قراءة في "حيث لاينبت النخيل" .. انزف
الاستفهام
عبد الكريم هداد
بغداد- موقع ورق
حين
تكون الكلمات هي الملاذ الوحيد في المنافي، لايأوي اليها الا الذين تركوا
بلدانهم عنوة،ًوهم منهكون بالفجيعة والغربة والجوع والوحشة والاغتراب
والخوف ،الكلمات حين تستحيل الى شعر،لم تكن فيها الا الكلمات المغمسة
بالالم ، فمن ذا يلملم هذا الشتات المتشظي الذي يحفز –الهومسكhomeick- الى
اوطأ درجة تحت سلـّم مرض الحنين،تلك هي قدرة الشاعر في صهر الحنين والكلمات
الى قصائد، تجسد الوجع الخفي تحت اغطية الكلمات.
كتب
الشاعر سعدي يوسف مقدمة هذا الديوان،حيث اشار الى:
"العناصر الاساس في نص عبدالكريم هداد،محددة،محدودة،لكننا نلحظ،بإعجاب،
نجاح الشاعر في استنطاقها وتحريكها،لابفعل خارجي عَمديّ،وإنما بالعناصر
ذاتها، مفعّـلة (حركة الستائر مثلا).
في
البدء يعلن الشاعر عن الهجرة او المنفى،ويغادر في الخفاء وهو يحفز نفسه
بقراءة بيت من معلقة الاعشى قيس :
ودع
هريرة ان الركب مرتحل ُ
وهل
تطيق وداعا ايها الرجــــــــل ُ
وهذا
هو اعلان لبدء رحلة النفي القسرية للخلاص من قبضة الدكتاتور بعد ان اجهز
على كل معالم الحرية،واحكم لعبة الموت على كل مباهج الحياة.
مجموعة "حيث لاينبت النخيل "للشاعر المغترب عبدالكريم هداد،تنقسم في
كتابتها الى عقدين من الزمن،العقد الزمني الاول في الشرق، من لحظة الهروب
الاولى نحو دولة الكويت عبر الصحراء،مودعا امه عبر جنح الظلام وهي ترش
الماء خلفه كما تفعل الامهات العراقيات حين يودعن احبابهّن في لحظة السفر
لعله يعود / عندما ودعته /لم يقل الى لقاء/ ولم يرم خلفي الماء/ كما فعلت
امي / حين هجر اخوتي البلاد / البلاد المتخمة بلافتات الغباء / وقصائد
المخبرين الشعراء /آه ٍ يابلاد السواد / عندما ضاقت الدنيا بنا / والسماوة
وبغداد .
هذا
الاعلان الواضح والصارخ الذي يشير الى القبضة الحديدية للفاشية
البعثية،التي ضيقت على الليبراليين والتقدميين، الارض بحيث لم تتسع لهم
،هذه هي القصيدة الاولى بعنوان – وداع- كتبها في الكويت بتاريخ
17-9-1982ومن ثم تبدأ ارتحالات اخرى من مكان الى مكان اخر ومن دولة الى
دولة اخرى،في الكويت يتذكر السياب /غريب على الخليج / يبحث عن شباك وفيقة /
يترنم بإنشودة المطر /من هنا / قبل عشرين عاما /مر حاملا قصائده /يصاحبه
الموت .
كان
يحلم ان يرى وطنا يزخر بالحرية وكرامة الانسان،خاليا من اي اضطهاد ومن الم
الفجيعة وسلب الحريات وكذلك وطن بلا حروب،ففي قصيدة –اريد – يتمنى متحسرا
/اريد وطنا / خاليا من ذئاب الحجاج / خاليا من رائحة النفط والرصاص / خاليا
من زورالكتبة / سرقوا حروفي وخطبة الحلاج /ولحسوا احذية الجلاد.
