دراسات نقدية

كتاب: الحب بين المسلمين والنصارى في التاريخ العربي

 

عرض ودراسة: د محمد عبد الرحمن يونس

باحث وقاص وروائي وأستاذ جامعي

عضو هيئة تدريس في أكاديمية الدراسات العالمية

 عرفت المجتمعات العربية الإسلامية والمسيحية، عبر تاريخها الطويل علاقات اجتماعية وإنسانية متميزة، إذ انفتح الإسلام على المسيحية وحافظ على حرمة المسيحيين، واحترم علاقاتهم وعاداتهم ومعتقداتهم، ولم يشعر المسيحيون بالخطر على معتقداتهم مع مجيء الإسلام، إذ تثبت النصوص التاريخية الكثيرة أن المسيحيين وقفوا من المسلمين موقفاً ودياً، وحموا المسلمين الذين هاجروا إلى ديارهم فراراً من المشركين من أهل مكة، ويذكر الطبري في تاريخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه الذين تعرضوا لأذى المشركين:« لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ فيها ملكاً لا يُظلم أحد عنده، وهي أرض صدقٍ حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه.» ص 20. وقد قام النصارى بحماية المسلمين مرة أخرى في الهجرة الثانية إلى الحبشة.

وقد تعدّت العلاقات الإسلامية المسيحية نطاق التعامل الاجتماعي والإنساني، والعلاقات الوديّة القائمة على احترام المعتقدات والآراء، لتصبح أكثر حميمية،  إذ نشأت بين الرجال والنساء في المجتمعين الإسلامي والمسيحي علاقات حب قوية أدّت في بعض حالاتها إلى الزواج، وكان لهذه العلاقات دور في امتزاج المجتمعين الإسلامي والمسيحي، وبالتالي دور في بنية هذين المجتمعين على المستوى الإنساني والحضاري والاجتماعي والثقافي.

ويأتي كتاب الباحث والشاعر عبد المعين الملوحي ليلقي ضوءاً على بنية العلاقات المسيحية الإسلامية، وليعرض حالات من الحب الشديد بين الرجال والنساء في هذين المجتمعين، وليقلّب صفحات طويلة من كتب التراث العربي التي سجلت أخبار هذه العلاقات. وقد اعتمد الملوحي في كتابه مصادر تاريخية عديدة، استقى من خلالها هذه الأخبار، ولعلّ من أهمّ هذه المصادر:

  1-   الموشى لمحمد بن أحمد الوشّاء (000 -325هـ/000 -937م )، وطوق الحمامة لعلي بن حزم الأندلسي، (-384 456 هـ/1064 – 984م )، ومصارع العشّاق لجعفر بن أحمد السرّاج البغدادي (500-417  هـ/1106-1027 م )، وذمّ الهوى لعبد الرحمن بن علـي (ابن الجوزي) ،

(579-508هـ/1201-1114 م )، وروضة العاشق لأحمد بن سليمان المتوفى سنة 635  هـ، و: منازل الأحباب ومنارة الألباب لمحمود سلمان الحلبي (725-644  هـ/1325-1247 م )، والواضح المبين في من استشهد من العاشقين لمغلطاي بن قريح ( 712 - 689 هـ/1361-1290 م ). وديوان الصبابة لأحمد بن يحيى بن حجلة التلمساني (776-735  هـ/1375-1325 م)، وأسواق الأشواق لإبراهيم بن عمر البقاعي (885-809  هـ/1480-1406 م)، وتزيين الأسواق في أخبار العشاق لداوود الأنطاكي (1008-000  هـ/1600-000  م)، بالإضافة إلى كتب أخرى عديدة.

في البداية يعلل الملوحي سبب اختياره لكلمة النصارى في عنوان كتابه: « الحبّ بين المسلمين والنصارى في التاريخ العربي » قائلاً: « المسيحيون ينتسبون إلى المسيح، والنصارى ينتسبون إلى الناصري، إّنهما اسمان لمسمّى واحد، والخلاف عليهما خلاف لفظي.» ، ص 6 .

يقسم الملوحي كتابه إلى مقدمة طويلة تبدو أكبر من أيّ فصل من فصول الكتاب، وأربعة أبواب وخاتمة.

