بعقوبة .. ما أبهاك أيام كنت
مدينة الفردقال!
أحمد
خالص الشعلان
(لا
أزعم أن هذه القراءة للقصيدة هي قراءة نقدية بقدر ما هي قراءة سيميائية لما
ورد في القصيدة من علامات حية وجامدة، خالدة وزائلة، وأود أن أضيف أيضا أن
لهذه القصيدة خصوصية فريدة قد لا يستمتع بسببها القارئ الذي لا يعرف بعقوبة
بالقدر ذاته للذي عاش فيها وعايش تلك العلامات. ومع ذلك، فثمة محاولة في
بنية القصيدة لخلق نوع من الإيقاع والانسجام، قد تكون جاءت عفوية، أقصد تلك
السيولة التي خلقت نفسها في تلك اللازمة "صباح الخير" التي تتكرر مع كل
بيت، وليس كما اعتدنا على لازمات القصائد التي تتكرر بعد كل مقطع او عدد من
الأبيات الدوارة. وبالتالي قد يكون في انخلاق هذه اللازمة ميل لا شعوري لدى
الشاعر للخروج بها من الخاص المغرق في خصوصيته الى العام الرحب).
إنها
قصيدة الزمان والمكان، قصيدة إبراهيم الخياط هذه المعنونة "صباح الخير...
بعقوبة"، تمر على الأماكن وعلى الأزمان عبر سرد الصباحات، نقرأ "صباح
الخير" في بيتها الأول، وتظل "صباح الخير" هذه تتكرر مع كل ثنية بيت فيها،
ومع كل انعطافة ذكرى، ومع كل التفاتة للشاعر في وجود بلدة بعقوبة القديمة.
وأعني بـ "القديمة" البلدة التي لم تكن استفحلت بها ثقافة الطوائف والدمار
وما خلفه من أسى.
في
تكرار"صباح الخير" الذي لا يبعث الملل يحتار المرء في حجم المسرة والحزن
الممتزجين فيها. وهل أشيع سرا إذا قلت أني بكيت مدينتي "بعقوبة" حين قرأت
هذه القصيدة، بل، وحين رأت زوجتي متفاجئة بدمعي الغزير ينهمر لا إراديا من
عيني، ناولتها القصيدة قبل أن تسأل، فراحت هي الأخرى دمعها ينهمر، مع أنها
لم تعش في "بعقوبة" معي سوى أشهر قليلة قبل أن يجلينا الإرهاب عنها. قد
يكون دمعها انهمر تأثرا بحكاياتي لها عن بعقوبة الجميلة أيام زمان، تلك
البلدة التي ما أكثر ما أهرب الى ذكرى طفولتي فيها، أو قد تكون هربت معي لا
شعوريا الى الأيام الأولى لقصة حبنا التي غرفنا بها السعادة والحبور أشهرا
في شقتي المتواضعة.
وهكذا يروح ينبعث، مع كل تكرار لـ "صباح الخير" في القصيدة، شيء ما من بين
السطور، فتهب له الروح، وترف له العين، وتخفق في الحنايا مشاعر شتى، بمزيج
من الحنين والأسى!.
ففي
سرد الأماكن التي تمر عليها أبيات القصيدة تشخص لحاسة القارئ العارف
ببعقوبة فورا جغرافية المدينة وتاريخ البلدة القديمة حين لم تكن قد نمت بعد
لها أطراف وأحياء جديدة وزوائد سرطانية موبوءة بالعربان المتعطشين للدم!.
تمر القصيدة أول ما تمر على "الشاخة"، مَعلمها البارز الخالد، التي يا ما
سبحنا ونحن صغار بمائها الذي تمتلئ به جنباتها، في حقبة شهدت فيها "الشاخة"
تلك المظاهرات الصاخبة في عهد الملكية، ولا أحد يدري من أين أتى اسم
"الشاخة" لذاك النهير الذي يشق بلدة بعقوبة القديمة فيفلعها الى نصفين
"التكية" و"السراي".
