|
دراسات نقدية مونولوج امرأة عراقية .. قراءة نقدية
أ.د. سيّار الجميل
استكمالا للقراءة الفكرية التي قدمتها عن مونولوج امرأة عراقية .. فأنني أعالج اليوم رواية "حارسة النخيل" للسيدة المثقفة والإعلامية العراقية المعروفة سمّية الشيباني، ولكن في قراءة نقدية .. وكانت هذه “ الرواية” قد كتب عنها نقديا بعض المقالات المختصرة، والتي كتبنها كاتبات معروفات، أمثال : فاطمة المحسن وبلقيس السنيد وغادا فؤاد السمان .. وغيرهن، ولكن تبقى الرواية بحاجة للمزيد من الكتابات والمعالجات النقدية، خصوصا، وإنها سيرة حياة امرأة عراقية حملت على كاهلها أثقالا تراجيدية مريرة ..، كما أن كاتبتها كتبتها في ظروف ما قبل عام 2003 .. كما أنها بحاجة إلى ثمة وقفات فنية عند العنوان، والأسلوب، وطريقة السرد، ونسيج الروي والعقدة الفنية، وصياغة الأحداث، وجدلية الشخوص، وترجمة المشاعر والأحاسيس .. الخ
التقنية الفنية الرواية تتضمن رؤيا و25 مشهدا كبيرا وصغيرا، مع صور بارعة تجسد بلا أي تزويق دفء الحياة العراقية .. إنها رواية تتشكل من عدة حركات وانتقالات، ولقد أجادت الكاتبة تماما حالات الانتقال من موضوع إلى آخر، بحيث هي التي بقيت مسيطرة على المتلقي من دون أن يضيع في زحمة الأحداث وتيه المواقف والشخوص .. وكانت قد تمثلت براعتها في أن لا تعرف الرواية قاعدة زمانية أو مكانية، إذ تبقى الصور والتشكيلات والأحداث تنقلك من المهم إلى الأهم .. إنها محبوكة بشكل لو كتبها كاتب آخر ليست لديه القدرة على الحبكة الروائية لجعل القارئ يتيه وسط بحر من الأحداث والمواقف والحركات .. إن رواية حارسة النخيل ليست مسلسلة قصة واحدة، ولكنها قصص متشكّلة ضمن حبكة روائية واحدة وتدور حول البطلة نفسها التي لم تغب أبدا عن المشهد منذ طفولتها المبكرة وحتى العام 2002 .. أي أنها حصيلة بايوغرافية، وقد نشرت على الناس مثل بانوراما مجسدة ببقية الشخوص الحية، وضمن حركة زمنية يصل مجالها قرابة لأربعين سنة .. إن الحبكة القوية التي تميزت بها الرواية، قد وصلت بالقارئ إلى العقدة الروائية التي تقف على رأس المشهد وفي منتصف الرواية بالضبط .. نعم، لقد نجحت الكاتبة بمهارتها أن تأخذ قرائها شيئا فشيئا إلى الانفجار الكبير حيث الحرب وانسحاق العراق والعراقيين .. نعم، أوصلتنا إلى الذروة، ولكنها تبدو، وهي ترّف نازلة رويدا رويدا، ولكن المنحدر كان شديدا .. تبدو صاحبتنا حتى منتصف الرواية وبالذات عند مشهد (العطش)، وهي تنحت في الصخر منذ طفولتها .. ولكنها مع مشهد (الحب والولادة) تبدو وهي تعدو إلى الحرية .. إن نسيج القص مترابط مع بعضه البعض الآخر .. وعليه، فالرواية، بحد ذاتها، قوية جدا في هذا الجانب .. ولكنني لم أتقبّل اللغة الخطابية التي لم تتخلص منها الكاتبة في أماكن كثيرة، علما بان الحوار مكتمل على أحلى ما يكون الاكتمال ..