الباب الأول يضمّ فصولاً قصيرة، في حين نجد أنّ الأبواب:

الثاني والثالث والرابع تتخلّى عن نظام الفصول، ليصبح الفصل منها عنواناً رئيساً، يتحدّث فيه المؤلف عن فكرة أو عن ظاهرة معيّنة.

في المقدّمة يرى الملوحي أنّ الحبّ عندما يقع بين الناس تتساقط الحدود والسدود، سدود الطبقة والعرق واللون والدين ولا يبقى إلاّ الإنسان. ص 9  . ثم ينتقل، وتأسيساً على مصادره العديدة، ليثبت بعض تعريفات الحبّ كما وردت في هذه المصادر، فالحبّ عند ابن حزم الأندلسي في كتابه: (طوق الحمامة): «أوله هزل وآخره جدّ، دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلاّ بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزّ وجلّ.». ويضيف ابن حزم قائلاً:« وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنّه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة، في أصل عنصرها الرفيع (…) ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابّان، إلاّ وبينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية ،لا بدّ من هذا -وإن قلّ- وكلّما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكّدت المودة، فانظر هذا تراه عياناً، وقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يؤكّده:«الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».» . ص12 - 11  .

أمّا الجاحظ فإنّه يعرّف الحبّ قائلاً: «هو دواء يصيب الروح ويشتمل على الجسم بالمجاورة.» ص 12  .

أمّا الحبّ في معجم لاروس الكبير فيعني:«ميل القلب نحو شخصٍ أو شيء يجذبه إليه». ص 12 .

ويضيف المعجم قائلاً:«لم ير الفلاسفة القدماء في الحبّ- بمعنى الكلمة- إلاّ الرغبة الجسدية، ولكن سقراط وأفلاطون وأرسطو والفلاسفة الرواقيين وبلوتارك رأوا فيه عواطف أكثر رفعة ورقة». ص13 .

أمّا أنواع الحبّ وفق تحديدات هذا المعجم فهي:

     1-       حبّ الوطن، وهو الحبّ الأول بعد حبّ الله-كما يقول فيرلين.

     2-       الميل الطبيعي أو العاطفي الذي يدعو أحد الجنسين إلى الجنس الآخر.

     3-       الحبّ الحرّ: وهو الذي لا يتقيّد بإنسان واحد، بل يجد ما يرضيه في كلّ جسد.

     4-       الحبّ اللحمي أو الشهواني: الذي لا يرى في المحبوب إلاّ الجسد واللحم.

     5-       الحبّ الصوفي: وهو الذي يتجه إلى الله بدلاً من الاتجاه إلى الأرض.

     6-       حبّ الإنسانية: وهو الذي يسمو عن المصالح الفردية والطبقيّة ويرتفع إلى الإنسان في كلّ مكان.

  7-   حبّ الذات: وهو العاطفة التي تدفعنا إلى حفظ ذاتنا وتطوّر فرديتنا، وهو في شكله السامي يحثّنا على إرضاء أكثر ميولنا غيريّة واجتماعية، وليس حبّ الذات مناقضاً لحبّ الآخرين. ص 14 .

وما يهمّ كتاب الملوحي من هذه الأنواع التي حددها معجم لاروس هو تحديداً الحبّ العاطفي الجسدي الذي يصبح عشقاً لجسد المحبوب، والذي عرفه التاريخ بين المسلمين والنصارى في العهود الماضية. ومن علامات الحبّ العاطفي الجسدي تلك التي يحددها ابن حزم الأندلسي قائلاً:«وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدي إليها الذكي: فأولها إدمان النظر-والعين باب النفس المشرّع (المفتوح) وهي المنقبة عن سرائرها..فترى الناظر لا يطرف، يتنقّل بتنقّل المحبوب وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس(…) ومنها الإقبال بالحديث فما يكاد يقبل على سوى محبوبه، ولو تعمّد ذلك(…) والإنصات إلى حديثه إذا حدّث(…) وتصديقه وإن كذب، وموافقته إن ظلم، والشهادة له وإن جار، واتباعه كيف سلك (…) ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه، والدنو منه، والتباطؤ في المشي عند القيام عنه.» ص 14  .