"الشاخة" كان اسمها "خريسان"، فرأى (صدام) الاسم فارسيا، فاستبدله بـ
"سارية" أحد أولئك العربان الغزاة! وذات أماس كنا نجلس فيها خلال ستينيات
القرن العشرين على كنبات خشبية تصطف على طولها، في مقاهٍ تظللها أشجار
عملاقة، فيروح ماؤها المنساب بهدوء ينقل ضجيج نقاشاتنا في الأدب والثقافة
والسياسة ـ ونحن شباب ـ الى أبعد نقطة يصلها ماؤها من الريف، يتوسطنا آنذاك
ذاك المثقف الجليل الدمث الخلق "حسين الجليلي". ولا يكاد المرء ينسى في
الماضي القريب الرفقة العلمانية، وأنا منهم، لـ "الملا عدنان" هذا الصوفي
المتأثر بجلال الحنفي، يجلسنا على جرف "الشاخة " نتشمّس ونتبادل الطـُرف.
وقد لا ينسى ماء "الشاخة"، المنساب شاهدا، طرفة "الملا" تلك، حين انطلق صوت
المؤذن يرفع الأذان، فقال لنا: "أسألكم بربكم، لو لم تكونوا مسلمين، وسمعتم
مؤذنا له صوت قبيح مثل هذا الذي يرفع الأذان، ويدعوكم للدخول في الإسلام،
فهل تدخلون؟ أين نحن منك يا بلال يا حبشي؟! ".. وسرعان ما فارقنا "الملا
عدنان"، دون وداع، مع رعيل الشهداء الذين اختطفتهم قوى الظلام والظلمة في
زمن الطوائف غير النبيلة هذا!.
وتمر
"صباح الخير" على شارع "الأطِبه"، شارع العيد اليومي لأهل بعقوبة، يكتظ
بالنساء والشابات في العصاري والأمسيات، ويزيده اكتظاظا طوفان الشباب
وراءهن تلبية لنداء الحب، هذا الشارع كان يعج بكل ما هو متحضر أيام زمان،
أيام جمال البلدة، مهرجان الأجساد الجميلة، إناثا وذكورا، مسرّة سرمدية
للعين، وأجمل ما فيه أنه كان يوما ما مكانا لأول مقر علني للحزب الشيوعي في
البلدة العتيقة أيام السبعينيات!.
وتمر
على "المساطر المكتظة" وهي الأماكن التي يتجمع فيها عمال البناء "مشيدو
المدائن" طلبا للرزق، ليس بعيدا عن شارع "الاطبه" في "العنافصة"! وتمر على
"العنافصة" التي اعتدنا أن نشتري منها صباح كل يوم ذاك "الكيمر" اللذيذ،
الذي يُشبّه به ناظم الغزالي خدّ الحبيبة قائلا لها "خدج الكيمر أنه أتريك
منه"، نشتريه من معيديات، موردات الخدود، باسمات الوجوه، وكريمات.
وكان
يشاع عن "العنافصة" ان أسمها جاء بسبب نسائها "المتعنفصات" على أزواجهن في
أيام البلدة القديمة، وبسبب خفتهن وجرأتهن وجسارتهن في الرد على الرجال.
فهل ما زالت نساؤها كذلك في عصر "العنافصة" الجديد، الذي أجبرت فيه النساء
على لبس الحجاب والنقاب؟! ومع ذلك فـ "العنافصة" هي التي رأت انفجار أول
عبوة شر ناسفة للخير، وسقطت عليها أول قذيفة هاون لئيمة راح ضحيتها شبان
ثكلت بهم أمهاتهم وزوجاتهم.
وتمر
على "السوق" الضاج بالباعة في دكاكينهم وعلى عربات الباعة، وعليهم وهم على
الأرصفة، فبين ثنايا "صباح الخير" نسمع هنا صوت "الحاج حُبيني" ما يزال
يتردد في أحلامنا ينادي على الشارين لحلاوته الشكرية والرملية: "حلاوة
شكرية برم بم برم! حلاوة رملية بم برم بم!". ويحصل بعد رحيل الحاج حبيني أن
يُختطف ابن ابنه محمود البايسكلجي على يد الإرهاب.
بل
ونسمع هناك من الماضي صوت "حمدان الجربة" الصبي، يساعد أباه البقال فينادي:
"طماطة حمرة دم، وينهن عيني، أمهات المعجون، طماطة حمرة!" ويحصل فيما بعد
أن تصير "الطماطة الحمرة" على يد الإرهاب "تابو" هي والخيار والثلج، لأن
النبي لم يأكل منها في زمانه!.
