دراسات نقدية

 

 معلم في القرية/ 9
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)
  

 
محمد علي الشبيبي
Alshibiby45@hotmail.com

 

 

ليلة مع الغناء الريفي ليلة ليلاء قضيتها البارحة [ليست هذه الليلة ثانية للليلة التي شرحت فيها هواجس"ساعة سأم" ولم أر ضرورة لتأريخ ليالي، عدا الأحداث الهامة]. ليلة من الغناء الريفي يشجي ويطرب، يفرح ويبكي، يشيع البهجة في النفس، ويثير الأسى في القلب. يهز ويدفع إلى الرقص والمرح أو يسيل الدمع بصمت.دعاني شاب نجفي من التجار، وهو ضيف عند ملاك قروي، لقضاء سهرة طيبة. هناك عند الغروب، وبين النخيل ترى سطوة مهيبة، حيث تبدو أشباح النخيل في هذا الظلام الحالك مخيفة، يهاب السير فيها حتى القروي نفسه، ولا يقطعها إلا لص يبحث عن رزقه بين سواعد الموت! أو فتى شجاع ينشد المتع واللذات، أو لأداء رسالة عاجلة دعت إليها ضرورة وإلا فإن سرى الليل عندهم للصيف في أكثر الأحيان.بظهر المضيف فرشت الطنافس العربية. وصفت المساند، جلسنا وعن يميننا وشمالنا كبير الأسرة المضيفة. وأبناء الحي متحلقون في جلسة منتظمة متراصون تراصاً مزدحماً، وعلى وجوههم يطفح البشر والسرور، ولا تكف ألسنتهم تتبادل رمي النكات والطرف، فهي مسرة مضحكة طوراء تسري بين ذلك الجمع سريان النشوة البليلة، فتنعش الكدِر، وتهز المرح الطروب. وهي وخز موجع طورا آخر، لما تنطوي عليه من إشارات وتلميحات يفهمها الذي توجه إليه، آو يعرّض به.وكثيراً ما تتضمن تلك النكات أمثالاً رائعة، تضاهي في بلاغتها الأمثال والحكم في الفصحى. أما بعضها فمأخوذ من الفصحى بلا شك. وبعضها في قالب شعري آخاذ.تحرش أحدهم برفيق له، يقابله في المجلس.- عبد الحسن، يا عبد الحسن. الماينوش العنگود يگول .أكمل المخاطبْ المثل:– حامض! وأردف خايب آني مثل البعير محمل ذهب وياكل عاگول!وتنحنح ثالث وهو يغمز بعينه إلى أحدهما.

الما يعرف تدابيره، حنطته تاكل شعيره

فرد الأول:- آني أبوك يا فليح، أراويك انشا الله
فقال الثالث:- أي والنعم، ليش لا فسوة عجلنه طيرّت جل البوه غاد من أهلنه ممشه سبع سوگات هذه الكلمة "سوگة" يستعملها "المكارون/ الواحد مكاري" لقياس مراحل الطريق في أسفارهم . فضحك السامعون وتهامسوا. وأقبل كهل تبدو على وجهه سيماء الظرف والفكاهة. فهتف به بعضهم.

- اهنا ابن عفلوك! اهنا.- لا خويه. آني زعلان. خليني أجابه الذي دعاه بلهجة ساخر

- زعل العصفور على بيدر الدخن زاد دغار فقال آخر:- ابن عفلوك آني مستعد اصالحكم.
اجاب ابن عفلوك: لا خويه، احنه زعلنه وصلحنه ما ندخل بيه احد!

فامتعض المتدخل وقال:
- أنت أعرف بصاحبك، حرامي الهوش يعرف حرامي الدواب.

وتدخل رابع وقال:- ابن عفلوك آنه دواك؟!

فضحك ابن عفلوك ضحكة ساخرة طويلة وقال:

- العصفور گال للنخلة، الزمي نفسك اريد أطير!؟
على مثل هذه المناوشات بين الجالسين مضى وقت ليس بالقصير. أعلن في نهايته، عن حضور العشاء. ومدت المائدة "السفرة وهي مصنوعة من سعف النخيل" على طول المجلس. كان عشاء فاخراً في جودة طبخه، وتعدد ألوانه. والقرويون يبذرون في ولائمهم تبذيراً لا يوصف. فلأجل ضيف واحد تُعد مائدة تكفي العشرات. وبعد أن تم إعداد الطعام، نهض المُضيّف. وصاح بلهجة مؤدبة:

- تفضل سيد ماجد .... تفضل استاذ. [السيد ماجد السيد جلوي من تجار الحبوب في النجف، والقرويون لا يقدمون أحد على السيد لأنه من أبناء الرسول]

ثم إلى بعض الوجهاء من الحاضرين، دعاهم بأسمائهم. وسكت عندما أخذ الذين دعاهم مكانهم الذي عينه هو. ولزم الباقين الصمت إلا همساً اكتفيت من الأكل قبل غيري، ولم أرفع يدي [في معظم عشائر الفرات تسود هذه العادة. فلو اكتفى أحدهم من الزاد يتظاهر كأنه يأكل حتى يكتفي الآخرون]، كيلا يرفع الآخرون أيديهم. وحين نهضنا من المائدة. نادى المضيف بأسماء الآخرين، هُم دون الوجبة الأولى في المكانة، والوجبة الثالثة خليط من كبار وصغار.وبعد استراحة وجيزة، قال:

- يالله يا جماعة للربعة [الربعة دكة مسطحة للجلوس في أيام الصيف عصراً أو ليلاً، وتكون أمام المضيف أو المكان المعد لهذه المناسبة]نهضنا وتقدمنا هو، وصلنا إلى مكان قد أعد وأضيء بمصابيح "لوكس الكتريك" يلفظوها هم "علنتريك". في جهة من المجلس أنتظم نخبة من شبابهم، وتهيأوا للغناء، ومعهم آلة الطرب الوحيدة، المعروفة عندهم "خِشِبَه". وصاح المضَيِّف بأحدهم مشيراً إليه بيده:

- يا الله...تنحنح صاحبنا، وابتلع ريقه، ودار نظراته بين رفاقه مبتسماً. بدأ الصوت أول الأمر خفيضاً، وتعالى تدريجاً بهذا البيت من الأبوذية:

انا أذكـركم ودمع العــين ياهل وبيّه ما دريتوا اشصار ياهل

صرت عصفور جني بيد ياهل اهو يلعب وحر المــوت بيه
وهذا مأخوذ عن البيت المنسوب لمجنون ليلى:

كعصفورة في كف طفل يهينها تقاسي اليم الموت والطفل يلعب

وغنى ثان وثالث. كتبتها عنه عند انتهاء الحفل.

كان الجمع المحيط به يتمايلون، كأنهم السنابل يحركها نسيم هادئ، وعيونهم تلمع ببريق ينم عن تأثرهم البليغ بصوته الساحر، وما تجسده من الأبيات من معاني شعر هي صدى أحاسيسهم وعواطفهم.وضرب أحدهم بأصابعه "أصبعتين" فصدح الجميع بأغنية عذبة، تمازجها هزات الرقاب والأكتاف، وتمايلوا يميناً وشمالاً تمايلاً منسجماً مع لحن الأغنية، تلاحقه العين مرغمة، وتتركز عليه النفس غافلة عن كل شيء سواه.وهب أحد الحاضرين فوسعوا المجال، وأندفع يرقص. فزاد هياج المغنين يضربون بأصابعهم، ويدبكون برجل ممددة، ويهزون رقابهم وأكتافهم. ويصفقون بأيديهم، تصفيقاً ذا لحن ينسجم مع لحن الأغنية. وراح صوت "الخِشِبَه"يلعلع في أرجاء البستان، صاعداً هابطاً، متتالياً متقطعاً.وبعد ردح من الوقت عاد صاحبنا ثانية إلى أغنية حزينة [كانت من أغاني خضير حسن الناصري ولازمتها "حيل وياي لم يجاره فيها أحد، ولا واكبها رقص، أنغمر بها فهو يميل ويميل معه الجميع بأجسادهم، كأنهم شدوا إلى وتر واحد. فلا تسمع إلا الزفرات تتصاعد، وآهات ترتفع، كان صوته يتماوج، ويداه تتحركان حركات الناعي الحزين.الأغاني الريفية جميلة رائعة بأنغامها، سامية بمعانيها، لأنها ليست من محترفين، لكن ألحانها بسيطة. كما إنها لا تؤلف وحدة منسجمة، لا