أمّا علامات الحبّ عند محمد بن أحمد الوشّاء فتصبح:« نحول الجسم وطول السقم واصفرار اللون، وقلّة النوم وخشوع النظر، وإدمان الفكر وسرعة الدموع، وإظهار الخشوع وكثرة الأنين، وإعلان الحنين، وانسكاب العبرات وتتابع الزفرات، ولا يخفى المحبّ وإن تستّر، ولا ينكتم هواه وإن تصبّر». ص 16 .هذا وقد عرفت المصادر التاريخية والأدبيّة القديمة أسماء عديدة للحب منها:«الصبابة-المقة-الوجد-الدنف-الشجو-الوصب-الكمد-الأرق والسهر-الحنين-الودّ-الخلّة-الغرام-الوله». ص17 . أمّا أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني فيحدد في كتابه:«ديوان الصبابة» أهمّ أسماء الحبّ، ودرجاته،  وهي:

«1-الهوى: وهو ميل النفس.

2-العلاقة: وهو الحبّ الملازم للقلب.

3-الكلف: وهو شدّة الحبّ وأصله من الكلفة وهي المشقّة.

4-العشق: وهو فرط الحبّ، والعاشقة وهي اللبلابة تخضرّ وتصفر وتعلق بالذي يليها من الشجر.

5-الشغف: وهو إصابة شغاف القلب أي حبّة القلب.

6-الشعف (بالعين) وهو إحراق الحب للقلب.

7-الجوى: وهو الهوى الباطن.

8-التتيّم: وهو أن يستعبده الحبّ.

9-التبتل: وهو أن يسقمه الهوى.

10-التدله: وهو ذهاب العقل من الهوى.

11-الهيام: أن يهيم على وجهه لغلبة الهوى عليه» ص16  .

وفي الفصل الأول من الباب الأول الموسوم بـ:«المسلمون والصليب»، يثبت الملوحي نصوصاً تاريخية تؤكّد أن الصليب، وهو شعار المسيحية، أثار خيال الشعراء في مقطوعات شعريّة كثيرة، فها هو الشاعر مدرك بن علي الشيباني يتمنى أن يكون صليباً في عنق حبيبته  حتى يظل يشمّ طيبها، ويحظى بقربها. يقول:

يا ليتني كنت له صليباً

 

 

أكون منه أبداً قريباً

 

أبصر حسناً وأشم طيبا

 

 

لا واشياً أخشى ولا رقيبا.     ص27  .

 

وهذا هو خالد بن يزيد بن معاوية يعلن استعداده لأن يتنصّر إذا ما تنصّرت حبيبته. يقول:

فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري

 

 

يعلّق رجال فوق أعناقهم صلبا. ص 28  .

 

 

أمّا الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، فإنّه مستعدّ لأن يكون صليباً، ولو كان  في ذلك دخول جهنم. يقول:

مازلت أرمقها بعيني وامق

 

 

حتى بصرت بها تقبّل عودا

 

عودَ الصليب فويح نفسي من رأى

 

 

منكم صليباً مثله معبودا؟

 

فسألت ربّي أن أكون مكانه

 

 

وأكون في لهب الجحيم وقودا. ص 29 .

 

    أمّا عبد الله بن العبّاس بن الفضل، فإنّه لا يتوانى في أن يلثم الصليب مراراً، إرضاءً لحبيبته:

كم لثمت الصليب في الجيد منها

 

 

كهلال مكلل بشموس.  ص 28 .

 

أمّا في الفصل الثاني، فإنّ الملوحي يثبت خبراً تاريخياً يؤكّد أن أشخاصاً إسلامية في التاريخ أحبّوا النصارى لأنّ أمهاتهم منهم، فـــها هو الأمير خـالد بـن عبــد الله القــسري ( 126-66 هـ/ 743-686 م ) أمير العراقين وأحد خطباء العرب وأجوادهم اليماني الأصل، أحبّ النصارى لأنّ أمّه منهم، وبنى لها كنيسة خاصّة بها. ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني أنّ أم خالد بن عبد الله القسري كانت« رومية نصرانية، فبنى لها كنيسة قبلة المسجد الجامع بالكوفة، فكان إذا أراد المؤذّن في المسجد أن يؤذّن ضُرب لها بالناقوس، وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءاتهم.»  ص 31 .

وفي الفصل الثالث يثبت الملوحي حالات تؤكّد أنّه كان في المجتمع العربي ثمّة صداقة قوية تجمع بين المسلمين والنصارى، فها هو الشاعر الأموي طخيم بن أبي الطخماء الأسدي-في زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك- كان يصادق جماعة من نصارى الحيرة – من بني الحدّاء - وينادمهم، ويتردّد عليهم ويظلّ عندهم، ويمدحهم مشيراً إلى أرومتهم الصالحة.