تكاد
الغربة تحكم وحشتها عليه، يرى كل شيء غريب عنه وما يحيط به الا الوهم
والسراب ،وعند اول صراخ له يعلن / نوافذ مدن/ وأشلاء هزيمة / خنجر ٌ/ يخض
وجعي /وانزف الاستفهام /على طاولة الضياع .
في
المنفى يكون الانسان مستلبا الى حدٍ يكاد لايعرف اسمه،لذلك يبحث عن لغة
تشبهه وعن اغنيات تثير فيه البقايا، التي تحفزه على البقاء والشرود ولو
بالخيال الى حيث الوطن /البارحة /خرجت بحثا/ عن لغة تشابهني/ وعلى شفتي ّ/
تذوب إغنيات قديمة /كإلحاح الذاكرة لوجه امي .
اما
القسم الثاني من قصائد الديوان فقد كتبها الشاعر في المنفى الاخير الذي
استقر به بعد ارتحالات دامت مايقارب العقد من السنوات،اخيرا استقر الشاعر
في السويد ،يقول الشاعر سعدي يوسف عن القصائد التي كتبت في السويد :تجنح
الى القصر والتكثيف باستثناء واحدة تجاوزت الصفحة الواحدة،وتحاول ان تتحرر
من بلاغيات معينة،يتواتر استخدامها في عموم الشعرالعربي قديمه وحديثه،كما
اننا نجد الرغبة في الاندماج بالمحيط ،ان لم يكن الاجتماعي ،فليكن اندماجا
بالطبيعة .
يبدو
ان الشاعر عبدالكريم هداد حين وصل الى بلاد السويد،حاول ان يعقد هدنة مع
الغربة،فكتب قصيدة بعنوان –سفينة نوح –وكأنه خرج توا من الطوفان الكوني
ليستقرعلى هذه الارض،بعدما دارت به المدن والموانىء وشوارع الغربة
والمطارات والجوع .
سجل
بهذه العدسة / ان جراحي قارصة /وسفينتي بباب البحر /هنا جالسة / ابحث فيها
عن وجه مألوف.
هذه
القصيدة تحولت الى سيناريو لفيلم وثائقي عن اللاجئين عام 1990 .
تتحول
رؤيا الشاعر بعد ان يستقر في السويد الى اكثر رحابة وطمأننية ،ثم يحاول ان
يغير المفردات الشعرية،التي كانت يستعملها الشاعر في المنافي فتبدو اكثر
الفة وهدوءا .
شكرا
..../لهذه البلاد المشمسة /شكرا.../لهذه العدسة / ومن يسمع جروحي الهامسه /
شكـرا / لموج البحر / وهذا الميناء / واصغر نورسة .
بدأ
الشاعر يسترجع ضوء الجمال ويسترجع مجساته الحسية حين يرى الانثى التي تشده
الى البوح بمكامن نفسه / بين نهديها /يفتح الصبح ُ/ شباكا من الدهشة / وسرب
حمام ..!
لو
نقارن بين قصيدة الامس وهو عالم الرحيل وبين قصيدة اليوم وهو عالم المكوث
والشعور بالامن والاستقرار لوجدنا ان الشاعر عبدالكريم هداد يبدو اكثر
حضارية من لغته الصحراوية السابقة التي كان يستعملها انذاك ،القصيدة تبدو
هادئة ورقيقة ومفرداتها ليست خشنة بالرغم من الشعور بالوحشة ولكنها الوحشة
التي وراء افق الطمأنينة/ القصيدة / تشاركني قهوتي /ولون القميص /تشاركني
رعب الاحلام /وسيجارة القلق /تمضخ لحمي /وامضغ اصابع وحشتي /طعمها مر ...!
هو
يدرك الغربة ،ولكنه يرى ان لامفرمنها ،فيلوذ بالحب عله يستر بعض هذا الهزال
النفسي المستوحش /اعتصمت مطالبا /يغير الجمهورية الى مملكة /ووزعت مناشير
الحب /في ساحات الاضراب العام /ياامامة العشق اكره الارهاب /لكن حبي لك
ثورة.