الرؤيا والإبداع في شعر يحيى
السماوي
إنصاف الحسني
من خلال استقرائنا
التجربة الشعرية لدى السماوي، ووقوفنا عند شواطئ قوافيه، وتسليطنا الأضواء
على أهمّ جوانب وجماليات الإبداع في شعره انتهينا إلى النتائج التالية :
1 ـ تميزت قصائد السماوي
بأنها قصائد مركبة، أي أنها تحتوي على أكثر من غرض في وقت كانت القصيدة فيه
ذات بعد ٍ شعريّ ٍ واحد، ولا يخفى أنّ تنوّع الموضوعات داخل القصيدة يفتح
أمام الشاعر ـ والقارئ ـ عوالم شعرية ممتدة، فغزل السماوي مثلا كان غزلا ً
رائعا ً يضمّ لوعة الفراق والنفي وشكوى الحال والزمان، وقصائده الدينية
ماكانت إلآ مفارقة تصويرية بين الماضي والحاضر، ووطنياته تشكّلت لنا بأكثر
من شكل وما كانت معالجته لمشكلات المجتمع إلآ متنفسا ً لما في وجدانه
العميق من مشاعر غائمة .
2 ـ كان السماوي شاعرا ً
وطنيا ً من الطراز الأول، وحتى مع تنوّع رؤاه الشعرية فإنها تدور حول نقطة
واحدة هي الوطن، هو يحبه ويتغزّل فيه ويحنّ إليه ويشخّص أدواءه، ويقترح
علاجات لها، ويستعرض مزاياه ويهاجم أعداءه، ويبكي ماضيه وحاضره ويأمل في
مستقبله، وقد استطاع الشاعر بجدارة أن يحوّل حرقته وألمه إلى فنّ ٍ موظَّف
في السياسة فاستغلّ واقعه وواقع شعبه المحاصر لإدانة النظام الحاكم بوجهه
السياسي .
3 ـ أصبحت الغربة في
المنفى امتداداً للغربة في الوطن، وتحولت إلى ساحة من الصراع بين الذاكرة
والواقع، لأن الهجرة من الوطن وحلم العودة إليه سهمٌ يتحرك في اتجاهين
معكوسين ولكن من منطلق واحد هو الوطن، ونحو هدف واحد هو التماهي فيه، ذلك
أنّ الغربة عن الأرض سبيل إلى الإنتماء على الصعيد النفسي والإجتماعي، حتى
ليبدو الوطن في صورة النهر والنخل والقرية والمدينة، وهي رموز معادلة للوطن
الكبير، ورغبة عارمة للرجوع إليه والإلتصاق به .
4 ـ اتخذت السماوة عند
يحيى السماوي شكل الحلم أو الرمز، فالمدينة عنده ليست نقلا ً لرؤىً
اجتماعية وتفاصيل يومية، بل هي ارتفاع إلى مستوى الرمز الذي يمنح القصيدة
نبرة وجدانية خاصة، فهي غالبا تحفر بجذورها عميقا ً في وعي الشاعر السياسي
وضميره الإجتماعي والأخلاقي، وتشكّل حلما ً لصيقا ً به وماضيا ً ليس أحلى
منه .
5 ـ كانت اللغة الشعرية
التي استخدمها يحيى السماوي مألوفة مأنوسة، ولكن نتيجة تملّك التجربة
الشعرية لأحاسيسه وصدوره عنها كانت على قدر كبير من الثراء والإيحاء، الأمر
الذي جعله يسيطر على كلماته وتراكيبه، فيسخّرها لتصوير عواطفه وخواطره
تصويرا ً مُركّزا ً يترجم مكنوناته وعوالمه الداخلية والخارجية على السواء
.
6 ـ تكملة للنتيجة
السابقة أقول : كان المعجم الشعري عند السماوي يرتفد من ثلاثة مصادر بارزة
هي : المصدر الديني، والمصدر الشعبي، والمصدر الأدبي، مما أضفى على شعره
رصانة وفخامة وخصوصية شعرية تكمن في عمق الإندماج في الدين والتراث والوطن
والفخر بذلك .