 

كأن لم يكن يوماً بزورة صالح
ولم أرد البطحاء يمزج ماءها
بنو السمط والحدّاء كل سيمدع
وإني وإن كانوا نصارى أحبّهم

 

 

وبالقصـر ظلّ دائم وصـديق
شرابٌ من البروقتين عتيق*
له في العوق الصالحات عروق**
ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق.  ص 34 .

 

ومن هنا فإنّ هذا الشاعر الأمويّ هو أول من أشار إلى وجود صداقة بين الناس الذين ينتمون إلى أديان مختلفة، وذلك في العصر الأمويّ البعيد. ص 35 .

ويذكر ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، أنّ الشاعر العبّاسي عبد الله بن العبّاس بن الفضل الذي عاش في زمن الخليفة المعتصم، كان ينادم المسيحيين في دير قوطا (ناحية من نواحي بغداد على شاطئ دجلة)، وكان يرى في الشمّاس أخاً له، وفي القسيس أباً، وفي الدير وطناً، ولأجل هذا الوطن سيكون مستعداً للبس الصليب. يقول:

 

 

يا دير قوطا لقد هيّجت لي طربا

 

                      أزاح عن قلبي الأحزان والكربا 

 

 

أزاح عن قلبي الأحزان والكربا

 

كم ليلة فيك واصلت السرور بها

 

 

 

لما وصلت به الأدوار والنخبــا*

 

 

في فتية بذلوا في القصف ما ملكوا

 

 

 

وأنفقوا في التصابي القرض والنشبا**

 

 

وشادن ما رأت عيني له شبـهاً             في الناس لا عجماً منهم ولا عـربا

 

في الناس لا عجماً منهم ولا عـربا

 

إذا بدا مقبلاً ناديت: واطـربا

 

 

وإن مضى معرضاً ناديت: واحـربا

 

 

أقمت بالدير حتى صار لي وطناً

 

 

 

من أجله ولبست المسـح والصـلبا

 

 

وصار شمـاسه لـي صاحـباً

 

 

 

وصـار قسـيسه لي والـداً وأبــا. ص 36.

 

 

أمّا الشاعر محمد بن أبي أميّة، وكما يذكر ياقوت الحموي في معجمه ( معجم البلدان)، فإنّه كان يتردّد على دير الجاثليق( قرب بغداد في غربي دجلة )، ليصادق الفتية المسيحيين وينادمهم، ويتغزّل بجمالهم. يقول:

تذكّرت دير الجاثليق وفتية
بهم طابت الدنيا وأدركني المنى
ألا ربّ يومٍ قد نعمت بظلّه
أغازل فيه أدعج الطرف أغيدا

 

 

بهم تمّ لي فيه السرور وأسعفا
وسالمني صرف الزمان وأتحفا
أبادر من لذّات عيشيّ ما صفا
وأسقى به مسكية الريح قرقفا***

 

 

وفي الفصل الرابع عشر يشير الملوحي إلى أنّ أربع خلفاء من خلفاء المسلمين أحبّوا وتزوّجوا أربع نساء نصرانيات، وهم: عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان، والوليد بن يزيد الأموي، والمتوكّل بن المعتصم العبّاسي.

فالخليفة عثمان بن عفان تزوّج نائلة بنت الفرافصة ابن الأحوص، ومعاوية بن أبي سفيان تزوّج ميسون بنت بحدل الكلبيّة، والخليفة الوليد بن يزيد يعشق امرأة نصرانية اسمها سعدى، ثم يتزوّجها، والخليفة المتوكّل العبّاسي يتزوّج ابنة أحد رهبان الشام، واسمها شعانين. ومن الملاحظ أنّ غير امرأة من هاته النسوة كانت تحنّ إلى ديار أهلها، وتتوق للرجوع إلى هذه الديار، فها هي نائلة بنت الفرافصة زوج عثمان بنت عفّان تكره الغربة، وتحزن لفراق أهلها، وتقول لأخيها ضبّ:

ألست ترى يا ضبّ بالله أنني
إذا قطعوا حزناً تحنّ ركابهم
لقد كان في أبناء حصن بن ضمضمٍ
قضى الله أن تموتي غريبة
 

