الدرب الطويل/ 13
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)
لماذا أرشد؟!
نعم، لماذا أرشد -تشكلت وزارته في 1/6/1946-؟ للسيد الوكيل العام أعوان كثر، ينتظرون دورهم، كل مع قطب معلوم، يبدو وكأنه شخصيته مستقلة لها كيانها الخاص، وكأنه يتمتع بسمعة وطنية خالصة. ولكن أرشد؟ أرشد -أمين العاصمة- ويعرف الكثيرون عنه ما لا يجعله جديرا حتى بهذا المنصب، يعرفه سواق السيارات، ويعرفه فراشو الأمانة أيضاً. انه شخصية مهزوزة. كان سواق السيارات يستخفون بشخصيته. فإذا صادف
مروره بشارع الرشيد، استعملوا المنبه في سياراتهم على لحن أهزوجة فاحشة، كان قد أوصلها بعض صحبه أثناء سهراتهم التي حدثني بعض خدمهم عنها إنها أقرب إلى سهرات العاديين منها إلى اقل محترم.
وحدثني واحد، إن السيد الرئيس الجديد، أبصر مرة فراشه الخاص، راكباً عربة، ومرتدياً بزة بيضاء وبيده مسبحة من نوع الكهرب فثارت فيه روح الأرستقراطي. وفي اليوم التالي استدعاه فأنبه بكلمات احتقار، ثم قدم له كتاب فصله من الخدمة؟! أعتذر المسكين موضحاً إن ذلك من حقه فهو إنسان وشاب ولم يحصل عليها من "رشوات"، إنها من المحسنين الذين يزورونك، لاحترامي لهم. فلم يجد اعتذاره. وفي اليوم التالي، دخل عليه، فأغلق الباب من الداخل، ورفع بيده مسدساً هدده به انه سينهي به حياته إن هو لم يلغ أمر فصله، وبدا السيد على حقيقته من الجبن، فكان يتوسل توسل الجبان الذليل، وتم للفراش ما أراد. وفي وقت عصيب حيث طغى
دجلة، فكانت كارثة حلت بالمزارعين، جعلت أنينهم يتعالى. فهو أذن قرين سوء لهذا الحدث، هو فيضان هاجم الأحرار والحريات، الحريات الضئيلة الكسيحة.
تقدم كجني أنطلق من قمقم. وكما أراد له سيده، الذي لم يَرَ أهوجاً مثله يتحمل مسؤولية تتحرج جميع
الوجوه -ألأراجوزية- أن تقدم على تمثيلها.
فأستهدف في المقدمة عصبة مكافحة الصهيونية، والهيأة المؤسسة لحزب التحرر الوطني. فعطل جريدة عصبة مكافحة الصهيونية بحجة نشرها دعوة الهيأة المؤسسة لحزب التحرر الوطني إلى إعلان الإضراب، وزج بأعضاء الهيأة المؤسسة لحزب التحرر في التوقيف. وهاجم الصحافة الوطنية، فأنذر بعضاً، وسحب امتياز أخرى، وأنذر ثالثة، ولفت نظر إلى ثلاث جرائد، وعطل جريدة حزب، وصادر أعداد مجلة قبيل صدورها. ثم عدا على الصحافة الحزبية، وأحال مديري ورؤساء تحريرها إلى المحاكم!؟ فقد أنذر جريدة الرأي العام في
7/6/1946 لنشرها خبر وصول قوات إنكليزية إلى ميناء البصرة. وعطل جريدة صوت الأحرار في 20/6 ولفت نظر جريدة البلاد والنداء وصوت الأحرار لسان حزب الأحرار. وصادر العدد 11 من مجلة الوادي قبيل صدوره. وامتدت يده إلى الصحافة الحزبية فعطلها، وأحال رؤساء تحريرها إلى المحاكم رغم إن القانون لا يجيز تعطيل صحف الأحزاب السياسية إلا بحكم المحكمة. وعطل جريدة السياسة جريدة حزب الإتحاد الوطني في 21/8 وقدم رئيس الحزب الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم للمحاكمة بسبب نشره أربع مقالات بالعناوين التالية "أيام كأنها الدهر" في 7/8 و"ماذا وراء حادث سنجار؟" في 13/8 و"تحت ستار الحملة على الشيوعية" 19/8 و "معضلة سوء الفهم وفخامة رئيس الوزراء" في 20/8.
