دراسات نقدية

 

1- معلم في القرية/ 16من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

 

 

من آراء الوالد حول بعض القبور والمزارات الطارئة: هذه الآثار وهذه القبور –إن صحت- نسبتها أو لم تصح، غدت وسيلة عيش لبعض الناس، وأضاليل ، صيغت عنها أساطير، لم تحرك رجال الدين، ولا هزت عواطفهم نحو الناس ولا نحو الدين. في حين صارت لها في نفوس الناس مكانة الأصنام في أيام الجاهلية، يطاف حولها، ويرتجى منها الشفاء لسائر الأمراض والجنون،  وتنحر لها الذبائح والهدايا والنذور. والويل لمن شك فيها، وتساءل عن حقيقتها  لستُ واقعياً

أجل لست واقعياً. لماذا؟ لأني أولاً لست على قدر كاف من المعرفة والخبرة. كل شيء تعلمته مما يلائم الحياة حالياً كان من سعيي وطموحي الخاص، ولو إني تابعت الخط الذي رسمه لي أبي، لكنت الآن أبعد ما أكون عن الصواب. ولكني حين انحرفت عن ذلك الخط، لم أفكر أبداً، إني إذا لم أتسلح بالسلاح الذي يتلاءم ومقتضيات العصر، فاني سوف لن أستطيع أن أبلغ الشأو الذي أطمح إليه.

كان يجب عليّ أن أتعلم كثيراً. كان يجب أن أثبت أساساً صحيحاً لطموحي في مجال الحياة الأدبية. حاولت أن أحصل على بعثة –مثلاً- لكنني لقيت معارضة قوية من عميد أسرتنا "الشيخ محمد رضا الشبيبي" الذي كان في حينها وزيراً للمعارف. لجأت إلى أخيه، فأبدى استعدادا واستغرابا أيضاً حين أوضحت رفض الوزير لرغبتي على إني أحق من سواي ، لكنه عاد في اليوم الثاني يبرر موقف الوزير [سبق أن رشح اثنان من النجف من أسرتين شهيرتين، فرسب أحدهما وعاد إلى النجف ورسب الثاني وأدعى المرض فسحب إلى لبنان في مصح، وبعد سنة ثانية عين معلماً في مدارس النجف ثم أميناً لمكتبتها!]. إنه يفعل هذا محافظة على سمعته. ذلك إنه أحد أعلام رجال الدين في النجف توسط لشاب  من أرحامه، لدى الوزير في أمر ترشيحه للبعثة، أسوة بمن فعل لهم مثل ذلك [كان أول من رشح للبعثة دون أن تكون لديه شهادة من أبناء النجف هو الشيخ عبد الرزاق محي الدين. وحاولت هذا فرفض الشيخ الشبيبي حين فاتحته. فرد علي بالرفض، إنه كما أعتذر عنه من طلبت منه أن يستوضح منه السبب، أجاب هذا بعد مراجعته، إنه يخشى أن يتهم إنه يعمل بالمنسوبية والمحسوبية! سبحان الله ألست واحداً من أبناء الوطن!؟]. هذا الشاب كان طالباً في الأول متوسط، وفي سن المراهقة، خرج عن الطور بصورة لا تناسب وتليق بسمعته ومكانة أسرته، وكان على جانب مدهش من الجمال، فلما تناهى أمره إلى عمه، سحبه من المدرسة، وألبسه عُمّةً، ليحد من طيشه وانفلاته. ثم ارتأى كبير أسرتهم، وهو رجل دين تربطه بالوزير علاقات قديمة وثقى أن يتوسط أمر ترشيحه لبعثة إلى مصر. مادام طموحه يختلف عن نهج أسرته، وبعد هذا أغلق هذا الباب [نقل قريب له –للشاب- إن حقيقة الرسالة التي قدمها للشبيبي لم تكن من قلم قريبه –رجل الدين- وإنما الشاب قلّد خطه وتوقيعه، أي إنه زوّرَ!]. غير إن بعض الشباب النجفي ذوي الطموح، من الذين سئموا نهج الحياة القديم في العلم والأدب، ورفضوا الحدود التي يفرضها ذلك النهج، رفضوا الجمود الذي يلازم حياة من يدرس للدين، ورفضوا أن يعصبوا عيونهم ويحجبوها عن نور الحياة الجديدة، فباع بعضهم  ما يملك، وشدّ الرحال إلى مصر، ليدرس على حسابه، والتمس بعضهم –بعد عام- مساعدة وزارة المعارف، فحصل على ذلك [منهم محمد الهاشمي الدكتور الآن وأستاذ التأريخ الإسلامي في كلية التربية. وعبد الكريم الدجيلي، الذي أثبت جدارة فائقة في نهجه. وإبراهيم الوائلي وهو مثل رائع في جهوده ومواصلة البحث والتأليف مع الاستقامة والالتزام بالفكر التقدمي]. أما أنا فلا أملك شيئاً فأبيعه، فلزمت الوظيفة. ولكن أما كان الأصح أن أتوسع في المعرفة، وأتجرد عن كل مطمح سوى ما يساعدني على اللحاق بالآخرين؟!