 

مصاحبة نحو المدينة أركبا
كما حركت ريح يراعاً مثقبا
لك الويل ما يغني الخباء المطنبا
بيثرب لا تلقين أمّاً ولا أبا. ص 40

 

و ها هي ميسون بنت بحدل الكلبيّة أم يزيد بن معاوية تنفر من قصور معاوية بن أبي سفيان، ومن مظاهر الأبّهة فيها، وتحنّ إلى مسقط رأسها في البادية، وتنشد قائلة:

لبيت تخفق الأرواح فيه

 

 

أحبّ إليّ من قصر منيف

 

ولبس عباءة وتقرّ عيني

 

 

أحبّ إليّ من لبس الشفوف

 

وأكل كسيرة في كسر بيتي

 

 

أحبّ إليّ من أكل الرغيف

 

وكلب ينبح الطراق دوني

 

 

أحبّ إليّ من قط ألوف

 

وأصوات الرياح بكل فجّ

 

 

أحبّ إليّ من نقر الدفوف

 

وخرق من بني عمي نحيف

 

 

أحبّ إليّ من علج عليف

 

خشونة عيشتي في البدو أشهى

 

 

إلى نفسي من العيش الظريف.

 

فلما سمع معاوية الأبيات قال لها: ما رضيت يا ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عليفا. وقال لها: كنت فبنت، فقالت: لا والله ما سررنا إذا كنا ولا أسفنا إذا بنّا. ص 41.

ويذكر ابن داوود الأنطاكي الطبيب الأعمى في كتابه:«تزيين الأسواق في أخبار العشاق» أنّ الوليد بن يزيد «عشق نصرانية، وراسلها فأبت عليه، فكاد أن يطيش عقله، فتنكّر يوم عيد للنصارى، وبايع صاحب بستان تتنزّه فيه بنات النصارى فأدخله، فلما رأته قالت للبواب: من هذا؟ قال لها: مصاب، فجعلت تمازحه حتى اشتفى بالنظر إليها، فقيل لها أتدرين من هذا؟ قالت لا. قالوا لها: هو الخليفة، فأجابت حينئذٍ وتزوّج بها، وفيها يقول:

أضحى فؤادك يا وليد عميدا

 

 

صباً قديماً للحسان صيودا

 

من حبّ واضحة العوارض طفلة

 

 

برزت لنا نحو الكنيسة عيدا

 

ما زلت أرمقها بعيني وامق

 

 

حتى بصرت بها تقبّل عودا

 

عود الصليب فويح نفسي من رأى

 

 

منكم صليباً مثله معبودا.  ص 42 .

 

ويشير ياقوت الحموي في معجمه إلى أنّ الوليد بن يزيد، كان يتردّد على أديرة النصارى، ليقيم فيها لاهياً ماجناً شارباً غير هيّاب ولا وجل، فها هو يتردد على أحد أديرة دمشق «دير بَوَنّا»، ليقيم فيه، ويتأمّل نساءه الجميلات، ثمّ ينشد قائلاً:

حبذا ليلتي بدير بَونّا

 

 

حيث نسقى شرابنا ونغنى

 

كيف ما دارت الزجاجة درنا

 

 

يحسب الجاهلون أنّا جننا

 

ومررنا بنسوة عطرات

 

 

وغناء وقهوة، فنزلنا

 

وجعلنا خليفة الله فطروس

 

 

مجوناً، والمستشار يُحنّا*

 

فأخذنا قربانهم ثمّ كَفَّرنا
 

 

لصلبان ديرهم فكفرنا**

 

واشتهرنا للناس حيث يقولون

 

 

إذا خُبِّروا بما قد فعلنا. ص44

 

وهاهو الخليفة العبّاسي المتوكل يسافر إلى دمشق، ويمرّ على الكنائس والرياض يتنزّه فيها، ويشاهد النصرانيّة«شعانين»، ابنة راهب إحدى الكنائس، فيعشقها، ويقول لها:«إن هويتك تساعديني؟ فقالت: أنا الآن بإمرتك، وأمّا إذا صدق المحبّ في المحبّة فما أخوفني من الطغيان. أما سمعت قول الشاعر:

كنت لي في أوائل الأمر حبّاً

 

 

ثمّ لما ملكت صرت عدوا

 

أين ذاك السرور عند التلاقي؟

 