وفي 1/9 قدم للمحاكمة الأستاذ ناظم الزهاوي المدير المسؤول لصحيفة حزب الإتحاد الوطني لنشره مقالاً
بعنوان "مذبحة كاورباغي" كما قدم عدداً من قادة الإتحاد الوطني ممن كتبوا مقالات في السياسة وهم، شريف الشيخ، عبد الله مسعود، موسى الشيخ راضي. وكانت التهمة، أن المقالات كانت تشجع على كراهية الدولة. وأقام دعوى أخرى على الزهاوي وعبد الله مسعود لنشر الأخير مقالاً. وانعكست هذه السياسة على العاملين في الصحافة، فأعلنت نقابة المطابع إضرابا عاماً في 5/9 أستمر 9 أيام، لم تصدر خلالها غير جريدتين هما "العالم العربي" و "الأخبار" تولت الحكومة طبعهما في مطابعها، وقام بتوزيعها مفوض شرطة فشكرته الحكومة!
لم تقف القوى الوطنية مكتوفة الأيدي تجاه هذا الاندفاع الأرعن، ليثبت لسيده انه كفوء لرئاسة الوزارة، أكثر مما هو -أمين عاصمة- ولعل السيد قد ضرب عصفورين بحجر!
نوري السعيد أراد بإسناد رئاسة الوزارة إلى أرشد -في رأيي- أولاً ليكشف شخصية أرشد المهزوزة
للعراقيين، فربما كان يعرف عنه رغبته فيها. وثانياً، انه لم يجد شخصية سياسية تقوم بمثل ما قام به أرشد. فقد كانت أعماله نقمة حاقد على السياسيين والشعب. وبحجة مكافحة الشيوعية، صب حقده على جميع الفئات الوطنية وأخيراً ليمهد لمجيئه بعد هذا مستريحاً بجهود غيره!. فقد قدم نوري مهووساً لم يعرف أحد قبله
بمثل ما عرف به من عدم احترام الشخصيات السياسية -على اختلاف- اتجاهاتهم، حتى الذين هم محسوبون على السيد الوكيل العام. فكانت افتتاحيات الجرائد الوطنية، وكانت المقالات بعناوين تعبر عن جرأة بالغة، وصراحة متناهية، تعبر عن مدى احتقارها له ولإجراءاته التي لم يحدث أن أقدم عليها من قبله أحد، لأن الآخرين كانوا على أية حال يحترمون أنفسهم، ويحسبون حساب المستقبل، كما يبدو إنهم ينظرون إلى بعيد أيضاً.وحين تفجرت مظاهرة صاخبة احتجاجا على المظالم الجارية في فلسطين، استعملت الشرطة السلاح
لتفريقها بعد أن لم تجد هراواتهم نفعاً. وكان حادث المظاهرة التي جرت في 21/6/1946 قد نجم عنه قتل خمسة أشخاص منهم طالب وعاملان وجندي وطفل. وفي 8/6 قامت جمعية العصبة وحزب التحرر بمظاهرة حاولت الشرطة تفريق المتظاهرين عدة مرات فقاوموها فردت عليهم بالسلاح. جرح وأصيب عشرة منهم مات أحدهم. والذي عرفته إذ ذاك إن الأحزاب الأخرى لم تؤيد هذه المظاهرة. وكان الموقوفون من أعضاء حزب التحرر قد أعلنوا إضرابهم عن الطعام فتدهورت صحتهم حين بلغ يومه الـ 27 فنقل بعضهم إلى المستشفى وأشيع إن حسين محمد الشبيبي قد مات نتيجة إضرابه وامتناعه عن نقله إلى المستشفى. فتجمعت جماهير الحزب في ساحة باب المعظم ليقتحموا السجن ويأخذوا جثمانه عنوة. وأتضح لهم عدم صحة الخبر فساروا متظاهرين، يهتفون بسقوط الوزارة. وفي كركوك نظم عمال شركة النفط -تموز 1946- أعظم إضراب من أجل
مصلحة الوطن ونهب المستعمرين لثروته النفطية. كان الإضراب من أجل زيادة الأجور، ومطالب أخرى تخص حياة العمال. والحقيقة أن الإضراب كان بتنظيم الحزب الشيوعي. وكان مضربا للمثل في الاندفاع والبسالة. وفي 12 تموز دبرت الحكومة مجزرة ضد العمال، وقد هز الاعتداء على العمال كل الفئات، وعم الاستنكار كل القطر للسياسة الهوجاء التي سار عليها أرشد. وقتل أكثر من 16 وأصيب العشرات فأعلنت المدينة إضرابا عاما. وهبّت شرطة أرشد يواجهون العمال العزل بهراواتهم الغليظة ثم بالسلاح. فكانت صيحة