منذ أكملت عقد القران، انصرفت لإيجاد ما يلزم لإكمال أمر الزواج. لم أملك إلا بضعة دنانير، لا تكفي لشراء أبسط حاجة، والسلفة لم تنجز بعد. أستبد بي خيال أهوج، لو كنت واقعياً ما أستبد بي، وسولت لي نفسي أمراً جسد لي فيما بعد، كم أنا ضعيف عاجز. أحاطني ظلام، لم أعد معه أبصر الطريق، عيلَ صبري، وغاب عني الوعي، وفقدت الثقة بنفسي، كدت أخطئ خطأ حسبته الصواب، وصممت العزم على ارتكاب ما هو الجبن بعينه، متوهماً إنه الشجاعة الفذة.

أحضرت قنينة خمر كاملة، واستعرت مسدساً انكليزياً مع رصاصات. قلت لصاحبه: "أريد التخلص من قط ينافسني على طعامي، فيسطو عليه ويحرمني منه!". بدأت أشرب، أكملت ربع القنينة وأمامي وريقات رحت أسجل عليها بواعث ما أنا مقدم عليه، لم أعد أشرب أكثر من هذا المقدار، ولمرة أو مرتين في الشهر. لكني وجدت نفسي الآن بتمام الوعي. أبداً لا نشوة ولا خدر، ومضيت أحتسي بكأسي الأبيض المشرب بلون أحمر وردي، يخف تدريجيا ويتلاشى حين يتجاوز منتصفه. ومضيت بالكتابة أيضاً. اتهمت الحياة، بأنها قاسية معي، أنا الذي أحمل للناس المحبة، وقلبي الذي يضم صورة الحبيبة يفيض أيضاً بالحب للناس كل الناس!

يبدو إني أجهل، لحد هذا الوقت، إني أجهل المعنى الصحيح للحب. لأني لم أقدم للناس أية خدمة. وحسبت الجهد الذي أبذله في وظيفة التعليم –خدمة كبرى-. لا بأس، إنه في الواقع خدمة، وخدمة جليلة أيضاً، ولكنها خدمة مقيدة بقوانين ونظم الفئة الحاكمة، وحكمها –كما أنا أعرفه- لصالح الطبقة السائدة، لا الطبقات العاملة والكادحة. ومن وراء هذه الفئة الحاكمة، المستعمر المسيّر لها وفق مصلحته الاستغلالية.

أخذت ألح في الشرب، وملأت عدة صفحات، فلم يبق لدي شيء أكتبه، وتكاد القنينة أن تفرغ إلا من صبابة، من جرعة واحدة. ولكني كنت أحس بوعي تام بالجريمة التي أريد ارتكابها.

مثلت نفسي في ركب العشاق الخالدين، مجنون ليلى، قيس بن ذريح، جميل بثينة، توبة الحميري. إني لم أكن أقل منهم لوعة وأسى، وهياماً، سأترك الشعر الذي نظمته عن حبي وحبيبتي، عن سهري مع النجوم والقمر، عن الوحدة التي ألفتها في ليالي الشتاء.