في الوزن الشعري، ولا القافية، ولا المغزى. فترى المغني الريفي، بينما يتغزل في بيت، إذا به يهجو في آخر وفي ثالث يعتب ويتوجع، وفي رابع يرسل الدمع ويتذلل أو يمدح أو يرثي. يأتي تارة بالضمير مذكراً وأخرى مؤنثاً بنفس الأغنية.وهم لا يستنكرون الغناء، ولا يرون تحريمه [أجمع فقهاء الشيعة على حرمة الغناء، وهم يفسرون الآية "واجتنبوا قول الزور" إن المقصود بقول الزور هو الغناء. وهذا تكلف!] الريفيون يقولون "راس المابيه كيف گصه وذبه". والكل يرقصون –في المناسبات- رقصات ريفية، عدا فئة بحكم مكانتها الاجتماعية. وعلى الأكثر لا تمتنع عن حضور حفلات الرقص في الأفراح كالأعراس والختان.بعد فترة من الغناء والرقص، هتف مضيفنا بولده:

- كاظم ولك گوم تونس ونس خطارك؟

نهض كاظم متردداً حياء مني. وصحت به أمنعه فما ينبغي أن أوافق، وهو تلميذي، فأستغرب الآخرون فقال أحدهم:

أستاد انتو هنا خطار، مالك حق، هذا المكان ماهو مدرسة؟!
وفي احد فترات الاستراحة، قام أحدهم بما يضحك الحاضرين، فقد أحضر جملة ضفادع حية، شدها من الأرجل بخيط على هيأة قلادة، وغمز بعينيه إلى أثنين سرعان ما أنقضا على الجزار "بوده" فوضع الأول القلادة في عنقه. وقف المسكين وهو يصرخ مستنجداً بالحاضرين، وقد جحظت عيناه، وتقززت جلدة وجهه، يستغيث –وهم يضحكون- كلما قفز ضفدع ومس وجهه صرخ وتقيأ. ولكن الجميع يشتدون بالضحك والسخرية به، وأخيراً نهض الملاح "أبو طابق" وصاح به:
- خايب اشصار، تلعب روحك من عگروگ، دجيب؟

نزع القلادة من عنق "بودة" والتقم ضفدعاً منها وضم عليه شفتيه، ثم أخرجه وقضم يده، وراح يلوكها كما يلوك الكندر؟! هنا أبدى الجميع اشمئزازا واستنكارا. أبو طابق، ملاح تجاوز سنه المئة –كما قال- أخذ يحدثنا بالمناسبة عن أغرب فعلة له.كان يشتغل بالسفن بين البصرة والكوفة. أحيانا تكون حمولته جنائز إلى النجف [كانت الجنائز تدفن موقتا في أماكنها ويسمونها وديعة، ثم يخرجونها بعد ستة أشهر متيبسة ويرسلونها إلى النجف لتدفن بأرضها احتماء بالإمام علي. وأغلب علماء الشيعة يرفضون نقل الجنائز. وبعضهم يحتاط، فيقول: لا يجوز إذا حدث التفسخ. ثم صارت كأنها أمر طبيعي لما تدره من الأرباح على الكثير من عوائل النجف]. وتعشى ركاب السفينة، وناموا دون أن يدعوا "نوخذتهم" أبا طابق للعشاء معهم. حمل أبو طابق في صدره عليهم الغيظ. فلما غطوا في نومهم، تناول كيساً كان معلقاً على –الشيال- وراح يأكل منه. فلما استيقظوا في الصباح عاتبهم أبو طابق:

- خايبين لا گلتو نوخذتنه، أكلتوا وتزقنبتوا وحدكم. تراني گمت وفلت الجيس واكلت على كيفي؟! الا شدعوة مخلينله هاكثر ملح؟ وصاح به أحدهم ولك أبو طابك، أكلت أبوي! أما أبو طابق فرد عليه:- آنه ادري به أبوك.كان أبو طابق يقص حكايته، والسامعون يتأففون، ويبدون الاشمئزاز. لكن صاحبنا المغني أنقذنا فغنى ولعلعت –الخشبه- تصاحبه. وعاد الجمع ينسجم بنشوة الطرب والشباب، وحرقة البؤس والفراغ.
الغناء في الريف
أتحدث عن الغناء في الريف. أتحدث ببساطة. لا حديث باحث متتبع. لا أستطيع ذلك. بسبب ما يكتنف حياتنا من أمور تستدعي الحذر. فالسلطة تخاف وتكره اتصال المثقفين بالفلاحين، وهي تعتبر بالطبع جميع المعلمين مثقفين! بينما تلعب الطائفية دوراً قذراً في علاقات المعلمين ببعضهم مضافاً إلى جهل الفلاحين، وسيطرة العقلية القبلية في علاقاتهم، التي كثيراً ما تستخدم ضد مصالحهم، وفي زيادة ثقل قيودهم. لهذا يصعب عليّ أن أتنقل لجمع المعلومات النافعة عن مسألة الغناء الريفي والشعر. مضافاً إلى هذا كله ما يتطلبه من وقت ومال.للريفيين تقاليد، ولهم مطامح. وكثيراً ما تصطدم تقاليدهم مع مطامحهم. وعلى الرغم من أن تقاليدهم أيضاً تتعارض مع بعض التعاليم الدينية، فإنهم يسبغون على التعاليم الدينية مسحة من التقاليد. تماماً كما صنع العرب الأولون، كانوا يحولون الأشهر الحرم حين يضطرون إلى ذلك، فيقدمون شهر ويؤخرون شهراً.غناؤهم دائماً لا يعتمد القصيدة الكاملة إلا نادراً، ونادراً جداً. الأغنية تعتمد الأبيات المتفرقة، ذات المضامين المتعددة، وكثيراً ما يكون أصحابها مجهولين. وتردد في أكثر من لحن. البيت الواحد يغنى في عدة ألحان من ألحانهم. وألحانهم كما هو معلوم بسيطة، بساطة الآلات الموسيقية التي يستعملونها. والشائع منها لديهم بكثرة ما يشبه "الناي" وتسمى عندهم "شبابه" والمطبـﮓ والخشبه. وهم يجيدون استعمالها أجادة تامة ولكن بدون أبداع وابتكار. [هذه الآلة "الناي" لا تعرف عندهم بهذا الاسم. منهم من يسميها "شبابه" ومنهم من يسميها "ني" وهي عندهم من قصبة طويلة بالنسبة للمطبـﮓ ومثقوبة عدة ثقوب تشبه تماما الناي المصنوع من الخشب. أما المطبـﮓ فمن قصبتين أدق من الناي ملتصقتان ببعضهما بشيء من القار. أما الخشبه فمصنوعة من الفخار وعلى فوهتها جلد مرقق مثبت بدقة، تشبه الطبلة]كثير من الأساطير التي نعرفها بالتراث موجودة لديهم. ولكنهم يسبغون عليها شيئا من تقاليدهم وعاداتهم، حتى كأنها حدثت في محيطهم.أخذ بعضهم يتحدث في الديوان عن مجنون ليلى:- "التقى بحبيبته ليلى، وعدته إنها ستعود إليه، بعد قليل. وظل حيث هو ينتظر عودتها. لم يشعر بالجوع والعطش، لم يشعر بأي شيء. ومرت الأيام، وهو لم يبرح مكانه، ومات حيث هو. متكأ على جدار من طين، من بيت مهجور. وغطاه العشب وهو هيكل متيبس!مثلك بلغ مجنون من واعِدَنّه العشب باني عليه ويابس لگنه!وهم شغوفون بالحديث عن حب عنتر لعبلة وبطولته، يذكرونها وكأنها لأحد أبناء قبيلتهم، ولم تسلم منهم أسطورة "بئر ذات العلم" ومملكة الجن التي حاربهم فيها الأمام علي.ويصوغون عن"حاتم الطائي" وكرمه، مالا تعرف عنه في التراث. وبعض ما يغنى من شعرهم، منقولة معانيه من القصص الدينية.
مثل آدم اغتريت وعنه اطلعـوني گالولي اكل من هاي هم وهدنوني

هم ابني واتعب بيه وهم امشي عنه صرت ابن شــداد من بنه الـــجنه

وبعضها يبدو لي إنها ترجمة مطابقة لأصل قصيدة من الفصيح. هم يرونها ولا يعرفون ناظمها. أما التي هي باللغة الفصحى فمنسوبة لوضاح اليمن. قرأ علي أحدهم هذه القطعة هي في حبيبته "روضة"

هي لاني بوعــــد وياك لا تظن ظنه

وي غادي ابعد ليك لَي لا تـدنـه

هو:
لاني بوعــد ويـاج لا من رِدَه بيـج
لاﭼن بشهل العين نفسي دنت ليـج

هي:

الخبـــز خبز يهــود محد يضـوگه

معلمــاتك الشِـــنات لجل المطوگة

درب المشيته النوب بالك تـــــمره

وَرْوَرْ تِركِ ويثـــور معتلگ شَــرّه

هو:

گمنه وبنينه السور بنيان تمكين

بيه اثنعش طابـور من صوجر وين

هي:

درب المشيته انوب عمده ارد امر بيه

شَـعْتِذر عند النـاس لـو ردت اخـــليه

وهذه الأبيات من قصيدة وضاح اليمن حصلت عليها ولا أدري أهي كاملة؟ لكني سوف لن أهمل البحث عنها ولا عن –العامية- التي هي كترجمة لها إلى اللهجة العامية:

قالت: ألا لا تَلجنَ دارنا إن أبـانا رجل غائر

قلت: فإني طالب غـرةً منه وسـيفي صار باتر

قالت: فإن البحرَ ما بيننا قلت: فإني سابح ماهر

قالت: فإنّ القصرعالي البنا قلت: فإني فوقه طائر

قالت: فحولي أخوة سـبعة قلت: فإني غالب قاهر

قالت: فليث رابض دوننا قلت: فإني أسد خادر

قالت: فأن الله من فوقنا قلت: فربي راحم غافر

قالت: لقـد أعييتنا حـجة فآتِ إذا ماهجع السـامر

واسقط علينا كسقوط الندى ليلة لا نـاهٍ ولا آمر

بينما هناك معان أكثر الظن إنها جاءت من قبيل توارد الخواطر. مثل قول أحدهم:

"جيبولي النمام خل يگعد وياي ذم لو مدح مقبول بس طاري اهواي إنه يطابق قول الشاعر:

أحب العذول لتكراره حديث الأحبة في مسمعي

وهذا البيت:
نعله على بوه الگال مطرب يغني بگلبي تسع جروح حيل اوجعني ألا يطابق ما قاله أحمد شوقي في رواية "مجنون ليلى" وذلك أسبق يقولون بها غنى لقد غنيت من كربي وهذا القائل: ظلت أنا يهواي للنجم راعي عينك تبوگ النوم لو مثلي واعي الم يقل الشيخ محمد رضا الشبيبي مثله: أتسهر هذا الليل أجفانها الوطفُ وتجتنب الإغفاء مثلي أم تغفو  ذكرت هذا للشيخ محمد رضا الشبيبي مستوضحاً عما إذا كان له إطلاع بالأغاني الريفية وأخذ عنه. فأعجب به أشد إعجاب، وراح يقارن بين قوله "تجتنب" وقول الريفي "تبوگ" قال إنه تعبير رائع عن حاجة العاشق البالغة لغفوة عزت عليه فتضطر عينيه لأن تسرقها وكما قال شاعر قديم:ماجرت خطرة على القلب مني فيك إلا استترت عن أصحابي من دموع تجري فان كنت وجدي خاليا أسعدت دموعي انتحابي قال ريفي:

أضحك گبال الناس وأنحب بالخِلي لَسْلَه الهُوَه ولَسلاك يَسمَر يَعسِلي باب تناول شعراء الريف لمعاني الفصيح واسعة جداً لو ترسلت في نقل الأمثال منها لاحتجت إلى وقت كبير، ولم يقصر الباحثون في الشعر الشعبي عن نقله ومقارنته بالأصل، وفاتني أن أضم هذه الأبيات:فقد جارى أحدهم قول أبي نؤاس:

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي فقال الريفي:

نحل جسمي وبكت روحي تعالي هبطنه والنــذل بيه تعالي يجـار الدهـر ما أنصف تعــــالي نخلط اهمومنه ونجسم سويه وجارى آخر قول شاعر فصيح:

ولو كان سهما واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث

 قوله: لو سهم واحد جان يمكن أرده لاﭼن ثلاث سهام ياهو الأصده وجارى الحاج زاير الدويج قول الشاعر:

هو الكلب وابن الكلب والكلب جده ولا خير في كلب تناسل من كلب فقال:

طفر بيّه بمسايسته ويدّه وعليّ طالت أنفاسه ويدّه

جلب هوّ أبو مثله ويـدّه من سـابع جد ينبح علـيَه

إنها أبيات فاقدة للحرارة والجمال بل حتى الألفاظ الريفية ذات الحس الملتهب والرنين الموسيقي وفي أغانيهم ما هو مأخوذ صراحة من الفصيح، ولذا يتسم بالركة والفجاجة إذ يدفع في موكب البيت الذي ربما جرى مجرى سائغا عذبا حتى إذا أقحم المعنى المنقول تخاذلت الألفاظ وارتبكت. هذا الذي قال:

متى يا كرام الحي عيني تراكموا واسمع من تلك الديار نداكموا قال مثله ريفي:

مثل غيم الســــخط هي تراكم جتلتوني يعذالي تراكم

إكرام الحي متى عيني تراكم ونداكم بالديار يعم عليه

وقول المجنون:

كعصفورة في كفِ طفل يهينها تقاسي أليم الموت والطفل يلعب

قال مثله الريفي:
آنه اذكركم ودمع الــعين ياهل وبيه ما دريتوا صار ياهل

صرت عصفور جني بيد ياهل اهو يلعب وحر الموت بيه

وللشاعر علي الشرقي هذا البيت:

على الرفق أيتها الماشطات فما بين طياته قلب صب

وأخذ زاير حسين الحياوي منه هذا المعنى وكان مأخذا فجا

بْرفِجْ يا ماشِطاتْ الشعَر بالراح وبگيت أسحن بگايه الراح بالراح

ومن قول احدهم:
احرق بها جسدي وكل جوارحي وأشفق على قلبي لأنك فيه

أخذ الريفي قوله:
أحرگ جميع عضاي مرخص عليه بس لا تمر بالروح يف انته بيه

وإذ قال أحدهم

ولو بات من أهواه وسط حشاشتي لقلت ادن مني أيها المتباعد

وقال الريفي:
ولفي وأغــار عليه من حضـن أمه بگلبي واگول بعيد جان وين أضمه

وحين قال الحبوبي:

اسقني كأساً وخذ كأساً إليك فلذيذ العيش أن نشتركا

رد عليه الريفي:

أتهنه بأول كاس والثاني ليه يشگر لذيذ العيش نشرب سويه وهم يبالغون شأنهم شأن شعراء الفصيح "دمعي سگه البستان بَطِّلْ يدالي"و"متعجب بدنياك مايَك سگه لوح دمعي من اهدّه اليوم للمشهد ايروح تماماً دموع هذا الريفي تسيل حتى تصل إلى –النجف- وهي مرتفع عالٍ ودموع شاعر الفصيح تغرق نوحاً إذ لم يغرقه الطوفان، وتحرق نيران قلبه الخليل:لو صادف نوح دمع عيني غرقاً أو صادف لوعتي الخليل احترقا وفي أحيانا كثيرة يجسد الريفي حياته بسائر ألوانها فيما يقول في أغانيه، كوحدة الأسرة في تعاونها على السراء والضراء."أنت أمي وأنت بوي وأنت أخَي ليه""أنت الگِلت يهواي طش وانه المّك انعادي من عاداك وأشرك بهمك"وإذ يصور مشاعره في أية حالة من حالاته، يستعمل الحياة المادية التي يحياها ويعانيها أو تحيط به جيت لسِماد الدار هلته على راسي تماما كما فعل الشاعر الجاهلي زهير ابن أبي سلمى: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم وإذ يريد أن يتخلص من نفسه بانتقام أسى ولوعةبسيان اطمها الروح واسحگ عليهه وإذا يتألم من حظه في الحياة وما هو فيه من متاعب. يقول:

طرحي بصخر ذبوا ومسحاتي جلت ويعلن تركه الحبيب تركا أبديا، مبتعدا عنه كأنه القاتل حكم عليه بالجلاء بعيدا عن الأهل والعشيرة:

 لدگـول بعد هــواي هذً إصبع وعاب مثل الجتل واجلـوه بديار الجنـاب وقد يتمرد فيعلن تمرده بأغنيته على العقيدة والأولياء: " اگرب من أهل البيت الگمر ننخاه يصبح نبي وينزار الوِلفه وياه ومتولف العباس بس للنذورة" و"هذا الله مال طماع موش الله الأول ويه الفقير يعيــل وعنه تحـول و"اركب سـحير الليل وحارب الله من كون ما يرضاش بالشلفه اغلَه"و"اصعد لبو نجيمات درجه على درجه خافَنَهْ ما يدريش انه اَرْدْ اوَرْجَه[سحير الليل: اسم للخفاش عندهم، اختاره لأنه يرتفع بطيرانه عاليا في الجو، ولأنه سريع وخفيف] وقال مهوال من عشيرة گريط "شت عگل الله وموّت لوتي" (يقصد: أن الله فقد عقله لأنه أنهى حياة لوتي!/ الناشر) ويئست ريفية من استجابة الحسين (ع) لتحقيق أمنيتها فتوجهت لأخيه العباس:

"أردْ أنخه أنا العباس شَيَبني الحسين"