وها
هنا تمر القصيدة على تلك "المنارة الشاهدة" التي ظلت تطلّ لليال طويلة
طواها النسيان من عليائها صيفا على مئات الأزواج يمارسون الحب مع زوجاتهم
نياما على سطوح المنازل، وعلى عشرات قصص الحب التي تنسج ليلا عبر الحيطان
على تلك السطوح بين شباب وشابات الجيرة، تلك "المنارة الشاهدة" التي لم تش
يوما بمن رأت وما رأت! وحافظت على الحرمات. ولهذه المنارة قصة مع "شعلان
الجربة" هذا السني البدوي الآتي من ربيعة الموصل بدايات القرن العشرين
ليكون شرطيا في دولة العراق الحديثة، ويتزوج من تميمية شيعية من المقدادية
فيتشيّع معها، ويرحل بعد ثلاثين عاما الى بعقوبة ليشتغل بقالا، وحين أريد
تجديد بناء حسينية بعقوبة بداية ستينيات القرن العشرين، وهنا يصبح "شعلان
الجربة" شيعيا أكثر من الشيعة أنفسهم، فيروح ليتبرع لبناء الحسينية بمبلغ
جمعته زوجته ليشتروا به بيتا للأسرة، فجزعت الزوجة مما عمل! وكانت مكافأته
على ذلك هو حصوله على دكان في أسفل المنارة مباشرة وبجانبه قصاب هو"حسن
جنكال" الذي اعتاد على شرب الخمرة في الدكان عند العشاء، فيداهمه مرة الحاج
إبراهيم عيدان ملتزم الحسينية وهو يعبّ عرقا في ثنية الدكان قائلا له: "ولك
انته متخاف لتوكع هذي المنارة على راسك وانته تشرب عرك؟! "، فيرد حسن جنكال
يومها عليه قائلا "شنو هلحجي حجي؟ منارة حطيتو بيهه خمسة وعشرين ألف طابوكة
يوكعها ربع عرك؟! هاي شلون منارة لعد؟!"، فما كان من الملتزم الا ان يخرج
ليطلق ضحكته المكتومة خارج الدكان!
كان
ذاك زمن التسامح، الزمن الذي كانت فيه تلك "المنارة الشاهدة" تنقل صباحا
ذاك الصوت الرخيم للسيد عبد الكريم المدني يرفع آذان الفجر، ولشدة عذوبته
كنت أنا قد آمنت يومها، إيمانا لا يخلو من مفارقة، أن "رامسكي كورساكوف"
مؤلف سيمفونية شهرزاد لا بد ان يكون قد سمع صوت السيد عبد الكريم المدني
فألفّ موسيقاه الخالدة تلك، و"المنارة" شاهدة أيضا على ذاك النمام للسيد
المدني عن "علي الكبابجي" مقابل باب الحسينية متهما الرجل بالمروق الديني،
مطالبا السيد بتحريم الأكل عنده، فأبى السيد.
كان
ذاك عصر التسامح! وهي "الشاهدة" أيضا على ذاك الذي طلب من السيد المدني ان
يصدر فتوى ضد الزعيم عبد الكريم قاسم، فأبى السيد! كان ذاك عصر الدين للدين
والسياسة للسياسة! وما أروعها هذه "المنارة الشاهدة" يوم اتفقت أنا مع
"فاضل غلام" ابن خادم الحسينية على ارتقائها لرؤية عالم البلدة من عليائها.
وكانت ليلة نمنا فيها في تابوت في مخزن الحسينية نمزح مع الموت ونسخر منه
برعونة الصبيان، وصعدنا على درجها الملتوي الضيق.
