دراسات نقدية

 

العشق على الطريقة النمساوية .. سوناتات جميلة، هوية روح شعب وعصارة ابداع

قراءة للمجموعة قصائد حب نمساوية (للأرض والإنسان) ترجمة وإعداد الشاعر بدل رفو مزوري

 

قراءة:د. توفيق آلتونجي

السويد 

يا رب

امنحني القوة

لحب البشر

كحب الأرض والماء

والأعشاب والشجر

 Johanna Jonas-Lichtenwallner

كان أستاذي في اللغة الألمانية قبل ثلاث عقود خلت " مايرهوفر" في جامعة كراتس النمساوية يصر على استماعنا وباستمرار الى اللغة الألمانية قائلا بان اللغة الألمانية لغة استماع و يجب الاستماع إليها كي نحسن تعلمها ونطق كلماتها. بينما كان أستاذ القواعد "شبرينكر" يؤكد مدى أهمية نطق الكلمات بصورة صحيحة مقلدا لأصوات حتى الحيوانات. استمر كل من الأساتذة السيدة هنرييتا والأستاذ ناكل شميت على ذلك النهج حيث حذوا حذو ذلك الأستاذ الجليل. علما بان لهجات الألمانية كثيرة جدا ومتباينة بصورة جذرية. لكن تبقى اللغة الألمانية الفصحى تستخدم في جميع الدول الناطقة بالألمانية ويتم التفاهم والتواصل بطريقها وهي اللغة الرسمية المستخدمة في وسائل الإعلام والتعليم والمرافق الرسمية بينما تبقى اللهجات محافظة على نظارتها باختلاف المناطق الجغرافية.

مقاطعة "شتايرمارك" احد مقاطعات النمسا ،هنا يتكلم أبناء المقاطعة بلهجة خاصة بهم تسمى شتايرش" وهي لهجة سلسة وصعبة في نفس الوقت تعتمد على الدمج بين الكلمات وإسقاط الألفاظ وعدم نطق العديد من الحروف مع استخدام كلمات  محليه خاصة بالمنطقة التي تعتبر إحدى أجمل المناطق الجغرافية في جمهورية النمسا الثانية. تلك المقاطعة منطقة خضراء مليئة بالمعالم التاريخية وملتقى للأقوام والعقائد جل شعراء المجموعة هم من ابناء هذه المقاطعة.

"ليبه" أي الحب باللغة الألمانية احد أجمل الكلمات في لغة خشنة في أصوات كلماتها وهذا ما حذا ان يعتبرها نابليون بونابارت لغة الحديث مع الخيول حسب الرواية المتداولة بين العامة. لكن هذه اللغة العريقة التي تنحدر من شجرة اللغات الهندو اوربية وفرعها اللغات الجرمانية كتب بها الشعر والأدب وقدم للبشرية قافلة من الأدباء وأطنان من الكتابات الإبداعية الخالدة.

الترجمة بحد ذاتها فن لا يجيده الكثيرون واني لاعترف باني ألاقي الكثير من الصعوبات عند ترجمتي للنصوص الشعرية في جل اللغات التسع التي أجيدها. لكن الشعر المترجم الذي نحن يصدده رغم كونه مترجم من اللغة الألمانية يأخذنا الى عالم المحبة والعشق بالطريقة الشرقية التي برع في استخدام مفرداتها الشاعر بدل رفو في ترجمته للنصوص الشعرية. النصوص لشاعرات و لشعراء معاصرون وجلهم من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. يتغنون بمحبوبتهم وطنهم:

 كون كالوطن

 اه لو كانت روحي لك

كوطن

دار بحيطان بيضاء متينة

تشرب الورد عليها

من نور الشمس

نار في الموقد

حية، دافئة ونيرة

طريق الى مروج واسعة

طريق الى عظمة الله

غير محدودة

Wiltraud Kainz 

الوطن .. معشوقة بني البشر الأبدية الأزلية خالدة كخلود الرحمن وهي تجعل الروح الإنسانية تدنوا الى أللانهائية في سديم هذا العالم. محبة الثرى تخلد دوما فهي ألأم الحنونة المعطاة رغم جحود الإنسان وجبروته.ولهذا قال المترجم في كلمة الاهداء:

ومن الحب لنا وطن في العمر الثاني

فكل كلمة حب نمساوية

تتفتح في القلب جرحا اسمه :الوطن ...