 

صار مني تجنباً ونبوا

 

فطرب حتى كاد يشقّ ثوبه، ثمّ قال لها: هبيني نفسك اليوم، فصعدت به إلى غرفة مشرفة على الكنائس، وجاء الراهب بخمر لم ير مثله، فلمّا أخذ منه الشراب أحضرت آلة وغنّت:

يا خاطباً مني المودة مرحباً

 

 

روحي فداؤك لا عدمتك خاطبا

 

أنا عبدة لهواك فاشرب واسقني
 

 

واعدل بكأس عن جليسك إذ أبى

 

قد والذي رفع السماء ملكتني

 

 

وتركت قلبي في هواك معذبا.

 

فأرغبها حينئذ فأسلمت وتزوّجها فكانت من (أعزّ) النساء عنده». ص 46 .

أمّا أمير الأندلس عبد العزيز بن موسى بن نصير، فإنّه يتزوّج نصرانية إسبانية، وهي زوجة لذريق المكناة أم عاصم:« وكانت قد صالحت على نفسها وأموالها وقت الفتح، وباءت بالجزية، وأقامت على دينها في ظلّ نعمتها إلى أن تزوّجها الأمير عبد العزيز فحظيت عنده ويقال إنّه سكن بها في كنيسة بأشبيلية ». ص 48 .

وفي الفصل الخامس من الباب الأول الموسوم بـ «المسلمون وحبّ الفتيات النصرانيات»، يعرض الملوحي لعدة حالات من التراث العربي تؤكّد مدى الحبّ العميق بين الرجال المسلمين والنساء النصرانيات، هذه الحالات التي دفعت هؤلاء الرجال لأن ينشدوا أشعاراً جميلة في هاته النساء، ولأن يلجأوا أحياناً إلى تطليق نسائهم حبّاً بهذه النساء، وامتثالاً لأوامرهنّ، فخالد بن يزيد بن معاوية (000 ـ–90 هـ/000 -708 م) كان حكيم قريش وعالمها، وكان فاضلاً في نفسه، وله همّة ومحبّة للعلوم، إلاّ أنّه أحبّ رملة بنت الزبير بن العوّام (النصرانية)، حبّاً ملأ عليه حياته. وعندما أرسل خاطباً لها اشترطت على الرسول:« لا والله أو يطلّق نساءه » فما كان منه إلاّ أن طلّق امرأتين كانتا عنده، إحداهما من قريش والأخرى من الأزد، فتزوّجها وظعن بها إلى الشام.  ص 51 .

وهاهو يعلن حبّه لرملة ومدى كلفه بها، واستعداده لأن يتنصّر إكراماً لها. يقول:

أحنّ إلى بنت الزبير وقد علت
بنا العيس خرقاً من تهامة أو نقبا*

أحبُّ بني العوّام طراً لحبّها
ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا

تجول خلاخيل النساء ولا أرى
لرملة خلخالاً يجول ولا قُلبا

أقلّوا عليّ اللوم فيها فإنني
تخيّرتها منهم زبيرية صلبا

فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري
تخطّ رجال بين أعينهم صلبا. ص 54

وهاهو أحد رجال المسلمين يمتثل لأمر امرأة نصرانية، فيكوي على رأسه صليباً تعلّقاً بها. يقول الصفدي في تاريخه عن هذا الرجل:« رأيت بحماة رجلاً وافر الحظّ من الخطّ، وقد أوثقه المؤيد (ملك حماة) ليكتب عنده، فكان لا يمكنه من الخروج، فحكي أنّه علق نصرانية بشيزر(قلعة أسامة بن منقذ) فكان يكتب إلى المغرب بحماة ثمّ يذهب إليها فيجلس معها إلى الصباح وأقام على ذلك طويلاً.

وقالت له يوماً: - إن أحببتني فاكوِ على رأسك صليباً، ففعل، وأنا رأيته.» . ص 56 .