فيا
لك من بلدة وادعة، كنت مثل حمل للناظر إليك من فوق يا سفح الفردقال! وهذه
"المنارة الشاهدة" شهدتنا لأيام وليالٍ نقرأ بكتب من على رفوف مكتبة
الحسينية، قرأنا آنذاك:
"سئل
علي ابن أبي طالب مرة عن أقوى شئ في الوجود، فقال هي الجبال الشم الرواسي،
غير أن الحديد يفل الصخر، إذن فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، إذن النار
أقوى، بيد ان الماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والريح تحمل الماء إذن الريح
أقوى، والريح يتحكم بها الإنسان، فالإنسان أقوى، بيد ان الخمرة تأخذ عقل
الإنسان فالخمر أقوى، والنوم يذهب مفعول الخمر، فالنوم أقوى، بيد ان الهمّ
يذهب النوم، ولا شئ يفل الهمّ، فالهم أقوى شئ في الوجود! "
فكيف
يا ترى يعالج الهمّ، وقد تحولت هذه "المنارة الشاهدة" الى "منارة شهيدة"
وحيدة في برية الخرائب على يد مغول القاعدة، ولكن على ديدن الشهداء، دون
ريب، رافعة رأسها وشاخصة في السماء! وصدق القائل "أصلها في الأرض وفرعها في
السماء!".
وتمرّ
القصيدة على "دارة السيد عبد الكريم" نفسه موئل الرحمة والنصيحة السديدة
والخلق الكريم! وتمرّ على مرقى "أبو ناظم" الذي يظل يقظا حتى يفارق مرقاه
آخر مثقف مخمور في البلدة! وعلى "السراي" مقر حكومة البلدة قديما، وموئل
الأدباء لاحقا، وعلى مرقد "الشريف المرتضى" الساكن مرقده على ضفة نهر ديالى
بما تطويه أرضه من بشر رحلوا "شهداء وقتلى" كل على طريقته! وتمرّ على السجن
الذي كان يصدح فيه كل صباح ذات زمان صوت السجناء ينشدون: "سنمضي سنمضي الى
ما نريد.. وطن حر وشعب سعيد!"، فيجتاح صباحات البلدة، ويغمرها بالنور
والأمل بعد ان يحممها بأثير شفاف زلال آذان السيد عبد الكريم المدني فجرا.
يا
للأبهة! نور على نور! وتمر على "المحطة" التي كان يمر بها قطار الفجر ينقل
زوار "أبو الجوادين"، ويمر بها "قطار الساعة السابعة"، مساء يعود بالآتين
للبلدة، صباحا من بغداد القريبة زوارا.
وتـُصبّح القصيدة على "مشكاة" مؤيد سامي، ذاك الكتبي النبيل الذي ما كفّ في
زمن الدكتاتورية عن تزويدنا بالثقافة المحرمة عند السلطة، وبعد السقوط سقط
شهيدا بامتياز، وكان أول شهيد يسقط في بهرز المنكوبة التي كانت يوما "بهرز
ذات العماد"!
وما
نسيت القصيدة محلة "أم النوى"، وما فيها من حكايات وصراعات قديمة، حيث سقط
فيها بعد السقوط أول شهيد، وكان "نجاح أبو ولاء" شهيدا شيوعيا بامتياز!
ويمر قطار الشاعر على "شفته"، تلك الضيعة المستلقية على نهر ديالى،
المشهورة بأهلها الطيبين، زرق العيون وخضرها وشقر الوجوه، موطن ذاك المناضل
الكريم "كريم محمود" الذي اختطفته طغمة الدكتاتورية يوما، وظلت زوجته وأمه
الكريمة التي نسميها "عمة نعيمة" بانتظاره الى يوم لا قرار له، تريان روحه
ترفرف فوق المكان، تترقبان عودة الغائب الذي لا يعود!، وفي مقاهيها يجلس
"أبو أسد" ذاك الكومساري العصامي، راكب الدراجة الهوائية الأبدي، يتحدث
لعاشور وأبو عباس وعطا وحيدر و... و...! هذه الضيعة هي شيعية حقا بامتياز،
وهي من تربى أهلها على ذاك القبس الذي يقول "من لم يكن أخاك في الدين فهو
نظيرك في الخلق"، وبهدي ذاك القبس أبت ان تنزل الى هاوية الطائفية الشيعية،
حين أرادت فئة لها أن تتردى في تلك الهاوية، ومع ذلك لم تسلم "شفتة" من غدر
الإرهاب ودفعت صفا من الشهداء يصلون في مسجدها!
