها ويبتهل بالدعاء من داخل كنائسها ويمارس عيشاً وتعايشاً غير مداهن، فيحول عذابات تشرده إلى يد خيره تزرع الشجر الراسخ وتعلي البنيان الراضخ، وهو تعبير قوي عن رغبته بأن يتحرر الوطن في زمانه ليكون يداً مشاركة في إعماره وليساهم في منح مواطنيه العيش الكريم ويهيئ لهم وسائل الرغد والوئام والسلام،  وليعانق اسم فلسطين عنان السماء.  

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com