"وطن اسمه آفيفان" للشاعر
بدل رفو المزوري ..
تاريخ من الحنين وومضات من
الترحال معاً الى حد الوجع
فتح
الله حسيني
لا
تخلو مجموعة "وطن اسمه آفيفان" للشاعر الكردي العراقي المغترب بدل رفو
المزوري، الصادرة حديثاً عن دار "سندباد" للنشر والإعلام في العاصمة
المصرية القاهرة، لا تخلو من مفارقات الوجع والاستذكار معاً، ذلك الوجع
الذي يحمله الرحالة معهم، بهدوء، أبان أسفارهم الكثيرة والمثيرة بين مدن
اغترابهم وبين مدن يتوقون الى منعطفاتها وشاورعها وأزقتها، عنوة، وذلك
الاستذكار الذي يأتي حنيناً حنياً، كأنه الوحشة، ويظل التوق، أنيناً،
وحنيناً الى المدن ومسقط الرأس، حيث هو الوجع الأول، ربما، في الحب أو في
السجن أو في الهم الانساني.
بدل
رفو المزوري، كشاعر، في مجموعته الشعرية هذه، يظل مشتاقاً بكل قوته،
وتجواله، قوته الشاعرية وتجوال في الأمكنة، يظل حانّاً الى زفرات المكان،
وإن اجتاز حدود المكان، لا إرادياً، تظل عيناه البعيدتين، على الأصدقاء،
وهذا ربما ما حدا به الى أن يفرد في مجموعته، باباً بأكمله للأصدقاء، تحت
عنوان "قصائد مهداة الى أصدقاء الروح" هي روحه، وهم أصدقاءه، ولكن هي
النشوة في التذكار وفي الاغتراب معاً، حيث الوحشة والتأمل معاً، لأن
القصائد في ذلك الباب تأتي متتالية حسب الحميمية في بناء تلك الصداقات
سواءً من حيث المكان أو من حيث الزمان، فقصيدة "جلالستان" مهداة الى الشاعر
والمترجم جلال زنكابادي (أشهر مبدع مغمور في العراق) وهذا وصف أبدعه
زنكابادي لنفسه، منذ أكثر من عقدين، في ظل الفوضى العارمة التي اجتاحت
الساحة الثقافية في مرحلة ما في العراق، ثم تأتي قصيدة "تحية" وهي مهداة
الى ابراهيم اليوسف الشاعر الرائع، بحسب وصف رفو لصديقه الطيب الشاعر
الكردي السوري ابراهيم اليوسف، ومن ثم تأتي قصيدة تحت عنوان "ربيع الموصل"
التي يوقعها رفو لـ بولس آدم ابن مدينة الشاعر وصديقه الأديب، ثم تأتي
قصيدة "ضحكة الزمن الرمادي" المهداة الى صلاح برواري المترجم الكردي المقيم
في دمشق، والى قصيدة "أغنية الحرية" المهداة بحرارة الى الشاعر شريف آميدي
رفيق عمر الشاعر، ليختتم ذلك الباب الاستذكاري بقصيدة "رحلة عبر الأيام"
المهداة الى الشاعر صديق شرو، البعيد/ القريب"، وهنا تكمن بداية الوجع لا
آخره.
ولكن
تظل لـ"آفيفان" نكهتها الخاصة في الإهداء ولن تكون الأخيرة، لأنها "توأم
الروح" بالنسبة الى الشاعر بدل رفو، حيث ينزف رفو في ثنايا هذه القصيدة
شوقاً وألماً واغتراباً "شوق يراقص، شفاه المحيط الأطلسي، أداعب جدائلك،
ضفائرك يا آفيفان، بعشق وحنين غربين، وأمشطها، بأهداب ذكرياتي، وأنامل
أيامي النازفة، وهي تتبعثر في محطات الغربة الكئيبة، لا صخور تحطم الأمواج
العاتية عليها، حتى تستفيق أنشودة، الطفولة المريرة، وتلويحة وداع أخيرة"..