هذا
عن الأماكن! أما عن الأزمان، فتمر هذه القصيدة/ السجل على "الصبح" بل على
الأصباح التي كان فيها "غلوبي أبو المعلاك" يشوي فشافيشه، فيتضمخ برائحتها
السوق قبل أن يتنفس اليوم نوره! وتمر على "الأسرار النائمة" زمنا، بل
أزمانا، في منعطفات البلدة حبا ومكائد وانحسارات وفيوض مشاعر حبيسة!.
وتمر
على "الجنة والجحيم" وما بينهما من خيط رفيع ينقلب فيه الزمن رخوا، فلا
يدري المرء أهو في رضى أم في هوى!، وتمر على زمن الصيف، ووقت الخريف، يأتي
بعده بـعطر "الشبوي" الحاد، تغمر أنفاسه شوارع البلدة القديمة من البساتين
المحيطة بها، ومن دور أكابرها، قبل أن تغرق البلدة بآسن القتل والدم!.
وتعرج الصباحات على "ما تحلم به العدسات والمآقي" من ولائم الرؤيا يخلقها
سراب الوهم بـ "أقمار مخبوءة في عباءات" تحرض الأحاسيس! وعلى "النخل
المثقف" الذي يلهث الآن عطشا مهما امتدت به الجذور! وعلى "قنطرة الغائبين"
مقابل مقهى "مجيد محسن" العتيقة الجديدة، تستحضر قوام كل من غاب عنا في ليل
بهيم أو ليل يملؤه نور الشمس! وعلى "الكورنيش" الممتد على "الشاخة"، الذي
شهد مئات، بل آلاف حلبات النقاشات المحتدمة في السياسة، والهامسة في الحب!
وعلى "المقر" الصامد لحزب يطل من علياء مقامه يضج بالوعي الحزين الحريف!.
وعن
الأرواح... تخطر "صباح الخير" الذكرى في قصيدة تلملم ثنياتها من وجود يشخص
ببحران لحظاته في ذاكرة البلدة، لأناس رحلوا ولأنبياء قادمين، كانوا
وسيكونون علامات فارقة في تاريخ البلدة، حيوات كانت تضخ في شرايين البلدة
سماتها، حيوات كانت لها هوية، أناس صنعوا للبلدة نسيجها في الزمان! فتمر
"صباح الخير" أول ما تمر من تلك الحيوات على "الملاية مائدة"، تلك المرأة
الفريدة من نوعها، تطهر نفوس المثاكيل هنا، وتروح هناك لتشيع دفء الفرح
بأناشيد متعة حريفة ومدهشة، يا لها من جدلية هذه التي تحييها هذه "الملاية"
الرحالة في البلدة طولا وعرضا، لهوا وعيشا!.
وتذكرنا القصيدة بـ "ماهي" العربنجي، والد الفنان التشكيلي الفكه المحبوب
"وحيد ماهي"، و"ماهي"، مع انه عربنجي، الا أنه كان سيمياء ثقافية قائمة
بذاتها في البلدة قبل أكثر من نصف قرن، يطوف كل يوم أزقة البلدة بإعلان
كبير عما تعرضه دار السينما في البلدة، يقلد الممثل بطل الفلم أيا كان،
وتكون مكافأته أول المساء تذاكر لدخول العرض في الموقع الثاني هو وزوجته
"صديقة" تلك الشقراء الطيبة القصيرة القامة، البسيطة والعفوية الحديث،
وكانت مقاعد غير قليلة في الموقع الأول تحتلها نساء كثيرات في ذاك الزمان،
يا للمفارقة! بلدة صغيرة كان فيها قبل ستين عاما دارين للعرض ونساء يذهبن
مع أسرهن الى دار السينما!.
وتصبح القصيدة على "علي المحروك" القائد الشيوعي، ابن البلدة الأثير، الذي
لا ندري ماذا سقاه أزلام الدكتاتور في السبعينات فسبب عنده لوثة، يا
للخسارة! كم ستبلغ خسائرنا بعد؟! وعلى رأي القائل: "أين نختبئ من
أعدائنا؟!".
وتذكرّنا "صباح الخير" بـ "فوزية" المتعنفصة، المكنية بـاسم الدربونة التي
تسكن فيها "أم الدجاج"، وحكايتها مع المحافظ، بل حكاياتها التي لا تحصى،
التي لا تخرج عن حدود "التعنفص"!.