ووقفت إحدى الريفيات على قبر زوجها تعاتب رقيب الأموات وحارسهم عن العودة إلى الحياة:

"يسجان خله يجي" لماذا تحجبه إنه إنسان بسيط ليس له من صفات الرجال الآخرين، إنه ليس من اللصوص ولا من أهل الكرم أيضا:"لاهو الطافر الطوفه ولاهو الطلجه جفوفه""اريده ينفش الصوفه ويسوي للبنات اعبي"وهناك من حاول يطور الأبوذية، فتلاعب بالوزن، والألفاظ معاً:بِدَ وياحس البساگه معادين گوايم مابگه عندي معادين بسيفه سن، عليَ افتن، زغير السن، يزايد فن على عرب ومعادن گرا (قرأه) بالطلسم مگلوب ليَه واضح إن هذا من صنع الذين يمارسون نظم الابوذية كفن، لا ترجمانا عن عواطفهم وأحاسيسهم.ومثل هؤلاء الذين نظموا ما عرف بالملمع. وأنا اعتقد إن الذين مارسوا نظم الملمع في الأغلب هم من المثقفين الذين يرتادون الريف سعياً وراء العيش، أي إنهم من المعممين الذين يقصدون الأرياف للتوجيه الديني وجباية الحقوق الشرعية لأنفسهم قال احدهم:

ولما رأيت الناس للحج أقبلوا أنا الدارك يحلو الطـول حييت

وقبــلت الجدار وبعـد هذا طفت حوله وطويل الليل حييت

أتيتك طـارقا ضيفـا محبـا علامك ماگمت يا تــرف حييت

وما رحبت بي كرما ولطفـا قدوم الـمعتني وگاطع ثنيه

يبدو لي واضحا إن الأصل "أبوذية" أما الفصيح فهو تشطير له، ولذا تجد إن بالإمكان فصل "الأبوذية" عنه، بحيث لا يفقد انسجامه ومعناه. وعلى بعد مابين الريف المصري والعراقي، فقد وجدت تشابها في بعض المعاني في شعرهم الغنائي، لا يبعد أن تكون عفو الخاطر بسبب تشابه الحياة فكلاهما ريفي.من أغنية تغنيها المطربة ليلى مراد:البحر بيضحك ليه ساعة ما خطرتِ عليه عبّر العراقي نفس المعنى بأروع من هذا، وزاد عليه، إذ قال:آضوه الجرف صوبين مِن غَرب هواي وامسَ الهُــوه فرحــان وأتبســم المــاي المصرية ضحك لها البحر حين مرت عليه، أما حبيبة صاحبنا العراقي، فقد عم النور جهتي النهر، وبدا الهواء فرحا والماء باسماً. وقال مصري آخر:

جلابيبوا اگلام اگلام حرمتني النوم انا

غنت مثل هذا المعنى وبأسلوب أروع منه المغنية "مسعود العمارتليه" ثوب الحمر ذبيه بي جـــتلتيني المذهب الوجنات والحنك ديني[ومسعود مغنية من العمارة –محافظة ميسان اليوم- من عبيد الإقطاعي محمد العريبي، تزينت بزي الرجال، وامتهنت الغناء. وعاشت في بغداد كثيرا ورفضت أن تنادى بالتأنيث. وكانت في أغانيها حرارة ولوعة. وفي أسارير وجهها عندما تغني تعبير عميق عن انفعالاتها، وقد صرحت لبعض من تعرف إليها بذلك، منهم أخي حسين وأنا. شعورها بسمة العبودية والاسترقاق كان يؤلمها. لها أغاني تزيد على 39 طبعت في أسطوانات] ولكن لماذا لم نجد الريفي العراقي يستطيع معالجة الشعر مثلما يعالجه الريفي المصري أو اللبناني أو السوري في الشعر الغنائي.شاعر مصر الريفي في الأغنية يعالج موضوعاً واحداً في قصيدة في الحب أو مختلف جوانب الحياة. بينما نجد الريفي العراقي لا يعالج شؤون حياته إلا ببيت أو بيتين لا يجمعها قافية ووزن، بصورة ليس أكثر من الإشارة العابرة والتلميح. يستعرض أحدهم حياته، من شبابه حتى مشيبه، فلم ير غير المتاعب والآلام: گلت انگضت بلواي باول شبابي ما أدري تالي الشيب يكثر عذابي ويتغنى آخر باستغراب، كيف لم يشب، كيف لم يمت؟! وهو لم يجن ثمر غرامه، فاته التمر، وظل حارسا للسعف؟!

