بعيداً عن الضجيج، قصائد تخترق الشغاف
قراءة / حامد كعيد
الجبوري
واهماً يتصور البعض أن
القصائد لا تصل للمتلقي إلا من خلال الصريخ غير المبرر من بعض الشعراء،
ولربما هذه الظاهرة أقتبست بل قل أنتحلت من الخطابات السياسية الرنانة التي
يلقيها الساسة سابقاً ولا حقاً، فأصابوا بعدواها القسم الأكبر من الشعراء،
وخاصة منهم الشعبيون،ويلحظ الكثير من المتتبعيين أن الشاعر الفلاني حينما
يدعى لمهرجان ما يصطحب معه ثلة من أصحابه – مدفوعي الأجر - واجبهم القول
(الله)، كلما نطق شاعرهم ولا أعرف أحياناً ماذا قال، مردفيه بتصفيق حاد،
طالبين منه أعادة ماقال، وأحدهم يقول (أبروح أبوك عيد أمن البداية)، وحينما
ينزل الشاعر من منصته يتسائل معهم، كم مرة صفقوا لي ؟ فيجيب أحدهم ستة مرات
فيقاطعه غاضباً، لا سبعة مرات،لأنهم يعتقدون أن القصيدة لا يمكن أن تسمى
قصيدة ناضجة إلا بعدد مرات التصفيق لها، والغريب أن مثل هذا التشوه ساد
الذائقة منذ حقبة ليست بالقليلة وتحتاج الوقت الطويل لتمحى وتنسى الى الأبد
.
في المهرجان الوطني
الرابع الذي أقامه (أتحاد الشعراء الشعبيين / بابل) عام 2008 لم يتسنى لي
الأصغاء بشكل جيد لأغلب القصائد بسبب متابعة مجريات المهرجان، وتهيأة
الأجواء المناسبة لضيوفنا الشعراء الكُثر الذين قدموا من المحافظات
العراقية المختلفة، مؤجلاً هذه المتابعة والأستماع لشعرائنا من خلال
تسجيلنا لوقائع المهرجان، وكان لي ماأردت .
(فد باب وحايط منسي / صوت
أيموت وصوت أيهلهل / أركض للباب أيكض جفي / ياباب أفتح مابيه أحمل)، بهذه
الكلمات وبهدوء خيم على قاعة المهرجان الذي أراد لها هذا الهدوء الشاعر
والأعلامي (علي الربيعي)، مبتدأًبهمسٍ يناغي به قلوب مستمعيه، كما يفعل
أخصائيُّ أطباء التخدير قبل العملية لمرضاهم، متخذاً من التناقضات المعاشة
للمجتمع العراقي مفتاحاً لولوج الأدمغة الرافضة لهذه التناقضات، (صوت يموت
وصوت إيهلهل)، وحينما كان له ما أراد أستفز مستمعيه بما يكفي من صورٍ ليحيل
القاعة أياها لموجة من التصفيق والأستحسان لما أيقضهم به، (الخوف أرحم من
أبن آدم / أبروحك يتشظه وما يكتل / وين أتروح وعدمن تنزل / وياباب أتدكه
ومايجفل / كلها أبمنجل عمرك تحصد / محد بين أسنينك يشتل)، ولم يكن
الأستحسان ألا لوعي المتلقي لما يريده (الربيعي)،فالحائط المنسي والباب
الموصد من سنين طوال لم يكن إلا ترميزاً لما توارثه العراقيون من ظلم وحيف
وقع عليهم من أزمنة متعاقبة، وأينَ يمكن له ولأمثاله الهرب من هذا الواقع
المتردي، منوهاً بشفافية مُبطنه - كما يقول ساسة هذه الأيام – لما يدور من
تآمر واضح بينٍ على الوطن والمواطن، مندداً بالطروحات السياسية غير الصادقة
لبعض الساسة، (كلها أبمنجل عمرك تحصد / محد بين أسنينك يشتل)، وتطول معاناة
الوطن والمواطن معتبراً إياها كابوساً لا يمكن الخلاص منه، (وتطول الحسبه
وما نصبر / موصوج الباب وداعتكم / كابوس وبيه آنه أمشكل ) .