وتذكرنا "صباح الخير" بالشهيد "ياسين دقيقة" ذاك المثقف البسيط، الضئيل
الجسم، الذي راح ضحية بساطته وطيبته وهو يسير معتمرا بيريته على جرف
"الشاخة"، وكان قد أمن للوحوش وهو يتهادى في مشيته، ناسيا المثل السائر "كل
مأمن خسران"!
وآخر
زمن تمر عليه "صباح الخير" هو زمن "الرحيق المختوم" وهو زمن آت، زمن ما
يزال في طي الأزمان المقبلات، زمن لم تـُفض بكارته بعد، ومن ذا يا ترى
سيفضّ تلك البكارة؟!.. "رحيق مختوم" ظل يرافقنا في كل الأزمان، ومنها زمن
خـُيـّر فيه، من أجل أجمل ما فيه، يوما ما ذاك "المعلم الجميل" الشاعر خليل
المعاضيدي، بين موت في الوطن في عز النهار، وموت آخر في الوطن في قلب الليل
والسجن الرهيب، فاختار النوع الثاني لكي يهب فيه الفرصة، بعد ثلاثين عاما،
لشاعر من نوع "إبراهيم الخياط" كي يحدثنا عن "رحيق مختوم" بكر في زمن آت!.
فهل
سنظل نحن ندور في دوامة "الرحيق المختوم" طول الدهر، يذكرنا به مرة أخرى،
بل مرات، في أزمان قادمات شعراء غير إبراهيم الخياط؟!، أو لأضعها بعبارة
أخرى، هل تركنا زمننا السعيد وراءنا، أم انه أمامنا، ونسعى اليه، محكوم
علينا مثل سيزيف نرتقي الى "الرحيق المختوم"، وما نكاد نصل اليه حتى نتدحرج
منكفئين الى السفح ويظل هو"مختوما"؟!.
لقد
حاول الشاعر ان يخلق على طول القصيدة معادلات نفسية وموضوعية للقارئ،
بتكراره لعبارة "صباح الخير"، ربما لكي يعوّضنا لا شعوريا عن كل تلك
الخسارات التي مرت عليها القصيدة، فهل نجح في ذلك؟! لا أدري، مع ان القصيدة
هزتني رغم بساطتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفردقال: البرتقال بلهجة ضواحي مدينة بعقوبة.
صباح
الخير ... بعقوبة
شعر:
إبراهيم الخياط
صباح
الخير على الشاخة
على
الصبح ِ
على
الأحبة
على
شارع "الأطِبهْ "
على
المساطر المكتظة
بالفجر
والعمال والعبوات
على
"العَنافِصَةِ" الناطرة
على
المُلايةِ "مائدة"
على
"ماهي"
على
المقاهي
على
السوقِ ما شاء الله
على
المنارة الشاهدة
على
المنارة الشهيدة
على
أسرارنا النائمة
على
مرقى "أبو ناظم" اليقظان
على
الجيران
على
العميد البلديّ
على
"السراي" العظيم
على
دارة السيد عبد الكريم
على
"المحروك" الذي لا يرحلُ
ولا
يُقيم
على
"الشريف" وما طوى
على
الجنة والجحيم
على
السجن والحمامة
على
المحافظ و"فوزية"
على
الشهداء والقتلى
على
المحطة والمسفـّرين
على
قطار الساعة السابعة
على
"السفينة" الموّارة
على
الشبوي
على
مشكاة "مؤيد سامي"
على
"ياسين" الدقيقة والحقيقة
والرؤى
عليكِ
يا "أم النـّوى"
على
جرف الملح ِ، وجرف الحلـّوِ،
وجرف
الهوى
على
القلقِ الشـمسـيّ
عند
الفوتو "حسن"
على
بنات الحسن
على
البنات
على
"شفتة" العيون التي
تحلـَمُ
بها العدسات
على
الأقمار المخبوءة في العباءات
على
النخل المثقف والنبق ِ
والفـَردقال
على
قنطرة الغائبين
على
الحالمين
علينا
على
الكورنيش الذي عاد إلينا
على
"المقر" العالي
على
الليالي
على
الرحيق المختوم
وعلى
المعلم الجميل
خليل؛
صباح
الخير... صباح الخير...