قراءة في رواية "تحت
سماء القطب" للكاتب يوسف أبو الفوز
بانوراما روائية تترك
النهايات مفتوحة!
حسين رشيد
صدرت مؤخرا، اذار هذا
العام 2010، في اربيل، عاصمة اقليم كردستان، وعن مؤسسة موكرياني
لللبحوث والنشر، للكاتب والاعلامي العراقي يوسف أبو الفوز رواية بعنوان
"تحت سماء القطب"، حيث ينقلنا أبو الفوز في اجواء روايته، الى فنلندا،
البلد الاوربي، القطبي، الى شوارعها وضواحيها وتأريخها وطقوسها، الى
برد شتائها الثقيل، ولياليها المظلمة الطوال، ينقل يوسف ابو الفوز،
قارئه ليدور به وعبر خمسمئة صفحة من القطع الكبير، في ارجاء بانوراما
روائية عن حياة العراقيين بعيدا عن وطنهم، وفي رحلات استرجاع واستذكار
نتعرف معهم الى تاريخ حقبة حكم النظام السابق، وما تعرض له ابناء
العراق، عربا واكراد من مآس ومعاناة.
عبر عنوان الرواية
يحاول الكاتب يوسف ابو الفوز ابلاغنا، بأنه لن يتوقف عند مساحة فنلندا
فقط، فتحت سماء القطب الشمالي، وأذ تقع هناك عدة دول، وتعيش عدة شعوب،
وأليها لجأ الالاف من العراقيين، الذين يشتركون في معاناتهم ومشاكلهم
الجديدة التي تفرضها عليهم طبيعة العيش مع الاخر، المختلف دينا وثقافة
وتأريخا، فأن الكاتب وبصبر ودراية يتابع مصائر شخوصه، ليس في فنلندا،
ومنفاهم القطبي فقط، بل وخلال رحلة عذابهم، قبل وصولهم الى هناك.
الرواية مزدحمة بالشخوص ومن مختلف المشارب والقوميات ومستويات الوعي،
عربا وأكرادا واوربيين، نساءا ورجالا ومراهقين، من طيبين ومسالمين
وحالمين ومتأسلمين، الى بغيضين وانانيين وقتلة ومتحايلين، وفيها عدة
محاور قصصية وحكايات متداخلة ومتقاطعة، واذ يلتقي العديد من شخوص
الرواية ويشتركون كمساهمين ومراقبين لاحداث معينة، فأن الكاتب يرمي بهم
احيانا في ذات المكان والحدث، دون ان يعرف بعضهم البعض، ليجعلنا نرى
ذات الحدث او نتعرف الى شخصية ما، من خلال وجهات نظر مختلف الشخوص .
يصعب اختصار كل احداث الرواية في مقال كهذا، لتشابك احداثها ومصائر
شخوصها، فالكاتب يكاد يكون تحدث عن كل شيء، عن الحب والخوف والانتظار
والامل، عن السياسة القمعية للنظام الديكتاتوري وقمع حرية الرأي،
وسياسة تبعيث المجتمع العراقي، عن الهجرات العراقية واسبابها المختلفة،
عن حروب النظام العبثية، وعن انتفاضة اذار 1991 وايام الكفاح المسلح في
كردستان، وعن مأساة مدينة حلبجة، وصولا الى التحضير لغزو واحتلال
العراق من قبل جيوش الولايات المتحدة الامريكية، وعن الاخر الفنلندي
وحياته وهمومه، وغير ذلك من موضوعات واحداث وانعكاسها على رسم مصائر
شخصياته وعلاقاتهم بالاخرين والمستقبل .
من الشخصيات الابرز
في الرواية، نجد شخصية العراقي، العربي، كريم مطرود، مدرس التأريخ من
مدينة الديوانية، من محلة الشط الشعبية، الذي غادر العراق بعد تعرضه
للاعتقال والسجن، رغم كونه لم يكن منتميا لاي حزب سياسي، ولكنه واذ كان
يرفض الانضمام لحزب البعث، وكان يعارض عمليا سياسية تزوير وتبعيث
التأريخ والمناهج الدراسية، صارت سلطات النظام، تحاسبه حتى على علاقاته
الشخصية، واذ اضطر للهروب تاركا زوجته محاسن حاملا، والتي ولدت بغيابه
ابنة سمتها رحيل، فأن الاحساس بالذنب ظل يرافقه طول عمره، خصوصا بعد ان
ارغمت زوجته من قبل اخيها البعثي على تطليقه، ورغم انها تزوجت من رجل
ثاني غيره، قتل فيما بعد في الحرب العراقية الايرانية، بعد ان انجبت
منه ابنا، فأن كريم مطرود ظل يحتفظ لزوجته السابقة محاسن بعاطفة خاصة،
وظلت على الدوام حاجزا بينه وبين اي امرأة اخرى، هكذا نجده في علاقته
مع معلمة رياض الاطفال الفنلندية باولينا، يتأرجح بينها وبين حبه
القديم، واذ تحشد الولايات المتحدة الامريكية جيوشها لغزو العراق،
ويصير ايقاع زمن الرواية مرتبط بالاقتراب من يوم الحرب، يبادر كريم
مطرود وبمساعدة اصدقائه العراقيين، والفنلندية باولينا، الى اخراج
زوجته وابنها ومعهم ابنته رحيل الى الاردن، لتنتهي الرواية مع استعداد
كريم مطرود للسفر للقائهم في عمان، قبيل اسبوع من غزو واحتلال العراق
دون ان نعرف هل سيعود الى حبيبته الفنلندية باولينا ام سيبقى مع محاسن
زوجته السابقة ؟
ما يسجل للرواية
انها تركت نهايات محاور كل القصص فيها مفتوحة ترسم العديد من الاسئلة
في بال القاريء، حتى جريمة القتل التي حصلت للفتاة الكردية ئاوات، لم
يحل الكتاب لنا لغزها، ولكنه ترك القاريء يسرح مع استنتاجات مفتش
الشرطة الفنلندي، الذي طرح شكوكا وسيناريوهات مفترضة للجريمة استنادا
للوقائع وبعض الدلائل، وهي محاولة من الكاتب لجعل القارئ جزءا من العمل
. فالفتاة الكردية الشابة ئاوات، ومن اجل الهروب من واقع حياتها الصعبة
والوصول الى اوربا، توافق على الزواج بصفقة عقدها اخوتها، صاروا
بموجبها وكلاء الزوج تاجر السيارات، المقيم في فنلندا، لكنها سرعان ما
وجدت فيه انسانا فظا ومتحايلا، فلم تحمل له اي عاطفة، فأصرت على تطليقه
مستفيدة من واقع القوانين الفنلندية، وحاولت ان تبني حياتها الجديدة
بالاعتماد على نفسها، وبعد اتقانها اللغة الفنلندية، انخرطت في العمل
بائعة في متجر، وتعمل مترجمة بالقطعة، وتطمح لاكمال دراستها الثانوية
وما بعدها، الا ان طموحات ئاوات بحياة جديدة، وتحقيق احلام مشروعة،
تصطدم بمعارضة اهلها ومعارفها، ويلعب زوجها السابق واخرين دورا سلبيا
في نشر الاشاعات عن سلوكها، فحياتها الجديدة اذ جعلت شبكة علاقاتها
تتسع وتضم مختلف الناس بما فيهم الفنلنديين، فأن اهتمامها بأناقتها،
وتصرفها بشكل متحرر وحضاري، صار يثير السنة البعض من ابناء جلدتها
ليتناولونها بالسوء، مما يجعل ضابط الشرطة يشك بان تكون جريمة قتلها من
جرائم الشرف التي ظهرت بين المهاجرين من الشرق في العديد من الدول
الاوربية . في سير احداث الرواية اعتمد الكاتب ايقاع سرد مشوق، معتمدا
تقنيات تقطيع الاحداث كأسلوب السيناريو السينمائي، فحاول ان يجزأ
الاحداث والانطباعات عن الشخصيات، فوزعها على لسان اكثر من شخصية، مما
يجبر القاريء على القراءة باهتمام وتأن لتجميع كل ذلك من اجل رسم صورة
كاملة لكل شخصية وحدث، فأن شخصية مثل نوري شناوة، المهندس من البصرة،
المساهم في انتفاضة اذار 1991، والذي كرد فعل على فشل الانتفاضة، وعجز
احزاب المعارضة بأن تكون فاعلة، ينتكس وتتلبسه حالة لا مبالاة وعدم
مسؤولية، ويصبح مجرد " بلاي بوي " ينتقل من حضن امراة الى اخرى، دون ان
يعير اهتمام لكل ما يقال عنه من قبل الاخرين، ولا يستجيب لجهود "فوزي
عطية" اليساري، المقاتل السابق في جبال كردستان، الذي يحاول ابعاده عن
لا مبالاته، باشراكه في النشاطات الثقافية والسياسية، وشخصية نوري
شناوة العابثة والماكرة، نتعرف اليها من خلال وجهات نظر الاخرين، سواء
المتعاطفة معها او الرافضة لها، واذ نتوقف عن تداعيات هذه الشخصية
ذاتها نجد انها في داخلها ترفض ما تمارسه وما صارت اليه، وان هناك ثمة
امل لأن تتغير نحو الاحسن، خصوصا بعد ان يتعرف من خلال عمله في بيع
البيتزا، الى فتاة فنلندية، مسلوبة الارادة، ومتورطة في علاقة مع شاب
فنلندي عنصري ومروج مخدرات، فيتحرك لدى نوري الشعور بالمسؤولية وينمو
اهتمامه بها وسط استغراب اقرب الناس اليه، فالفتاة الفنلندية لا تمتع
بأي مواصفات مميزة من جمال او شخصية .