وهاهو أحد المسلمين يعشق نصرانيّة، ويلثم صليبها كما جاء في كتاب تزيين الأسواق في أخبار العشّاق، لداوود الأنطاكي، فقد «حكي عن ابن العبّاس بن الفضل أنّه عشق نصرانية بدير (سرماجيس) فكان لا يفارق البِيَع شغفاً بها، فوجدها يوماً في بستان فجلست معه أسبوعاً، فقال في ذلك:

قد خلونا بظبيه نجتليه
وسط بستان دير سرماجيس

يتثنّى في حسن جيد غزالٍ
في صليب مفضض أبنوس

كم لثمت الصليب في الجيد منها
كهلال مكلّل بشموس. ص 59

 

وهاهو مسلم آخر يحبّ نصرانية، ويتغزّل بها مادحاً عينيها الزرقاوين، كما ورد في عيون الأخبار لابن قتيبة:

يقولون: نصرانية أم خالد
فقلت: دعوها، كلّ نفس ودينها

فإن تك نصرانية أم خالد
فقد صورت في صورة لا تشينها

أحبّك إن قالوا: لعينيك زرقة
كذاك عتاق الطير زرقاً عيونها. ص60

 

وهاهو عاشق آخر يمرّ بإحدى النساء، العفيفات، ويراودها عن نفسها، فتلقّنه درساً في العفّة، فيتوب إلى ربّه، فقد جاء في مصارع العشاق لجعفر بن أحمد السراج البغدادي، أنّ رجلاً مرّ « براهبة من أجمل النساء فافتتن بها فتلطّف في الصعود إليها فأرادها على نفسها فأبت عليه وقالت: لا تغترّ بما ترى، فليس وراءه شيء، فأبى حتى غلبها على نفسها وكان إلى جانبها مجمرة لبّان فوضعت يدها فيها حتى احترقت، فقال لها بعد أن قضى حاجته منها: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قالت: إنّك لما قهرتني على نفسي خفت أن أشركك في اللذة فأشاركك في المعصية ففعلت ذاك لذلك.

فقال الرجل: والله لا أعصي الله أبداً.

وتاب مما كان عليه».  ص61 .

أمّا الباب الثاني من الكتاب فهو بعنوان: الحبّ الشاذ، أو ما يسمى بمفردات المعاجم المعاصرة: الشذوذ الجنسي HOMOSEXUALITÉ. وقد جمع الباحث عبد المعين الملوحي في هذا الباب، من كتب التراث العربي، مجموعة من أخبار الرجال المسلمين الذين عشقوا عشقاً جنسياً غلماناً من النصارى، ويشير هذا الباب إلى أنّ الشذوذ الجنسي انتشر في العصور العبّاسية والعصور المتأخرة انتشاراً واسعاً بين جميع أفراد الطبقات في المجتمعات.

ويبدو أنّ هذا الانتشار كان في بنيته العميقة نتيجة لانفتاح المجتمعات العبّاسية على الحضارات المتعاقبة والمتزامنة مع هذه المجتمعات، والتي كان لها تأثير واضح على المجتمعات العبّاسية، في ثقافتها وسياستها، وتركيبتها المجتمعيّة، وبالتالي في تركيبتها الذهنيّة والنفسيّة، ومقاييسها الجماليّة الجنسانيّة الخاصّة التي تشكّلت بفعل هذه المؤثرات الوافدة.

أمّا الباب الثالث من الكتاب فيخصصه الباحث لأخبار مدرك الشيباني وحبيبه عمرو، فمدرك الشيباني هو ابن محمد، نسبه إلى بني شيبان« عرب ببادية البصرة، دخل بغداد صغيراً ونشأ بها، فتفقّه وأحسن العربية والأدب والخطّ، وكان كثيراً ما يلمّ بدير الروم من الجانب الشرقي ببغداد، وكان في دير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو بن يحيى ( يوحنا ) وكان من أحسن الناس صورة وأكملهم خلقاً، وكان مدرك بن محمد يهواه ». ص 84 .

وينفرد الباب الثالث ليثبت تلك القصيدة الطويلة ذات المائة بيت التي يتغزّل فيها الشاعر مدرك الشيباني بعمرو بن يحيى، ونقتطف من هذه القصيدة ما يلي:

 من عاشقٍ ناءٍ هواه دانِ،
ناطقِ دمعٍ صامتِ اللسان

موثق قلب مطلق الجثمان، 
معذب بالصدّ والهجران

من غير ذنب كسبت يداه، 
غيرَ هوى نمت به عيناهُ

شوقاً إلى رؤية من أشقاه،
كأنّما عافاه من أضناهُ


إلى غزال من بني النصارى،
عِذارُ خدّيه سبى العذارى. ص 90 .

