دراسات نقدية

الفنان كاظم الداخل .. انعاش الوعي البصري .. وارباك الحواس

كل مشهد لايريك الكثرة في العين الواحدة لايعول عليه

                                                                 

عبد جبر الشنان

له ولعه الخاص بتشكيل لغة لعالم يتبدد,انه يرغب في ان يعيد ترتيب الغناء لمعنى وجودنا الهش .الفنان الداخل شديد الاخلاص للوحته لذلك وبخبرة العلّيم تعكس لوحته تنوعا لحيوات تضفي تلقائية وطمأنينة وأنسنة رائعة لكنها مستفزة دوما .

سكان لوحته يتعلقون بمصيرهم داخلها، لم تعد تبهرم حياتنا الموثة بالرعب، لقد استكانوا هناك بأنتظار أبدية بلهاء.

لوحته تبهرك بهذا التناسق الهارموني ولا تفصح عن نفسها بالمشاهدة الاولى لأنهامشحونة بنداءات واستغاثات تستوقفك في مشاهدات تأملية لاحقة لأن انحيازه لمنطق خاص يربك قارىء نصه التشكيلي ويدعوه احيانا الى تبادل المواقع،برؤى فنية باذخة وبمجهولية ابداعية عالية تريه المرايا والظلال في ذات اللوحة .فيض المفردات البصرية لديه احيانا لاتحتمله لوحته،لذلك يسعى الى اخفاء النص الضمني وتهشيم حدود اللوحة وأخراجها عن وتيرتها الواقعية ومهمتها كأتصال بالجمهرة في ادراك مبكر منه للهوة الأسلوبية .

ضمن نسيج خطابه التشكيلي استخدم الحكاية الشعبية كبنية حكواتية وسخّرها لما ورائية الشخوص ...عندما نقترب من لوحته نسمع صوتا يجبرنا على الوقوف لتأمل رشاقة خطوطها وألوانها الثملة .

  الفنان كاظم الداخل (ايقظ عيوننا العاطلة عن النظر )

اللوحة لديه مثل الشعر لسان حال العذوبة ومعانقة الحنين،اللوحة اختراق حقيقي لخصوصية اللغة، التشكيل ثراء اطياف واطباع، التشكيل لدى الداخل اقتناص لسر الجمال،باللوحة وحدها استطاع ان يعرف الى اين يمضي رغم ان بعض لوحاته تئن تحت ثقل جناحي صمته ...كثير ما يستفزه(الهناك )وهو يحلم بأغفاءة (هنا)كان يريد ان نراه في لونه وعلى اديم ظلّه،لكنه كان يستعذب أن لايرانا معلقّين كأشلاء أنفاس على هامش لوحته،او حمقى نشقى طوال اعمارنا في تقشير ايامنا المدلهمّة.لوحته شائكة .... مثل حلم يستعصي تفسيره ..مثل استيقاظ مفزع في صباح تجهل فيه الى اين تمضي .كاظم الداخل كان يخبىءحيوات لوحاته بمودة بل كان يهدهدها بألفة ويطلقهاحين تنام الناس لتمرح بحرية في فضاء اللوحة . بعض لوحاته مزدانة بالمرارة،والأخرى كأنها تطلق اشارات والغاز من اكوان اخرى نائية وتمجد عقم المدن .المدن التي لم تعد قريبة المدن التي اكلت اكواخها ومظغت عضام أبنائها بتلذذ.يأسف الفنان كاظم الداخل لأننا بددّنا نظرنا في رؤية لوحات يؤثثها الزعيق اللوني ويؤطرها الغموض الضاج في بعض معارض المدّعين ورعاة الفن الهابط والمشاغب الذي يتمنى ان يقول شيئا لكنه يخسرحتى مايبرره .