ثم ماذا؟ أخيراً، مددت يدي إلى التقويم المثبت على الجدار، تناولت ورقة اليوم، لتسجيل تأريخ وصيتي. آه، إن إحساسي طاغ، يصرخ بي: جبان جبان، تب إلى رشدك! تشاغلت، قرأت حكمة كتبت على ظاهر الورقة، يا للغرابة المدهشة، يا للصدفة العجيبة، الحكمة كلمة للجاحظ  بعنوان الانتحار. إنه يسمي المقدم على الانتحار جباناً، يلومه على ما يريد، إنه بدل إقدامه على الموت، عليه أن يجدّ للتغلب على المصاعب التي تعترض سبيله، وتحول بينه وبين ما يتمنى، عند ذاك يكون من حقه أن يفخر بإنسانيته ورجولته. أما الموت لابد إنه آتياً يوماً، فلمَ يتعجله، ويموت كما تموت حشرة! [كان التقويم جدارينا باسم الهاشمي، وكان مسجل فيه على ظاهر كل ورقة ليوم واحد حكمة. وعلى إني احتفظت بورقة ذلك اليوم، إلا إني لظروف خاصة فقدتها مع كثير مما سجلته من أجل هذه الذكريات] 

وكأني أفقت من حلم، خجلت من نفسي، كدت أبكي أسفاً من ضعفي، مزقت الوريقات، حملت المسدس، وصعدت به إلى سطح الدار، أفرغته من خراطيشه، ورميتها في الظلام دون تعيين اتجاه، وأغلقت باب الغرفة واستسلمت لنوم عميق.  

مسجد الكوفة

على قرب النجف إليّ، فاني كما أسلفت صرت أقضي أيام الأسبوع في الكوفة. المقاهي على جانبي سكة "الترامواي" تعج بالرواد عصراً، إنها تكتظ بروادها بشكل مدهش، مع وجود مقاهي في شارع النهر. وإني لأجد لذة ومتعة في الجلوس في مواجهة النهر، ومنظر بساتين النخيل في الضفة المقابلة، والسفن الراسية على ضفته من جهة المدينة، حيث تكثر مخازن الحبوب، ومجارش الرز والمطاحن، وأتخذ مالكوها طابقها العلوي مساكن لهم  عند الفراغ من مشاغلهم، وبعضهم لعائلاتهم أيام الربيع حيث يطيب الهواء، بينما أشغل بعض الموظفين بعضها أستئجاراً. [كان بين النجف والكوفة ما يسمى "ترامواي"، عربات تجرها الخيول. تمشي على سكة من حديد. تقطع بثلاثة أرباع الساعة. وقد تأسست عام 1907 وقلعت عام 1949]   

الكوفة مربع النجفيين، يقصدونها أيام الربيع والخريف، فتنتشر العوائل في بساتينها نهاراً، وعند المساء، يعرجون على مسجدها الشهير الواسع، حتى يضيق بالزائرين. تمتلئ غرفه الصغيرة ذات الأواوين، والساحة الواسعة أيضاً. والمقامات  المنتشرة فيها خير ملجأ للعوائل التي يفوتها أن تحجز غرفة خاصة لها [تنتشر في ساحة مسجد الكوفة مقامات تنسب لبعض الأنبياء وإنهم صلوا هنا، فلهم محاريب]. إن أكثر أيام الازدحام تكون في الزيارات  التي تصادف فصلي الربيع والصيف. وبعد الزيارة والأدعية تبدأ الأسمار، مناظر تبهج الخاطر، وتسلي المحزون، حتى الأطفال يأخذون حريتهم التامة، فساحة المسجد تتسع للعبهم غير المحدود [يقصد الكوفة في مواعيد زيارة الحسين في كربلاء العوائل التي لا تقوى على نفقات السفر إلى كربلاء، وتجد من المتعة مالا تجده في كربلاء].

سور المسجد المرتفع ومن طراز قديم، متماسك وقوي. قال لي بعض سدنته، إن جميع جهاته نالها تصدع، وشملها ترميم وتجديد، إلا هذه، وأشار إلى الجهة التي هي على يمين الداخل إلى المسجد من الباب الخاص به. فإنها –كما يقول- على حالها القديم! هذا كلام، فالظاهر غير هذا. تدل عليه أرضية الجامع، إنها منخفضة بالنسبة لمستوى الأرض الحالي، فالثابت والمعروف، إن العالم المعروف "محمد مهدي بحر العلوم" سعى إلى ردمها بالرمل، وترك بقعة منها [يسميها الناس "سفينة نوح" والتسمية من ادعاءات جهال خدم المسجد، وربما حثوا سذج الناس على التبرك بلمس جدرانها، كما إن على سطح هذه البقعة اسطوانة من رخام، يقال: إن بحر العلوم قد ثبتها كشاخص يتعين به الزوال لموعد صلاة الظهر، لعدم وجود الساعات آنذاك، ولكن جهال خدم المسجد يشيعون إن الإمام علي رماها من البصرة. ويخدعون السذج من الناس وخصوصاً القرويين. وجدتهم يحثون القروي أن يدير ذراعيه حولها فإذا التقت أصابع يديه، قالوا له إنك ابن أبيك بلا شك ومن أهل الجنة، وإلا فـ ....! ومن لم تحمل من النساء تلفها أيضاً بذراعيها وتلصق عليها بطنها؟!]، صارت كالسرداب فيها أواوين وجدرانها محلاة بالكاشاني، لتدل على المستوى الأصلي للمسجد. وحين نقبت دار الآثار عن –قصر الأمارة- المجاور للمسجد من جهة النجف، وجدت إن أرضية القصر مساوية لأرضية تلك البقعة ومنه ممرات تنتهي بأبواب تتصل بالجامع. المعروف إن أمراء المسلمين الذين يقيمون في القصر، كانوا يدخلون المسجد من تلك الأبواب.