أمّا الباب الأخير من الكتاب فهو بعنوان: عرس ومأتم، وفي هذا الباب يتناول الباحث تلك العلاقة الحميمة التي جمعت الشاعر ديك الجنّ الحمصي ( عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي ) بحبيبته الجارية النصرانية ورد، ثمّ زوجته في ما بعد، فقد أحبّ ديك الجن ورداً حبّاً ملأ كيانه، فتزوّجها، ثم شكّ فيها، فقتلها، ثمّ ندم فيما بعد ندامة رافقته طوال حياته، بعد أن تأكّد أنّ كلّ الوشايات التي قيلت فيها كانت ظلماً وبهتاناً.

لقد كانت ورد بالنسبة لديك الجنّ مثالاً جمالياً مليئاً بالفتنة الأخّاذة والإثارة، أنّه جمال الأنثى في تشكّلاته، و تلويناته المتعدّدة، والذي ينسكب هادئاً شفيفاً ليوشّح الحبيبة ورداً. وهاهو الشاعر ديك الجنّ الحمصي يشكّل لوحة فاتنة لهذه المرأة التي تمثّل كلاً جمالياً متعدّداً يجمع صفات جمالية كثيرة متوافرة في نساء عصره. يقول واصفاً مفاتنها:

انظر إلى شمس القصور وبدرها
وإلى خُزامها وبهجة زهرها
 
لم تَبل عينك أبيضاً في أسود
جمعَ الجمال كوجهها في شعرها
 
وردية الوجنات يختبر اسمها
من ريقها من لا يحيطُ بخُبرِها
 
وتمايلت فضحكتُ من أردافها
عجباً ولكني بكيت لخصرها

تسقيك كأس مدامة من كفّها
ورديّة، ومُدامة من ثغرها. ص 106

ولم يستطع ديك الجن أمام هذا الجمال الآثر أن يضبط غيرته، فانفجرت شكّاً مدمّراً بصاحبة هذا الجمال، بعد أن تسرّبت إليه أخبار من ابن عمّه أبي الطيب تشير إلى خيانتها الجنسيّة له، فما كان منه إلاّ أن قتلها، ثمّ رثاها رثاءً فاجعاً حزيناً، نادماً:

أساكنَ حفرة وقرار لحد
مفارق خلّة من بعد عهد


أجبني إن قدرت على سؤالي
بحقّ الودّ كيف ظللت بعدي

وأين حللت بعد حلول قلبي
وأحشائي وأضلاعي وكبدي

أمّا والله لو عاينت وجدي
إذا استعبرتُ في الظلماء وحدي

وجدَّ تنفّسي وعلا زفيري
وفاضت عَبرتي في صحنِ خدّي

إذن لعلمت أني عن قريب
سَتُحفَرُ حفرتي ويُشقُّ لحدي. ص113

وينتهي كتاب « الحبّ بين المسلمين والنصارى في التاريخ العربي » ليثير أسئلة عديدة عند قرائه، وربّما يكون منها:

هل استطاعت المجتمعات العربية المعاصرة في وقتنا الراهن أن تحافظ على العلاقات الوديّة والإنسانيّة بين المسلمين والمسيحيين، والتي كانت حقيقة قائمة في العهود الماضية؟ وهل امتزج المجتمعان الإسلامي والمسيحي ثقافياً ومعرفياً وتزاوجاً إنسانياً وبشرياً، كان من شأنه أن يلغي الحساسيات المذهبيّة والطبقيّة بين هذين المجتمعين؟ وهل تستطيع الكتابات العربية المعاصرة في وقتنا الحالي أن تسجّل بجرأة معرفية أخبار الحبّ والعشق في المجتمعين الإسلامي والمسيحي؟ وغيرها من الأسئلة الأخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــ

الحب بين المسلمين والنصارى ، تأليف عبد المعين الملوحي، الناشر: دار الكنوز الأدبية ، بيروت، لبنان. عرض ودراسة د. محمد عبد الرحمن يونس

---------------------------

*البروقتان: موضع بالكوفة

**السميدع: السيّد

* الأدوار: الغناء

** العَرض: متاع الحياة

*** القرقف: الخمر

* فطروس هو بطرس، ويحنا: هو يوحنا

** كفَّرنا: خضعنا وسجدنا

* العيس: الإبل، الخرق: الفلاة الواسعة. النقب: الطريق في الجبل

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com