الفنان الداخل لم يرتكز ليقينيه وحيدة،كان دائم السعي للوحة محتملة ونص بصري مغاير يعانق الحياة بالحواس وتقشف لوني مبهر، لوحته تخاتله واحيانا تهرع لمعانقة طفولته الشقية،ميزته انه يعشق بهجة اللون ويحلم بتأثيث سقفا للوحته ينأى عن المجانية ولايهشم حدود لوحته ضمن ادراك مبكر لنسيج خطابه التشكيلي وأخفاءه للنص الضمني لما ورائية الشخوص رغم انهم يرزحون تحت فيض مفرداته البصرية التي لايحتملوها احيانا .سعى منذ بداياته لتأسيس خطاب جمالي مختلف،لذلك عزّز هذا الأختلاف منذ معرضه الاول في غاليري 75في البصرة عام 1975بأن تخلص من المثال التشكيلي وبدأ اولى خطواته نحو القطيعة مع آليات الرسم وجمود وصفاته الجاهزة .ربما خانه بصره احيانا لكن لم تخنه بصيرته،هذا المتوثب الذي يتوق للفرادة وتهشيم شرك التقليد والمحاكاة, مايميزه عن (رسامي)الجوقة انه لم ولن يقتفي خطى احد قبله بل تأمل طويلا في ارث اسلافه وصاغ حكاياتهم ومهملهم اليومي وحاكا بدراية فلسفية وثقافية عالية شخصياتهم الاسطورية وحولها بفنية ساحرة الى دلالات وعلامات مدهشة ...توحي ببلاغه لما لا تقوله الكلمات احيانا لوحاته صرخة صادقة لترميم آدميتنا المهدمة..لوحته يقظة للتوازن الجمالي وتفتيت واع لنمطية الخطاب التشكيلي ...انها فن التعبير عن النجاة من فخاخ المباشرة.أدرك باكرا ان طوافه في مدن منسية لم يكن نزهة بل هو وعي الفرار من مفاسد ومنعطفات التاريخ العراقي ومغاليق شخوصه وربما هو تفسير متأخر للنفاق الاجتماعي المرتبط بعراق متوتر ومحتقن في حقبة تؤرخ للهجرة القسرية .انه يبتكر المكان خلفية متجددة للوحة لأعتقاده ان الزمان مزيف،ووحده المكان يحتفظ ببرائته النائية ولايخدش ملامح طفولته .

يفزعه الركون للنمطية وان بعض الفنانين العراقين استكانوا لأسلوب واحد طوال حياتهم الفنية ظنّا منهم بأن ذلك اثارة لبصمة خاصة تقرأ من خلالها لوحاتهم دون ذكر اسمائهم عليها .

الفنان كاظم الداخل يؤكد انك لاترى نفس الصباح مرتين وكذلك الموجودات التي يعج بها يومك وسكونك، فكيف ترهن كتابتك البصرية بأغلال النموذج، دع العالم يتشكل وأدعوه بمودة لدخول لوحتك .

(مؤثث بالغياب )

في مدينة مستكينه تفتح عليها القرى أفواهها كل فجر،احتمى بعبأة من حروب،من شظايا وطن،واختبأ تحت ضوضاءه وحده لتقوله لوحاته الصامته .

تصرفاته الودودة لم تسمح لأحد بأن يشاركه اسراره ومدوناته، له ولعه الخاص بالحياة وله كذلك مايشاكس ويستفز  وعي المتلقي ...انه يريد قرأة متأنية تنصت لبلاغة مشهده، قراءة ترسخ الاحساس بنص صوري يوثّق بلاغة مأزقنا وهذا الانصات المبجّل لخيباتنا واحلامنا التي تفترض ان غيابنا اكثر اتساعا من الحضور، واننا افقنا من مصائر شخصية لم تكن بمستوى عبثنا، فبما كانت الحروب تفترض رجولة وطن سارية المفعول،الوطن الذي ركلته الايام .

صدقني ياكاظم سأعترف وربما يعترفون بأن وطننا لاتكفيه قيامة واحدة .