لم تكن قرآت الربيعي إلا
قصائد قصار، يصلح أغلبها للتلحين والغناء، لموسيقيتها العالية وأختزالها
لفكرة مايريد قوله بأبيات مكثفةٌ صورُها، (وهاي ياوطن يابو المراجيح)، صورة
دلالتها واضحة للمتلقي فالوطن الذي تلاعب مراجيحه النسمات لابد وأنه مرفهٌ
بكافة نواحي حياته، ولكن هذا الوطن (كل مره ترسم شمس وبحضنك أتطيح / مامره
شفتك تبتسم / تغفه أبحلم / وتصحه أبحلم،.... لاتطيح / لا تطيح / لاتطيح)،
ويؤكد ما أذهب أليه بخصوص المعانات العراقية التي أشرَها (الربيعي) مخاطباً
وطنه، ( خشبه أنت أشورطك صرت المسيح)، وكأنه يؤكد مقولة (الفرزدق) التي
يقول فيها (منذ سنين وأنا أحمل خشبتي على عاتقي ولا أجد من يعلقني
عليها)،ولأن الوطن على حق كما يزعم (الربيعي) لذلك (اشورطك صرت المسيح)،
والمسيح (ع) نشرَ دينه السمح المسالم لا بحد السيف، ولكن من خلال مخاطبة
العقول الواعية التي يتمنى الشاعر أن يصل المستوى الثقافي والعقيدي
للعراقيين كحملة المفاهيم الأولى للمسيح، ولم يدُر بخلده أي المسيح أنه
سيصلب لأنه جاد بتغيير الواقع المتردي آنذاك، كما حصل للعراقيين أيامنا هذه
لتمسكهم بالتغيير صوب شواطئ الأمان، لذلك جنَوا الصلب لهم ولوطنهم المستباح
.
(مدري غايب / مدري حاضر /
مدري خايف / مدري عايش / شفتك أتحب العراق )، ولأن شاعرنا أجرى المسح
الكامن بدواخله للعراقيين لذا نجده لا يحب إلا من أحب عراقه، (شفتك إتحب
العراق / وحدرك إتلم الشفايف)، ولما أيقن أن وطنه دخل بنومة غير مرغوب
فيها، وغير معتادة على أقل تقدير لرواسبه المعرفية، وتاريخ وطنه وحركاته
السياسية الوطنية المشرفة، ولربما ستصاحب هذه النومة نومة أفزع منها وهي
نومة المواطن، (ها ياوطن شو نمت / أكعد أخذلك كاس / يومية حفلة حزن /
وسكرانه بيك الناس)، ولما لم يجد بداً لقناعات آمن بها (الربيعي) يعود
منكسراً لخواطره مستحضراً أيام صباه، (وأرد أرد من الجهل ضحكة صباي / أرد
أطير وما أحط إلا إبسماي)، مستعيداً مكامن الألم والمواجع العراقية غير
المنتهية، منكفئاً على نفسه ألماً وحزناً متجذرين ولم يجد لهما حلاً إلا، (
ياشط السوالف ها كثر بعيوني ماي / حتى جرحي البيده أشده / يكبر ويركض
وراي)، والأغرب من ذلك كله نراه صامداً تجاه قناعاته وجذوره ومواقفَ يفخر
بها لأنه ( بس ولا مديت أيدي وللبعض أكشف غطاي)، رغم الدعوات المظلِلَةُ
والمظلة – بفتح اللام - من هنا وهناك، (كالو فكر بحبح روحك ليش إفلاس)،
وفكر فعلاً (الربيعي) بهذه الدعوة التي أصر أنها دعوة كريمة رغم الخبث التي
تنطوي عليه والمخطط بها للأيقاع به وللأخرين أمثاله، فنظر بعين بصيرته
الوطنية لما يحتاجه هذا الشعب المغلوب أمره، ولحاجته هو الخروج من هذا
المأزق المصورُ على أنه ماديٌ رغم عدم ماديته، لذا بدأ يضخ دماً جديدا لما
حوله، والدم هنا لا بمعنى الدماء المتعارف عليها لكنها الجرعات المعرفية
الوطنية الحقة، وجائت متابعة خفافيش الظلام لهذا الفكر التنويري الممثل
بالدماء الجديدة التي سوف تبني عراقها المهدم، فأذن عليهم إلجام هذه
الأصوات الوطنية المثقفة الواعية، لأن هذه الدماء بزعمهم (هذا الصنف إيهبط
السوك / نسبة دمكم كله أحساس)، والسوق المعني الوصول اليه ماهي إلا صناديق
الأقتراع التي يرغب البعض من الساسة بقاء المواطن على قناعاته التي أوصلت
البعض لهذه المناصب، إذن أن الدماء التي سيضخها (الربيعي) ماهي إلا مصدر
خطر لكراسي موهومة .
إن اللغة التي يكتب بها
(الربيعي) نصوصه، تبتعد عن نهج القصائد الكلاسيكية المقفاة، ويعتمد أكثر من
وزن شعري لبناء قصيدته، مع ملاحظة أن تكون هذه التفعيلات الوزنية متقاربة
صوتياً، كي لا يخدش أذن المتلقي بالتفعيلات المتنافرة .