الشاعر الصديق بدل رفو المزوري على مدى ثمانية وثمانين صفحة، يحتفي
بالأسماء، ولا ينسى أن يتكوم، بكامل حواسه، حول تلك الأسماء بحنين قاتل،
ويبتسم للأقدار المتنوعة، كما يحزن لها في نفس الوقت، ويزغرد لمضامينها
وروحها وألقها، تماماً، كما يود أن يستفزها لينفر منها، وهو البعيد،
بالمقابل، هو شاعر يحبذ من خلال قصائده، هذه، أن يكون وفياً للآخر، سواءً
البعيد أو القريب، المنفي أو المستقر في موطنه، وسواءً أكان الحّانُ اليه
كردياً أو عربياً، من بيئته أو من بيئة أخرى بعيدة، التجأ اليها رفو
الشاعر، أو من حيث حب المكان من خلال صديق، أو حب الصديق عبر نكهة المكان،
كما حنيه الى مدينة "قامشلو" من خلال صديقه الشاعر ابراهيم اليوسف، أوحبه
لصديقه النمساوي آدفين ايسندلي من خلال المكان.
ان
استحضار بدل رفو لأسماء ومفردات معنية بالشئ، وخاصة في المبنى الشعري، مثل
"وطن منسي" كما في الإهداء، "آفيفان" كما في العنوان، "الموصل" وهو ربما
حنينه الأول بعد فترة اغتراب طويلة، "الشام" كما في اهداءه الموقع للصديق
صلاح برواري، "جبل متين"، "اليونان" من خلال شخصية زوربا، "كردستان" التي
تكون في القلب، حيث يوقع المزوري قصيدة تحت هذا العنوان، "شارع المتنبي" في
بغدا حيث استحضار مؤقت لقصائد الشاعر الروسي بوشكين، "النمسا" حيث اقامة
الشاعر في تلك الدولة منذ العام 1991، "غراتس" المدينة النمساوية التي يعيش
فيها الشاعر وكانت في العام 2003 عاصمة أوروبا الثقافية، هذه المفردات
بمجملها مراثي مؤقتة تعود بالنوستالجيا المباشرة على الشاعر وحده، كما في
ذات الوقت تليق بالشعر، إذا أخذنا بعين الاعتبار كل ذلك الترحال الذي لازم
روح وجسد هذا الشاعر المتنقل، من حيث الابداع في أركان المكان، لأن جل
القصائد كتبت في أماكنها ومواضعها الأصلية، كقصائد وهواجس موزعة على
الجغرافيا، بدءأ من البحر الأبيض المتوسط الى أروقة ومدن العراق المختلفة
الى المغرب والى أوروبا، لأن رفو يظل هاجسه الأوحد المكان حتى وإن كان
يخاطب روحه المتأملة، كشاعر مخاطب اليه، كما في قصيدته "حين تتسمم القصائد"
حيث يقول "على جسر، فوق نهر، ذي دفق عنيف، يتمشى شاعر، وفي مخيلته، تتراقص
مئات القصائد، فجأة، هوت إحدى قصائده في النهر، حينها، أجهش الشاعر
بالبكاء، ورآه المارة، يا له من شاعر مخلص، لأبياته التي غدت، زادا
للأسماك، وإذا بهذ الأسمالك، تطفو على سطح الماء، ميتة، تسممت من التهامها،
للقصيدة...."..
تحتفي
قصائد بدل رفو باللقطة، من حيث رسم الصورة بأقل كلمات، كما في قصيدته
"البكاء"، التي يقول في متنها "السماء تبكي، وأنا أبحث، عن منديل، يجفف
دموعها".
ولا
ينسى المزوري في مجموعته الجميلة "وطن اسمه آفيفان" الاعتماد بكليته
الشاعرة وروحه المهاجرة في المكان، على قصيدة طويلة، ونصوص غير مربكة، مثل
قصيدة الشاعر الجميل جلال زنكابادي الذي التقيته في آخر فعاليات منتدى
كلاويز الادبي في مدينة السليمانية، "لا وطن لك سوى آفيفان" التي تبدأ
بمقولة للشاعر المعري"لست أعمى لأبصر ما تبصرون"، ليردف زنكابادي "مهما
تقاذفتك المناسي والمنافي، وطرت وأبحرت وطويت الفيافي، من أمازيغستان حتى
كازاخستان، لا وطن لك سوى آفيفان".
في
هذه المجموعة، يظل الظفر للركن الأول، لأنها، بصريح العبارة، طاغية بلغة
الأوطان، والبحث عن الاستقرار في المكان بعد كل هذا التعب في اللامكان.