 هذا ما نكتشفه عند دنونا الى نهاية الكتاب ففيه اكبر عدد من القصائد التي تتغنى بالمحبوبة "الوطن".  ان جمهورية النمسا كانت ولا تزال القلب النابض لأوربا رغم ان بريق فينا كعاصمة للعالم منذ ايام امبراطورية النمسا والهرسك قد هفت كثيرا امام تطور المدن الاخرى في العالم ولكن هناك دوما نداءا عجيبا طلسميا يأخذ بالألباب ونحن نتجول في أزقتها وحاراتها وقصورها. هذا بالطبع ينطبق على معظم المدن النمساوية مثل : سالسبورغ وكيرنتن وكراتس واينسبورك والمدن البديعة الاخرى. لذا نرى ان حب المكان "الوطن" يستحوذ على مكانة خاصة في الأدب النمساوي.

يخيل للمرء ان الشوق الى الوطن جعل من شاعرنا ان يترجم كل ما أنتجته القريحة النمساوية من إبداع شعري عن الوطن. ربما دون ان يعي الى ذلك فاختيار الشاعر للشعراء ولشعرهم يعني الكثير. الاختيار بعين ذاته يعكس افكار الكاتب من ناحية ومن ناحية اخرى يعكس تذوقه الأدبي والجمالي بالإضافة الى الشاعرية المرهفة في نفسه. هنا اود تقديم الشكر للشاعر المترجم بدل رفو في حسن اختياره لجملة من الشعراء والشاعرات النمساويات المعاصرات. فقد قدم لنا نماذج شعرية رائعة اعيد كتابة العديد من المقاطع التي اخترتها في كتابتي هذه لأعرف القارئ الكريم على بعض تلك النماذج التي تستحق القراءة التأملية. فلم يغيب عن الشاعر المترجم ان يقدم نبذه عن حياة هؤلاء المبدعين كذلك.

  قبل ما يقارب ثلاث عقود من الزمان وفي يوم آياري من خريف عام 1981 كنت جالسا على إحدى المقاعد في احد المنتزهات في فينا وحيدا كئيبا من الأخبار الواردة من وطني "العراق" وغرقا في همومي الشخصية. جلس بقربي شيخا مسنا وبقى صامتا بعض الوقت ثم رفع رأسه ونظر الي بإمعان وكأنه يعرفني وتساءل:

من أين أنت يا غريب؟

فأجبته: من العراق، سيدي

واردف قائلاً: الآن افهم سبب كل هذا الحزن في وجهك.

ثم بدا بالحديث عن فينا واصفا إياها وأزقتها وحاراتها وطرقها وعرج الى تاريخ المدينة وكيف كان الضباط العثمانيين يجوبون  شوارعها ويقصدون محلاتها ومقاهيها  لشرب القهوة المرة التي لا تزال تسمى بالقهوة التركية. حدثني كيف جاء "هتلر" غازيا وطنه وسقطت الجمهورية الأولى.... بغتة اردف قائلا كانه يبوح بسر دفين أتدري يا بني أين نجلس الآن:

فقلت على سجيتي نعم على اريكة في حديقة عامة. فرد مبتسما نعم ان على هذه الأريكة أغمض عينيه الموسيقار هايدن في مثل هذا اليوم. صمتنا طويلا .. ثم قام وسلم علي واختفى عن الأنظار................ 