7 ـ كان التكرار عند
السماوي مثيرا ً للإنتباه، وداعيا ً للإهتمام بالشيء المكرر، ومن ثم فقد
حقق تفاعلا ً عاطفيا ً وشعوريا ً وإيقاعيا ً مع المتلقي بكافة أشكاله سواء
كان تكرار كلمة، أو مقطع أو تقسيم، أو كان تكرارا ً شعوريا، أو موتيفا،
وأيا ً كانت صور هذا التكرار فإنه سلّط الضوء على بعض الجوانب اللاشعورية
في نفس الشاعر، والتي تلحّ عليه كأنه لايودّ مجاوزة العبارة المكررة إلى
غيرها .
8 ـ اعتمدت تقنية التناص
عند السماوي على محاولة التماهي والتفاعل وتشارب النصوص، بل محاولة تذويب
الحدود الفاصلة بينهما، حيث أنّ هذه النصوص موظفة ومذابة في النص الشعري
عنده باعتباره عملا ً فنيا ً يجسّد لحظة فردية خاصة وهي في أوج توترها
وغناها، وهذه اللحظة تتصل على الرغم من تفرّدها بتيار من اللحظات الفردية
الأخرى .
9 ـ كشفت الدراسة عن أنّ
المفارقة لم تكن عند السماوي سمة ً أسلوبية أو مهارة لغوية فحسب، بل كانت
وعيا ً عميقا ً بالواقع والذات والآخر، تنكشف من خلالها تناقضات حادّة،
فيبدو الواقع من خلالها ناتئا ً حادّا ً بصورة تبعث على الرعب والمفاجأة،
واتضح كذلك أنّ المفارقة التصويرية كانت خيطا ً رفيعا ً تسرّب بدقة ٍ
ومهارة داخل نسيج سائر الشواهد التي عزفت على أوتار المفارقة، وكان الهدف
منها تشخيص الأدواء المعاصرة، وفتح عيون الجماهير على بؤر العفن والفساد .
10 ـ تعددت الأنماط
التصويرية في قصيدة يحيى السماوي، فكان منها التشخيص الذي يقوم على أساس
تشخيص المعاني المجردة، ومظاهر الطبيعة الخارجية، في صور كائنات حية .
والتجسيد الذي يُكسِب المعنويات صفات محسوسة مجسّدة . والتصوير البياني
المتكئ على التشبيه والإستعارة والمجاز والكناية . والتصوير النامي الدرامي
الذي يحفل بالحدث والحوار والصراع وتعدد الشخوص .
11 ـ إلتفت السماوي إلى
تقنية القناع في الشعر العربي، فاستخدمها ليعبّر عن آرائه السياسية
والإجتماعية، ولكنها لم تحتل مساحة كبيرة في دواوينه بل أطلّت على استحياء
في بعض قصائده، لأنه شاعر رسالي من الطراز الأول، ولأن شعره يكاد يكون
مسموعا ً لا مقروءا ً .
12 ـ اختيار السماوي
للأسلوب الدرامي كانت محاولة منه لاستكناه هذا العالم المصطرع بشتى ألوان
الصراع وتصويره تصويرا ً حيّا ً مؤثرا، ولكنه لم يرتق ِ إلى مستوى البنية
الدرامية الكاملة، لأن صوته كان موجّها ً إلى عامة الشعب، ومثل هذا الشعر
يبتعد نوعا ً ما عن الدرامية، ولأنه كان شاعرا ً كلاسيكيا ً مجددا، أي أنه
ظلّ أسير تراثه القديم، ولم يكن من السهل أن يتحرر من الغنائية إلى
الدرامية .
31 ـ فيما يتصل بالعنصر
الإيقاعي في القصيدة وجدنا السماوي قد أجاد الكتابة في الشكلين المعاصرين
للقصيدة العربية وهما : الشكل التقليدي " الخليلي " والشكل التفعيلي، كما
أنه نظم موشحا ً ومزج بين الشكلين " التراثي والتفعيلي " مما أضفى على
قصيدته نغما ً موسيقيا ً رائعا ً .
**
* نص الكلمة التي اختتمت
بها السيدة "إنصاف فيصل الحسني" رسالتها لنيل درجة الماجستير في الأدب
والنقد والمقدمة إلى قسم اللغة العربية / جامعة أم القرى والمعنونة "شعر
يحيى السماوي بين الرؤيا والإبداع" وقد نالت عنها درجة الماجستير بتقدير
امتياز .