معنى " حارسة النخيل " فكّرت طويلا وأنا أتساءل : لماذا اختارت الكاتبة مثل هذا "العنوان" ؟ لماذا استخدمت مثل هذا "الرمز" كي تكون حارسة له ؟ ذكرتني بامتداد الزمن العراقي حيث كانت النخلة منذ العصر السومري رمزا للعراقيين .. ولقد جعلت الكاتبة وظيفة " الحراسة " لأهم رمز عراقي مهمة نبيلة .. ولماذا حراسة هذا "الرمز" الرائع ؟ نعم .. لماذا ؟ إن المتلقي يحس منذ الوهلة الأولى، أن المرأة العراقية كانت ولم تزل مساهمة في الحفاظ على مثل هذا الكائن العراقي الرائع الذي يمنحنا الشموخ عاليا .. والذي يمنحنا الرفعة والاستقامة نحو السماء .. إنني دائما ما أشبه النخلة بامرأة فارعة ميساء القوام، وترفع رأسها عاليا، ووجهها مخفي بين انسدال شعرها المتهدل والملتف عليه من دون أن تحجب شعرها عن الناس !! حارسة النخيل أحبت النخلة وعشقتها، بل وأنني أرى أن المرأة العراقية ما هي الا مكتسبة صفات هذا الكائن العراقي الصبور الممتدة جذوره في الأعماق .. لقد تأثرت المرأة العراقية بصاحبتها النخلة، وبخصبها، وبطيب ثمرها .. ومتعة افيائها . صبورة مثلها، وتتحمل كل العاديات . إن كل امرأة عراقية هي حارسة أمينة للنخيل العراقي الممتد إلينا منذ آلاف السنين .. والذي قست عليه الأيام الأخيرة قسوة لا ترحم ! قست عليه الحروب كما قست على الإنسان، وقسا الإنسان العراقي نفسه على بيئته الجميلة الخضراء، كونه ركض وراء "دولة" مجنونة، استعر أصحابها بالنفط وما جلبه من دمار للعراق !
الاسلوب .. جماليات الروي لقد كانت سمية الشيباني موفقة تماما في أسلوبها الرخيم .. وبدت لي وهي تتحكم بمفرداتها المناسبة تماما .. وهو دليل على قوة ثقافتها العربية .. وكثيرا ما تستوقفني عباراتها الجميلة، ووصفها للأشياء وصفا خلابا .. إن لغة المؤلفة قوية جدا، وهو دليل على حجم قراءاتها بالعربية، وما اكتسبته من مدرستها العراقية ولدى جيل ترّبى في أحضان ثقافة عراقية قوية جدا .. تقول : "ولم تفارقني رائحة الكتب وترابها .." ( ص 188 ) ولكن بقدر ما كان للروي من جماليات رائعة، وتصويرات مقاربة لحقائق الأشياء التي عاشتها صاحبة السيرة، إلا أنها كثيرا ما تبتعد حارسة النخيل عن مهمتها، لنجد أمامنا سمية نفسها تتحدث بالنيابة عن البطلة ! كثيرا ما تتحّول لغة الروي إلى لغة الخطابة .. وهذا ما أتمنى على الكاتبة الانتباه إليه، وان تتجاوزه وهي تكتب روايتها الثانية . إن جملة الاستفهامات كان لابد أن تحكيها حارسة النخيل نفسها .. ولكن من ابرع ما وجدت من جماليات الروي وصف حارسة النخيل للشخصية العراقية التي " تستوقفك بتفاصيلها المتشابكة والمعقدة، كان كثير السخرية وكثير التبجح، وكثير الحديث عن أشياء حدثت فعلا، ولكنه أعطاها ذلك البعد الذي لا يراه إلا هو، وعن أشياء لم تحدث أصلا، ولكنه يتخيلها ويصدقها ليبني عليها سلطته .. " ( ص 146 ) .