التحول 

ما دمت كنت هنا

فالشئ الوحيد

الذي كان ينقصني

هو الحرية

والآن أنت راحل

لي حريتي

والشي الوحيد الذي ينقصني

هذه المرة

هو أنت

Sailer Andrea 

الأفكار تبدأ...

وتذبذب

تبحث عن فضاء

واستجابة

وحيث الفراغ

سوف تخفت

وفي عزلة تامة

تموت

 بعد رقصة قصيرة

Monika Spannagl Schönborn

 يتجاوز شاعرنا بدل الترجمة الحرفية الى ترجمة روح النص وهذا ما جعل الكثير من النصوص المترجمة الى العربية ربما أحلى طعما من نصها الأصلي الألماني. قد نرى أحيانا ان المترجم يعيد صياغة النص الشعري بالكامل كي يعكس روح الشعر وشاعرية الشاعر.  بينما نرى مترجمين يعتمدون على معارفهم اللغوية في الترجمة الحرفية للنص فتاتي أعمالهم غير متكاملة وفي بعض الأحيان دون أي معنى.  خذ مثلا هذه النماذج البديعة :

...

حين ترحلين

حين ترحلين...

قلبي سيرحل مع خطواتك

قل:

ما الذي سأرجوه

من ربي حين ترحلين !؟ 

Franz Kießling

كذبت حين قلت:

دعني وشاني

فجسدك..

قال شيئا آخر.

Josef Fink

...........

أنت رحلت الى السماء

وتركت أحذيتك امام بابي

.......

Josef Fink 

ان الترجمة كفن تتعدى حدود الترجمة الحرفية للكلمات الى فهم كنه اللغة التي يترجم اليها المترجم بالطبع يجب ان يكون ملما بلغته الام بجميع حيثياتها كذلك. بالإضافة الى كل ذلك يجب على المترجم ان يتحلى بثقافة عامة واسعة من ناحية ومن ناحية اخرى يفهم كنه استخدام الكلمة وليس فقط معناها الصوري. بعض الكلمات تستخدم بمعاني مختلفة حسب ورودها في النص الشعري هنا يبدا مهمة المترجم في البحث لتقديم اقرب المعاني للكلمة المراد ترجمتها الى اللغة المترجمة.  ان كتاب الشاعر بدل  رفو إضافة إبداعية نوعية الى  المكتبة العربية. جهد جليل لشاعر عزيز له شكرنا وعرفاننا.

وقال عنه في مقدمة الكتاب الاستاذ  الناقد  ابراهيم اليوسف:هذه النافذة المضيئة على الشعر النمساوي،لهي دليل كبير على سمو روح هذا الاديب والمترجم،الذي يجد في الشعر نسغاً لروزنامته اليومية ،وهو ما يحدو به ،لكسر أية سدود تحول دون التواصل بين ابناء القرية الكونية،القرية التي يشدو سكانها باغنية واحدة ،كل بصوته، بيد انها ـ في النهاية ـ قصيدة الحب الكبير، وهل هناك حب اعظم واسمى من حب لبناته الرئيسية:الارض والانسان؟ 

يترجم شاعرنا ل 50 شاعرة وشاعر ولا ينسى "شاعرة الوطن" العراقية في المنفى  سوزان ايوب التي تقول: 

الف حلم وحلم 

استنشقت

 الهواء الذي هب من بلادك 

الهواء الذي لامسك

صباحا

سالته عنك...

كلما جاء من وطنك

لم يات برسالة منك

ابدا...

الا في الحلم 

الكتاب في 175 صفحة ومن منشورات دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع دمشق سوريا. الطبعة الاولى- 2010  وقد ساعدت هيئة الثقافة في الحكومة الإقليمية لمقاطعة شتايرمارك مشكورة في طبع الكتاب.

ـــــــــــــــــ

الكتاب: قصائد حب نمساوية

المترجم: بدل رفو المزوري

الناشر :دار الزمان السورية للطباعة والنشر

الطبعة: الاولى ،دمشق 2010

 

 

Google

 في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 © حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com