الوطنيين من رجال الأحزاب داوية هزة كيان الحاكم الأهوج. كانت اعتداءات الشرطة قاسية ومكشوفة لم تستطع وزارة الداخلية أن تعتذر عنها، وقد أستنكرها حتى مؤيدوا الوكيل.وفي هذه الظروف أي في عهد الوزارة
الأرشدية، ووزارة نوري التاسعة التي همها التهيؤ لتجديد معاهدة 1930 بأشد منها وأقوى أغلالاً، والتي نشط حزب التحرر الذي تزعمه حسين لفضح الأساليب التي يتوسلون بها إلى الغرض اللئيم. أندفع بها حسين وحزبه إلى خوض غمار السياسة بحرارة واندفاع شديدين، بين نشرات يصدرها باسم "رسائل التحرير" وبين مؤلفات عن المعاهدات البريطانية العراقية، والتي هي سلاسل وأغلال، وسيطرة على الذهب الأسود. وبين خطب يدعى لإلقائها في الحفلات وفي جمعية "عصبة مكافحة الصهيونية" ومظاهرات صاخبة يثيرها ليكشف الأحابيل التي يظهر بها الاستعمار -ثعلباً- ترك الخداع وتزيا بمظهر الزاهد التقي. في هذا الوقت بالذات نشرت جريدة "السجل" بتأريخ 20/10/1946 كلمة تعتبر من أردأ ما يفكر به أعداء الحرية، هذا نصها "آل الشبيبي عائلة عريقة في توارث العلم الديني. وليس من المعقول أن يكون في أفرادها شيوعي واحد. وبناء على ذلك فقد اتصلت بنا شخصية شبيبية كبيرة في دائرة رسمية، والتمست منها أن تنبه الصحفيين بأن ما تنشره عن حسين محمد إنما هو خارج عن هذه العائلة، إذ هو من عائلة أخرى، ولا صلة قرابة له بهذه العائلة"!؟.وقد أرسل
حسين الجريدة إلى الشيخ الشبيبي. وكتب التراجم النجفية وغير النجفية تعرّف من هو والد حسين. انه الشيخ محمد ابن الشيخ علي الابن الأكبر للشيخ محمد والد الشيخ جواد وأخوته الآخرين: حميد، عبد الرضا، وعبود.نحن ندين بالقول المشهور "إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي"
والحديث الشريف يقول: كلكم لآدام وآدام من تراب. ولا يسرنا أبداً أن نحسب على آل الشبيبي، وليس لنا في الجهاد، آو دار العلم والأدب مكان.وما قاله الشبيبي الشيخ محمد رضا:
كأن ســر الحيـــاة المستكن بنا صفية من صفايا الواحد الأحدفمن جدودي لآبائي الألي لأبي إليّ
ذاهـبــــة مني إلى ولــديسر الحياة هذا ليس خاصاً ولا وقفاً على آل الشبيبي وحدهم. انه لكل من
يفهم الحياة وما يترتب عليها من واجب إزاء نفسه، وإزاء وطنه وأمته. مضافا إلى هذا إننا نعتقد إن الشخصية الكبيرة أجل من أن يصدر عنها الذي تقوله جريدة "السجل" وفي هذه الظروف بالذات الذي هبّ فيه كل ذي شعور وطني ضد تجديد المعاهدات الظالمة، ونحن من ضمن أولئك العراقيين الغيارى، أحزاباً وأفراداً، ثم لا نجهل نحن ولا المسؤولون في جريدة "السجل" إن في آل الشبيبي، كما هو في كل الأسر والعوائل، من هو من رتب البرجوازية، وله تفكيرها فلا غرابة، أن يتنصل ويدعي، ورغم كل هذا، ورغم أنف من يؤمن بصحة هذا ويصدقه، نقول "إنا من الأسرة من صميمها، وأبونا والشيخ الشبيبي أبناء عم كما يعبر الشعبيون "لحّ" -أي لحاء الشجرة-!". ومن المضحك أن تقوم الحكومة العراقية في هذه الظروف بدعوة أم كلثوم لتحيي حفلة!
وربما كانت لإغاثة منكوبي الفيضان. وبمناسبة مقدم أم كلثوم نشرت قصائد كثيرة من الشعراء يحيون بها أم كلثوم، الزهاوي، الرصافي، محمد باقر الشبيبي. لكن الشبيبي الكبير الشيخ جواد، كان حينها طريح المرض ملازماً فراشه، هزه مقدم أم كلثوم فشارك هو الآخر بقصيدة خالف كل من حياها من الشعراء فهو عاتب متألم، وآسف، أستغرب الغناء والطرب في وطن يئن شعبه من ظلم الاستعمار وأعوانه، أقتطف منها هذه البيات:تغردين وذي الأوطـــان ما برحت تبكي لتــــذكار توزيـــع وتقســــــيم
قد هيــأ الظافـر المنهــوم دعــــوته منهـــا لكل عميق الشــدق مقـــروم
تذوقــوهـــــا ولم تبـــرد لهــا يزع وباغـتــوهــــا بتخصيص وتســهيم
سيان للهاجس المحزون في وطني ترنيمة الــورق أو تنعــــا به البــوم
هــذي البـــلاد فمعـــدوم بلا جــدة إن طفت فيهــــا وموجود كمعــدوم
قمـرية الـدوح
قومي واندبي اممـا مخنوقة الصوت في أوطانها قوميإن فيضان دجلة والفرات مهما دمّر من
مزارع وقرى، فإنه أيضاً يخلف عطاء ويلئم جراحاً مما يزيد الأرض قوة وحيوية من غرينه ومائه. أما طغيان أرشد وقد عم العراق فقد ترك آثاراً لن ينساها الناس أبداً. ويبدو أن أرشد شعر برأي الناس في وزارته، فحاول أن يتملق الأحزاب، وينفي ما دار حول وزارته، فصرح "إن وزارته انتقالية، وإنها ستكون أرحب الوزارات؟!".قادة الأحزاب مازالوا يعالجون تلك الضربات القاصمة والمهينة للشعب بتقديم العرائض للمسؤولين
يطالبونهم بإطلاق حرية الصحافة المعطلة والكف عن التضيق على الحريات. ففي أوائل تموز أجتمع قادة الأحزاب وقابلوا الأمير زيد نائب الوصي وأرشد. وحين عاد عبد الإله من زيارة لندن قابله رؤساء الأحزاب الخمسة، وشرحوا له أوضاع البلاد الخطيرة التي أشار إليها القادة. فماذا كان الرد؟لقد قرر السفر إلى مصيف
سرسنك وإصدار إرادة ملكية بمنح نصف راتب للموظفين؟! هكذا إذن. رشوة وضيعة لفئة من أبناء الشعب ليشتري رضا الشعب؟! وقام حزبا الوطني الديمقراطي والإتحاد الوطني بعقد اجتماع في 30/8 وقد حضر هذا الاجتماع خمسة آلاف شخص، طالبوا فيه بتنحي الوزارة الأرشدية عن الحكم والمجيء بوزارة ديمقراطية.ويوم
16/11/1946 استقالت وزارة أرشد، بعد أن نفذت كل مهماتها الرعناء والشريرة، حينها قالت جريدة الأهالي "ذهبت وزارة أرشد غير مأسوف عليها".المعلم الجديد
من الدروس التي أعشقها، وأهتم في تدريسها بشغف، وأجذب طلبتي إليها وأشوقهم لتفهمها "الواجبات المدنية" هكذا كانوا يسمونها. حتى هذا العام لم يكن لدينا كتاب مخصص لتدريس مواد المنهج لهذا الدرس. كنا نعد الموضوع ونجمله لطلبتنا في الصف الخامس الابتدائي. يبقى الأمر على مدى إحاطة المعلم ببعض مواد المنهج، وقدرته على تحويلها إلى موضوع سهل ومستساغ لدى الطلاب.