في المسجد، بأحد أواوينه بجوار قصر الأمارة، منبر ضخم، ومصلى له باب مصنوع من البرونز بشكل جميل، يقال إنه مصلى الإمام علي ومنبره، وهنا يجتمع كثير من المتعبدين للصلاة والدعاء.

وما يقال عنه بيت الإمام، يشتمل على أواوين صغيرة. وجدرانه مزدانة بالكاشاني. وعلى بعد مسافة من بيت الإمام، بناية، يقال: إنها بيت الصحابي "ميثم التمار" وفي أحد الأواوين المجاورة لقبر "مسلم بن عقيل" مكان شبه سرداب، له باب من حديد صغير مشبك يسميه الناس"طامورة" ويزعمون إنها المكان الذي سجن فيه الثائر المعروف "المختار بن أبي عبيد الثقفي" وتقصده النساء، فيعقدن في رمانات مشبك الباب الخيوط، علامة لما يرتجينه من هذا المكان الذي صار مقدساً بسبب السجين الثائر.

ومسجد سهيل، الذي يبعد مسافة غير قليلة عن مسجد الكوفة، إنه واسع مثل مسجد الكوفة. يقصده الناس مساء كل ثلاثاء، ويبيتون هناك للأدعية والصلاة الخاصة، وفيه مقامات، ومقام عليه قبة، يقولون: إنها مقام الإمام المنتظر. وفي طريق الذاهب إلى جامع سهيل من الكوفة عن يمينه دكة، يقال: إنها "كناسة مسجد الكوفة" المحل الذي صلب فيه "زيد بن علي بن الحسين".

ويقصد مسجد الكوفة في أيام من شهر شعبان بعض العلماء والمتعبدين، فيقيمون أياماً يسمونها "الاعتكاف"، أي إنهم يقصرون أيامهم على العبادة، عبادة خاصة، يسمونها "عمل أم داود؟"

ولرجال الأدب والشعر والظرف في مسجد الكوفة لياليهم العامرة وقد خلدوها بأشعارهم وذكرياتهم.

وقبل المسجد بمسافة قليلة قبة بيضاء يحوطها سور، القبة تعلو مساحة غير واسعة مظلمة، يقال: إنها قبر خديجة بنت الحسين [حين شغل إدارة ناحية الكوفة "لطفي علي"، وكان رجل إدارة وعمل. ومهما كانت نواياه التي رُمي بها، فقد خدم فيها ناحية الكوفة، وقام بجملة إصلاحات، منها إنه أزال سور البناية، وأحاطها بحديقة جميلة، وفتح للقبة نوافذ نورتها فتحولت إلى منظر رائع].

هذه الآثار وهذه القبور –إن صحت- نسبتها أو لم تصح، غدت وسيلة عيش لبعض الناس، وأضاليل ، صيغت عنها أساطير، لم تحرك رجال الدين، ولا هزت عواطفهم نحو الناس ولا نحو الدين. في حين صارت لها في نفوس الناس مكانة الأصنام في أيام الجاهلية، يطاف حولها، ويرتجى منها الشفاء لسائر الأمراض والجنون،  وتنحر لها الذبائح والهدايا والنذور. والويل لمن شك فيها، وتساءل عن حقيقتها.

ومن الغريب أن تجد بناية واسعة أيضاً في شارع النهر. داخلها ضريح له مشبك، يقولون عنه إنه قبر"النبي يونس" أو إنه هنا قذفه الحوت الذي أبتلعه، بعد أن ساح به سبعة أبحر. وإنه لم يقذفه من جوفه إلا بعد أن استغاث باسم الإمام علي؟!