قصة المرأة العراقية إن السرد يحكي لنا بوضوح وحرية وشجاعة كبيرة، قصة المرأة العراقية منذ نشأتها الأولى طفلة لا تعرف إلا الكآبة والدموع والآلام النفسية المبرحة .. وهي ترى أمها تعاني الأمرين من أب لا يكتفي بالقسوة على الأم، وهي زوجته، ولكنه يقسو على أطفاله أيضا .. طفلة عاشت مرارة الحياة في ظل زوجة أب قاسية .. طفلة عاشت في عائلة ممزقة، الأب في البصرة والأم في الكويت .. طفلة حرمت قهرا من حنان الأم الطيبة التي كان الأب قد استأصل أولادها منها عنوة .. الأب القاسي المتحامل على زوجته الأولى يصبح كالخاتم في أصبع زوجته الثانية التي كانت تمّثل كل الاستهتار في حياتها الطائشة .. طفلة عاشت محرومة من الأكل الشهي والسكاكر ومن العاب الأطفال وحتى الدمى ومن التحمّم .. طفلة لم تعش حياة سعيدة .. إنها تمثل الصورة الحقيقية للحرمان الذي يعاني منه أطفال العراق منذ أزمان خلت .. لقد نجحت سمية الشيباني في تصوير ليس الأشياء العادية والتشيؤات المادية ولا حتى المعاني القيمية، بل عّبرت عن مشاعر وأحاسيس المرأة ـ بشكل خاص ـ تعبيرا مسّ قلوب الناس .. إنها تسّجل ملحمة قل نظيرها في تاريخ البشرية .. إذ جابهت المرأة العراقية جدارات صلبة من الحياة .. وها نحن نرى الطفلة تكبر في أجواء صعبة، مليئة بالتناقضات والانحرافات .. تصطدم بالقسوة منذ صغرها .. ومن أصعب المهام أن تغدو البنت الكبيرة أشبه بالأم في غياب الأخيرة .. ومع وجود زوجة أب مستهترة، وأب يشعر أولاده وبناته انه يظلم أمهم، فينسحقوا سحقا وهم يواجهون الحياة من دون حنان أم، أو عطف أب .. هنا، تكون الجدة أو الجد بمثابة الملجأ القسري .. " وأنا انظر إلى جدتي وهي تجلس كالطاووس على كرسيها وسط صالة البيت " ( ص 194 ) !
البطلة تكبر .. والتحديات تكبر لعل "حارسة النخيل" واحدة من أهم ما كتب من سير بايوغرافية عراقية بأسلوب الروي، وهي تحلل العلاقات الشخصية والنسيج الداخلي بين الدولة والمجتمع أولا، وبين النظام والمجتمع ثانيا .. كبرت البطلة وامتلكت الوعي بما يحصل .. تجربتها الخصبة مع عذابات الدواخل العراقية أكسبتها خبرة في الناس، وثقة بالنفس، ومعرفة بالظروف ومعاني القسوة .. الأم عندها محورا أساسيا لا تنفك عن العلاقة به .. الأب جائر .. المجتمع كله ظالم والدولة تزداد عتوا وغطرسة .. ولعل دراما الأحداث كلها كانت تنساق كلها ونحن معها إلى زلزال الحرب منذ اشتعالها .. وتفاصيل التعامل معها ووصف بشاعاتها .. فان كان أهوال القصف على مدى 43 يوما من عام 1991 قد دّمرت بنية العراق، فما بالنا بثماني سنين عجاف على امتداد الثمانينيات المهلكة للآلاف المؤلفة من شبابنا ؟ إن عقدة " حارسة النخيل " هي الذروة التي عاشها كل العراقيين في تلك الأيام الصعبة، إذ وصل التحدي إلى ذروته بين أي عراقي وبين الزمن .. ثم يبدأ العد العكسي مع التداعيات المريرة التي فرضتها نتائج عام 1991 وصولا إلى 2003 التي لم تصلها الرواية .. "كنا بحاجة للعودة قليلا إلى الذكريات، كي نخرج من هذا الموت!" (212). إن العلاقات الاجتماعية تبدو على حقيقتها وقت الأزمات والتحديات، وخصوصا، في مجتمع متزمت كما هو مجتمع الفلاحين العراقيين .. ولكن ثمة تصرفات عراقية تمنحنا درجة من القوة يتضح بعضها لدى كرم حاتمي لشيخ عراقي .. وتصرفات نسوة يجبرن الآخرين على احترامهن .. وأفعال شاذة كالتي نجدها في أي مجتمع آخر ..
كتبنا وما كتبنا .. ويا خسارة ما كتبنا! وأخيرا، فان ذاكرة سمية الشيباني لها تفصيلات ممتعة .. لم تستخدم إلا الواقع وشخصياتها حقيقية غير وهمية . إن المكونات السردية تربط بين المعاني الدقيقة والأشياء الكبيرة، في عملية جدلية التناوب بين الواقع المضمخ بالأسى وبين زمن قادم ربما سيكون أتعس وربما ينفرج الحال عن شمس مشرقة، وتبقى " حارسة النخيل " منتظرة، كما هو حال كل الأوفياء العراقيين الذين كانوا وما زالوا يرددون أغنية فيروز : كتبنا وما كتبنا .. ويا خسارة ما كتبنا ..( ص 212) وهم يحلمون بمستقبل عراقي جميل .
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |