دراسات نقدية

 

الى طلبتنا الاعزاء...اقتدوا بالسيد (المدير)


بشرى الهلالي

كانت تحاول ان تستجمع المعلومات لتسطرها على الورقة البيضاء التي تبللت أطرافها بفعل قطرات العرق المتساقطة من (رنا).. لكنها شعرت ان رأسها يكاد ينفجر من التفكير الذي حجبه النسيان بعد ان حاصرها الحر من كل مكان وصارت تستجدي نسمة الهواء المارة عبر النافذة الوحيدة في القاعة والتي تبعد عن مقعدها مسافة كافية لحجب الهواء خصوصا وان جسد المدرسة المراقبة الضخم يسد هذا المنفذ الوحيد، فالمدرسة (صائمة) وهي احق من الطالبات الممتحنات بالحصول على نسمات الهواء الكسولة القادمة من نافذة القاعة. بدأ اليأس يتسرب الى قلب (رنا) وكادت ان تترك قلمها وتهرب من القاعة، لكنه امتحان الدور الثاني في مادة الكيمياء وهي فرصتها الاخيرة للنجاح والدخول الى الجامعة. عضت أصابع الندم وهي تتذكر كيف أخطأت بحق نفسها عندما أجلت مادة الكيمياء الى الدور الثاني، لكن حرارة الجو في حزيران وتموز كانت اقسى منها الان وبالكاد استطاعت السيطرة على بقية المواد، فكيف بالكيمياء التي تشكل عقدة بالنسبة لها. وقبل ان تطرد هذه الافكار من رأسها الحالم.. ثارت ضجت في الممر وسمعت وقع اقدام تتراكض مقتربة من القاعة، هبت المدرستان المراقبتان، ذات الجسد الضخم والاخرى التي كانت تجلس نصف نائمه على كرسي في نهاية القاعة، وماهي الا ثواني حتى دخل القاعة شخص طويل القامة يحيط به حرس وموظفون. ابتسم وهو يعبث ب(سبحته) الطويلة محييا الطالبات، وباشارة خفية من المراقبة، قفزت الطالبات وقوفا لتحية الضيف القادم والذي بدا واضحا انه مسؤول حكومي، وتقدمت مديرة المركز الامتحاني التي كانت ترافقه بحماس نحو مقدمة الصف مرحبة بالضيف الذي اتضح انه مدير عام احدى دوائر التربية.وأخذ السيد المسؤول يمارس دوره الابوي بتشجيع الطالبات على النجاح والاصرار على اكمال الامتحانات واختيار الكلية المناسبة دون ان يلاحظ بان الوقت يجري وان كل دقيقة تعادل سنة من مستقبل طالب الصف السادس في قاعة الامتحان.. وفي لحظة رأفة ورحمة نطق السيد المسؤول بالسؤال التي كانت تنتظره رنا فقال: هل لديكم أية مشكلة أو معوقات؟ ... ورنا التي كانت على اهبة الاستعداد للاجابة، سبقتها يدها الى ذلك فهبت واقفة لتجيب الاب الحنون قائلة: ان مدة الامتحان هي ثلاث ساعات، والجو حار جدا ونحن في شهر رمضان، اما كان ممكنا لوزارة التربية توفير مولدة للمدرسة خصوصا وانها مدرسة نموذجية، او الاتفاق مع دائرة الكهرباء في المنطقة للتعاون وانقاذ الطلبة من هذا الجو الخانق؟ وقبل ان تكمل عتبها وحديثها، تغيرت ملامح السيد المدير العام وبدا عليه الضيق وتلاشت ملامح الرحمة والحنان وارتجفت خرز المسبحة في يده فقال: وشدعوه عليكم يابا، ماتتحملون جم ساعة علمود مستقبلكم، شوفوني اني، تلث سنين رسبت بصف سادس علمي وبعدين صرت دكتور، شكو بيها لو عدتي سنة حتى تحققين مستقبلج؟

لم تجد رنا من كلمات تجيب بها السيد المدير الذي يدعو الطالبات الى الرسوب اقتداءا به كي لا يدين وزارة التربية او مديرياتها او وزارة الكهرباء او الحكومة او اية جهة رسمية. بل ان غضبا عارما اجتاح صدرها حاولت ان تكتمه، تمنت لو انها استطاعت ان تقول له: من الذي وضعك في هذا المنصب؟ ومنذ متى؟ من الطبيعي انك لا تشعر بمعاناتنا لانك لم تتذوق ملوحة العرق بل ان بشرتك فاضت نعومة من صقيع اجهزة التبريد التي تحيط بك في مكان العمل والبيت والسيارة، ودت لو انها استطاعت ان تسأله عن اولاده واين هم الان؟ في اية جامعة اهلية داخل العراق او خارجه، وربما في وظيفة مناسبة لابنه الذي لم يستطع اكمال المتوسطة وابنته التي لم تحقق معدلا جيدا في الاعدادية. استدار السيد المدير ليغادر القاعة وهو يحيي طالباته مبتسما بفخر: الطالبات العراقيات بطلات، لن يعيقهن حر او برد عن تحقيق اهدافهن. قال ذلك وكأنه انجز عملا بطوليا على الجبهة الامامية لحرب ضروس وقد صادقت ابتسامة مديرة المركز الامتحاني على كلماته وهي تجري خلفه ممتنة لهذه (الطلة) التي (شرفت) مركزها الامتحاني.
ودون وعي منها، وقفت رنا ثانية وهي تحمل دفترها الامتحاني عاليا وقد تحول الى نصفين بفعل يديها الغاضبتين ... التفتت الى زميلاتها في القاعة صارخة: هيا، معي جميعا مزقوا دفاتركم الامتحانية، واقتدوا بالمدير، ففي بلدي فقط ، يمكن للفاشل دراسيا ان يتحول الى دكتور او مسؤول حكومي..


 

 

Google

 في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com