لا شــــيب ولا مات گلبي شگواته

ظل بالسعف ناطور والتمــر فاته

ما وراء هم الأول، الذي لازمه في شبابه، وزاد في عهد مشيبه، وما هي متاعب الثاني التي صمد أمامها فلم يشب ولم يمت. واضح إنها ليست هموم غرام، ولواعج حب، إنها هموم حياة اجمعها، في العيش، والحب، والكرامة، مما يعانيه من استعباد، وإذلال، وكدح، وحرمان، بظل الإقطاع، والتقاليد الثقيلة الجاثمة فوقه ككابوس.وليس معنى هذا لا ينظم القصيدة الطويلة. كلا، هذا في الغناء فقط. المغني الريفي، يسبك أغنية لا يجمع أبياتها وزن أو قافية، أو موضوع واحد. فقط يجمعها لحن واحد. كما إنه بالإمكان أن تغنى بالحان متعددة، إنما يضطر –في بعض الأحيان- أن يقدم ويؤخر بين الصدر والعجز. وهو يخلط في أغنيته، ويتنقل، بين هزل وجد، وعتاب، وغزل، وشتيمة، وتضجر من الحياة، والأحباب والدهر، والهموم الثقيلة، التي تضارع دموعه الغزيرة.صبح برس غرگان من دمع العيون [برس يقصد به هنا موقع أثري بين الحلة وناحية العباسية والمعروف إن معناها برج وهو من آثار نمرود ملك الكلدانيين الذي كان خصماً لإبراهيم]أستطيع بعد هذا أن أقول إن السبب الأول في هذه الناحية هو القيود الاجتماعية النابعة من التأثير الديني. فعلاقة رئيس العشيرة برجال الدين الذين يستمدون موارد عيشهم من القرى والعشائر، فهم يقصدون القرى في المواسم، يعظون ويرشدون، وعلى أن أكثر ما يهمهم هو دفع الفلاحين لأداء ما يترتب عليهم من حق اتجاه رجال الدين (الذين ارتبطوا بالعشيرة) لكنهم أيضاً يتطرقون إلى مختلف مهام الشريعة من الأحكام الشرعية في الواجبات، والمحرمات، ومن هذه في رأيهم الغناء.

وثانياً أمية الفلاح العراقي، فبينما كان يمارس الشعر الغنائي في مصر أمثال أحمد شوقي، وأحمد رامي وغيرهم، كان الأديب العراقي يخشى ذلك، لأن ذلك في نظره يخفض منزلته العلمية، والواقع تؤثر على مصلحته المعيشية التي هي باسم الدين. [عملا بهذا غالى بعض الدينيين بالالتزام بهذا لحد إنه رفض الإصغاء للشعر إذا تلي بترديد –كما هو معروف- في حفلات الأعراس في النجف. وقد سمعت السيد عبد الصاحب الحلو وهو أحد ثقاة زمانه، عرف بالزهد والورع. تحدث إنه صرخ بأحد قراء التعزية وهو على المنبر يردد قصيدة رثاء الحسين على العادة المتبعة. كما يروى أن سبب ترك السيد محمد سعيد الحبوبي للشعر إن نقاشاً دار بينه وبين أحد المعممين في مسألة فقهية، وبحقد ولؤم، قال له ذلك المعمم: هذا ليس من اختصاصك، إنما اختصاصك نظم الشعر في الغزل؟! ولكني أخيرا وجدت بعض شعراء النجف كالسيد موسى الطالقاني والسيد جعفر الحلي، قد نظموا شعراً شعبياً كثيرا وتفوقوا وهو أيضا صالح للغناء]ولابد أن يتبدل نظر الريفي يوما ما، ولابد أن تتطور الأغنية عنده فقد تقدم كثيراً من ذوي الأصول ألفلاحيه أو حتى الفلاحين فسجلوا أصواتهم باسطوانات في مختلف الشركات، وأصبح بعضهم من محترفي الغناء.مثل مسعود العمارتلي، داخل حسن، حضيري أبو عزيز، ناصر حكيم وخضير حسن وكثير غيرهم.وسيحاول الريفي أن يشارك بكل طاقاته، ولكنه سيضطرب ويضيع –المشيتين- بسبب تلاقح اللهجات، والاضطرابات السياسية. فويل للأجيال القابلة من ثقل العبء ووعورة الطريق وبعد المسيرة.
 

 

Google

 في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com