   في لوحات (أحلام الفجر )

كان الفجر يراك بعيونه الضبابية  ويترك غشاوة شفيفة على احلامك كأنك دائما ترى الفجر لأول مرة وان انبهارك به واضح من خلال أختبائك بين طيات نسماته .

(جوهر الحرية المخيف )

الفنان الداخل في لوحات مترامية الاحزان وادراك منه ان اللوحة تحتاج الى سمو روحي بقدر ماتحتاج الى اتقان كونها صنعة معرفية وتراكم معلومات ..تمكن من التفريق بين صورة الاشياء واطيافها وهجر التبسيطية وركز على الاحتفاء بلانهائية المعنى وكذلك على وهج الوضوح والخلو من الزوائد .تناغم الخطوط في لوحاته يوحي بجدية بحثه عن دقة اللغة التشكيلية في تعقبه للسريّة الداخلية لملامح الضوء الذي تصوغه العتمة وبتلمسه الماضي البريء في تعقب الالتباس وعدم التوافق الوجودي مع المكان .

فيض المعنى وتشظيه بأعادة صياغة السيرة الذاتية للوحة بأعتبارها مصير فردي وانها مثله تسعى للنجاة من الحياة وفخاخها الوقحة،اهيار العلاقة بين الأنسان والمكان جعله يعيد تشكيلها بذاكرة حلم وهي تتلاشى برعب .ففي مدن ضيقة،مدن طارئة مدن طاردة،في تسلط المكان وعدائيته،وانغلاقه على العكس من مدينته الاولى التي كانت مدينة طفوله محايدة قدّم فضاءا نفسيا متخما بالتفاصيل يؤكد على خصوبة الأحساس لديه وكذلك قدرته الفذّة في استنطاق كثافة الضوء وتأثيث النسيج الدلالي للوحة بالومضات المعرفية دون اقحام .

انه يسعى لأقامة علائق مدهشة دائمة الطزاجة لاتحفل بفساد الأمكنه لكنها تأسف لخراب الانسان .

الحياة في نظره حدثا عابرا وأنها تكتب تاريخ ملفقا يمجد الجسد ويقوض نقاء الروح.

اللوحة لديه صيرورة متواصلة بل انها في احيان كثيرة تجسد مذهبا جماليا لتحرير نفسها من كل مايحيط بها من مألوف وسطحي وأعراف متوارثة وارغام وكما قال مرة بن جلون عن الفنان التشكيلي (برافو) ان ادعاء للواقعية مشكوك فيه ذلك لأن الحياة حركة وانعدام لليقين وعنف وتضاعف،ان مهمة الفنان تتحدد في ان يرتب هذه المظاهر لعيوننا الكسولة والعاجزة عن تقدير التعقيد .

أرق لوني يجعله طريد المسافة بين التوحد والتخيل، بين النوم والصحو،احيانا يغامر بتوتر لونه الذي يستهزىء من اهرامات المعاني التقليدية وفضاضتها وتحمل الجمال وحده الى سطح اللوحة وينصرف مبتهجا، في احايين اخرى لونه يتلاشى مرعوبا من رعونة المتمادين في قسوتهم البليدة .

احيانا نراه يرتطم بالفراغ وهاويته المسنّنه ولاينسى طوافه الدائم على ارواح محبيه الغائبين،واحيانا اخرى يراوغ الموت لتأجيله ويراهن على انقضاض الحياة عليه ويلّوح بمودة محبيه،هذه طلعة الصباح وأشراقة الحياة فلا تكترثوا .

بفنية متقنة وبساطة خطوطه وتكثيفه لتفاصيل ثرية كنا نراه مثل طائر مثقل بالنشوى في حقول فسيحة من البهجة،وأحيانا يستبطن خواء الروح العراقية وقسوتها ووطأة الفراغ عليها .لات

أخذه الرحمة بنفسه ولا بلوحته التي تحلم بقيلولة هانئه وكأنه يريد ان يقول ماقاله

 

Google

 في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 © حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com