قال لي الفراش حسن أنا يا عم كبير السن، وقد سمعت من جدي -المعمر- إن ضفة النهر كانت مكان هذا السوق [سوق آل شمسه الذي يتصل طرفاه بين شارع النهر، ومدرسة الكوفة الابتدائية "جابر بن حيان" حالياً]، فكيف شخصوا هذا المكان المزعوم؟ علم ذلك عند الله وفي ذمة رجال الدين تنتحل هذه الأضاليل.

دين ومصالح

سوف يحل في بيتي من يعمره قريباً. سيتحقق الأمل الذي عملت لأجله. فقد وافقت مديرية أموال القاصرين على قرضي مبلغاً يساوي ثلاثة رواتب. أستطيع أن أتفق مع أحد أصحاب المخازن فأدفع له مقدمة، وأقسط الباقي، فأدفعه شهرياً. سجلت الحاجات الضرورية المطلوبة ضمن المهر المرسوم، وما أبتغيه أنا من ضرورات البيت. وشغلت بالرواح والمجيء بين الكوفة والنجف. كل حاجة أشتريها أحملها مباشرة إلى بيتي في الكوفة، ثم أرتبها في موضعها الخاص. كان انشغالي هذا لهواً لذيذاً، جعل أحلامي أكثر زهواً وجمالاً. كنت أحياناً وأنا أرتب أثاث الغرف، والحاجات، أدندن وأغني، وكأن لا أثر للوحشة التي كانت تخنقني في هذا البيت نفسه. حتى القطة التي تحضر إلى البيت عندما اجلس للغداء أو العشاء صرت ألاطفها، وأنا أرمي لها شيئا من الطعام. ذات مرة قلت لها كمن يعتقد إنها تفهم ما يقول: "في الأيام القريبة ستقيمين في هذا البيت مدة أطول في كل يوم. ربما ستضعين صغارك في إحدى زواياه، وتكونين أنيساً لربة البيت، ساعات غيابي عنها ودوامي في المدرسة". ثم أضحك من نفسي. ويح الشباب، إنه الخمرة التي تشرح خاطر الإنسان، وتشيع فيه الطرب، والقوة، فيسير مؤمناً بالحياة دون مناقشة لأوضاعها المتناقضة في سائر الأحوال. لولا الشباب وحيويته لن تكون الحياة مستساغة، ولا معنى لها، لولاه ما تركزت حياة الكهول والشيوخ، ولما صار لما لديهم من تجارب وحكم، أي قيمة واثر يعالجون به شؤونهم وشؤون المسؤولين عنهم.

العقل وحده لا يدفع الشاب لعمل أمر ما، ذلك لأن عواطف الشباب أقوى من عقله، ربما كان العكس لو إني مثلاً ألزمت نفسي بما يوحيه لي عقلي، لما أنجزت أبداً أمر زواجي هذا، بدافع الطاعة التي يأمرني بها العقل لأوامر أبي بهذا الشأن. أنا وأياه مختلفان. كل منا ينظر الموضوع من زاوية نظر معاكسة.

إني أقبل أن يكون مستقبلي جحيماً، لأنه من صنع يدي. وأرفض أن يصور لي المستقبل فردوساً، إن لم يكن من صنع يدي أنا.

حين كان اليأس قبل شهر يغمرني، كنت أتصور إن الحياة لا معنى لها أبداً. وكل دهسة أو عثرة تحدث لي، تزيدني سخطاً وغضباً. أما الآن فأنا أضحك بمناسبة ودون مناسبة، حتى مع هذه القطة، من المؤكد إنها لا تفهم من حديثي معها شيئاً، لم تفهم إلا العظم الذي أرميه لها، والآدام الذي أقدمه لها في إناء.