أن واحد من اهم محاور
الرواية كان الاهتمام بموضوعة التلاقح الحضاري وحوار الحضارات والاسلام
في اوربا، ونجد ذلك ينتثر في حوارات شخوص الرواية التي تأتي احيانا
بشكل مباشر او تأتي على شكل مقاربات ميثولوجية، كما ورد في القسم
السادس، فالكاتب يوسف ابو الفوز قسّم الرواية الى سبعة اقسام والاقسام
الى فصول ولوحات، ويمكن ملاحظة ان ثمة ترتيبا يبدو لنا مقصودا،
فالاقسام الثاني والرابع ـ زوجي ـ حملت رسائل كريم مطرود الى ابنته
رحيل، التي يكتبها على صفحات دفتر مدرسي ولا يعرف متى ستصل الى أبنته،
وفيها وكمحاولة للتطهير من الاحساس بالذنب لهروبه وترك زوجته الحامل،
يحاول كريم مطرود ان يستعرض حياته السابقة وحياته الحالية والناس من
حوله . اما القسم السادس فقد حوى احلاما وهلوسات تصيب كريم مطرود اثناء
اصابته بحمى، فيصحبنا الكاتب في رحلة مع هلوسات كريم مطرود عبر فضاءات
وعوالم عراقية وفنلندية حيث نجد استرجاعات تأريخية وثقافية بشكل فنتازي
متداخل، حيث نلتقي بشخصوص من ملحمة كلكاميش، بدأ من كليكاميش نفسه،
والى جانبهم ابطال من ملحمة الكاليفالا الفنلندية، فنجد مثلا
فاينوموينين البطل الاسطوري الفنلندي ينادي كلكاميش "يا جدي"، اشارة
الى تناسل وتلاقح الاساطير، وحولهما تدور وتختلط اسماء كتاب وفنانين
وسياسيين عراقيين وفنلنديين، وشواهد مختلفة من الاحداث التأريخية
والسياسية، فنجد حتى نصب حجرية في مدينة هلسنكي تتحرك وتطير وتتكلم
لتصحب كريم مطرود في رحلة الى اعماق بحر البلطيق للبحث في حطام سفينة
غارقة عن ابن خالته المفقود وذو المصير الغامض . اما الاقسام الاول
والثالث والخامس والسابع ـ فردي ـ فقد حملت تداعيات وانطباعات شخوص
الرواية عن حياتهم وحيوات الناس من حولهم . ومن المفارقات التي حملتها
الرواية ان الشخصيات الكردية عددها اكثر من الشخصيات العربية
والفنلندية، مما جعل مقدمة الرواية، التي ساهم في كتابتها عراقيون
مقيمون في فنلندا استفتاهم الكاتب، تحمل اشارة الى كون الرواية كردية،
فنحن نتعرف الى حياة عوائل كردية، اضافة الى عوائل عربية، ونتلمس
معاناتهم في تربية ابنائهم من أبناء الجيل الثاني والثالث، ارتباطا
بموضوعة الجذور والهوية والارتباط بالوطن، ونلتقي بشخوص من ابناء الجيل
الاول ونتعرف من خلال تداعياتهم الى مأساة حلبجة وما تعرضت له، اضافة
الى محاور اخرى كموضوعة ختان النساء في كردستان، ومن خلال كل هذه
التفاصيل يواجهنا سؤال الهوية والانتماء الى الوطن .
يمكن القول ان رواية
"تحت سماء القطب " هي رواية حافلة لسيرة المنفى العراقي، وتحديدا في
فنلندا، وتفاصيل حياة العراقيين هناك ومعاناتهم وهمومهم، الى جانب
التعرف الى الاخر، الاوربي، من خلال الشخوص الفنلندية العديدة، فأن
شخصية مثل بيكا تويفنين، صديق العراقيين، والمتفهم لمعاناتهم يعكس صورة
عن طبيعة هذا البلد المرمي عند حافة القطب، اذ يصحبنا الكاتب يوسف ابو
الفوز في رحلة التعرف الى تفاصيل حياة هذا الشعب وتاريخه وثقافته من
خلال تداعيات الشخوص الفنلندية، السلبية والايجابية، وهي عديدة .