شيء غير مريح حدث لي يوم زيارة المفتش "محمود شكري الآلوسي" لو لم أكن في مرحي هذا الذي يغمرني، لاعتبرته، واحداً من مآسي الحياة، ودليلاً على عدم جدواها. دخل علي الصف الثالث، كنت قد رسمت سطرين عن الخليفة الأموي "عمر بن عبد العزيز"، كان أسمه أحد مواد منهج الدراسة في التأريخ لهذا الصف ، دون أن يقرّر كتاب خاص بموجب المنهاج [إذ ذاك الزمن كان التأريخ من جملة ما يدرس للصف الثالث الابتدائي. وعن شخصية عمر بن عبد العزيز نقلت باختصار إنه لم يحدث بأيامه فتح، شغل بترسيخ العدل بين الناس، ومن حسناته إنه رفع السب عن الإمام علي بن أبي طالب]. فاعتمدت على كراس صغير في مكتبة المدرسة. وبعد انتهاء ساعة الدرس، دعاني المفتش لمناقشتي، أهم ملاحظة كانت لديه، هي ما ذكرته: "إنه رفع السَب عن الإمام علي". قال: "إن هذا يشعر النشء بأن هناك في تاريخنا من كان يجرأ ويشتم الإمام. وهذا مالا يصح أن نذكره....".

- حسن يا سيدي "المفتش" ولكن هذا ما حدث في تأريخ الخلافة الإسلامية أولاً، ولان لا يوجد كتاب مقرر أعتمد عليه ثانياً، وأخيراً إن في منهاج الدراسة الابتدائية للتأريخ، وعما لقيه الإمام ما هو أشد من الشتم. في منهج التاريخ للصف الخامس مثلاً، حرب الجمل، وحرب صفين، وفي الوقت الذي يشجب فيه الشيعة إسلام الذين قاموا بهاتين الحربين، يعبر السنة عن رجالها أولئك بقولهم "رضي الله عنهم" إذا ذكر طلحة والزبير وعائشة ومعاوية، وأنت تعلم يا سيدي إني نفذت مواد منهج لم أضعه أنا؟ [الشيعة لهم رأي ويناقض رأي السنة فيمن حارب الإمام علي حيث يقول بعض مذاهب السنة: "الزبير وقاتله في النار" وفي خصوص عائشة يستثنوها لكونها من أزواج النبي. يقول السيد مهدي بحر العلوم "وعائشة سبابها محرم"]

وحين أنهى المفتش زيارته وجدته قد ثبت رأيه في ملاحظاته بالدفتر الخاص بزيارة المفتشين. وبعد أيام وصلت التقارير فكانت تضم أيضاً رأيه رغم ردّي في حينه، ولكني صممت العزم على كتابة ردي رسمياً إلى الجهات المعنية.

وشجعني على هذا، إن زار المدرسة "السيد طه الراوي" ومن الصدف إني أشغلت الصف الخامس مكان المعلم المختص الغائب، وكانت مادة المنهج موضوع الدرس، حسب خطة المعلم المذكور "حرب الجمل"

كان الأستاذ يصغي إلى أسلوب تدريسي، وقبل أن يغادر الصف صافحني مبدياً إعجابه، فلم يفتني أن أذكر له موقف المفتش، فعلق الراوي: لست مخطئاً فأنت مقيد بمنهج وكان عليه أن يقدّم ملاحظاته على المنهج لا عليك.

لقد تملكني، وأنا أتشدد في رأيي ذاك، شعور طاغ، واعتداد بشخصيتي، وفعلاً نفذت عزمي وقدمت ردي بواسطة المدرسة إلى مديرية المعارف لترفعه إلى الجهة المعنية.

ومدير مدرستي صاحب شعار "الإدارة بحر!"، أو كل من يقعد وراء منضدة الإدارة كفؤ لها. هذا المدير رأى إحراجا كبيراً في تقبل ردي. وإن كان قد فسر رأي المفتش، بأنه نتيجة لطائفيته، وليس لتنزيه التأريخ من تلك الشوائب.

الواقع إننا مبتلون، بهذه العنعنات الطائفية، والتي هي تركة ثقيلة تركها لنا حكام المسلمين، والذين دونوا التأريخ تبعاً لأهوائهم، فكانت تلك إحدى العقبات التي تحول –ومازالت- دون وحدة العرب، وتفت في قواهم، وتسهل للاستعمار سبيل البقاء.

أية سلطة متحيزة سوف لن تستطيع أبداً جعل حياتنا على الخط الصحيح في المسيرة الطويلة نحو الحرية والاستقلال، وبناء مجد الأمة اللائق.

والمضحك المبكي في مسألة عقائدنا، إن الذين يغذون الناس عندنا بالتأريخ المشوه المضطرب، المثير للأحقاد والضغائن الطائفية، هم أنفسهم وفي ذات الوقت أنصار متحمسون في مجال السياسة والقضية الوطنية!؟.

فبم تفسرون هذه الازدواجية؟

 

 

 

Google

 في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com