حدث ذات يوم أن دخلت الصف الخامس، ورسمت الموضوع "تبادل المنفعة" كان هذا العنوان أحد مواد المنهج المقرر إذ ذاك. لا أتذكر سبب انعدام وجود كتاب مقرر بهذا الشأن، ربما كان في طريقه للطبع والتعميم، فقد كانت كتب الدراسة كثيراً ما تتبدل تبعاً لمكانة المؤلف من ولي الأمر الذين بأيديهم زمام الوزارة. من الأساليب
التي أتبعها في تدريسي، أن ألقي العنوان وأطلب من الطلبة من يقدر توضيح ما يرمي أو يشير إليه هذا العنوان. ثم أكثر من الاستفسار، عن مختلف المدلولات عليه وما ينطوي تحته. أثير روح التنافس بين تلامذتي، أحاول دفع الجميع في المشاركة للإجابة. وأسجل الجواب الصائب على اللوحة السوداء "السبورة". سألت، فرفع الطلاب "سبابتهم"، بدأت كالعادة بأذكى طالب. - نعم يا هادي، أجب ما معنى تبادل المنفعة؟
هادي عبد الرضا الجبري، طالب نحيف الجسد على محياه صفرة، وفي عينيه بريق لكن أجفانه ذابلة، عرفت ذكاءه، وأدركت روعة أحاسيسه من أسئلته التي يقصدني فيها أثناء تجولي بين الطلبة أثناء الفرص في اليوم الخاص بمراقبتي التي هي فرض على كل معلم، يوم في الأسبوع، حسب المعتاد. وفهمت أيضاً انه يطالع ما يقدر عليه من كتب أخيه. وسأذكره في مناسبة أهم في حياته في المواضيع الأخيرة. بعد الإجابة طرحت السؤال
الثاني:
- ما الفرق بين تبادل المنفعة والاستغلال؟بدا على الطلبة سكون، لكن هادي وحده رفع سبابته.
أحسست أن أحداً قد قدم، وألتفت نحو الباب. كان القادم هو مدير المعارف السيد عبد الوهاب الركابي. أشار إليّ أن أستمر. واتكأ على باب الصف، قرب العتبة. حين أستقل لواء كربلاء بمديرية معارف، كان السيد عبد الوهاب الركابي ثاني مدير يدير دفة أمور التعليم فيها. كان من ناحية معلوماته جيداً لكن من ناحية تأثيره في الوسط الذي يعيش فيه والوسط التعليمي ليس بالمستوى المتكافئ مع درجته وكيان مديرية معارف. وتبين لنا بعد هذا ، انه يسير أموره في المجاملات والمداهنة وليس بقوة شخصيته ودرجة مسؤوليته، عرفنا هذا حين اصطدمنا بإدارة قائممقام النجف "توفيق عذار". - أجب يا هادي!
قال هادي "الفرق إذا كان التبادل بين أثنين أو أكثر يختلفان بالقوة فهو استغلال لا تبادل منفعة!"
- وكيف؟!- كالمعاهدات التي تتم بين شعب ضعيف ودولة قوية؟ مثلاً .
- أوضح؟- مثلاً ما بيننا وبين بريطانيا ليست المعاهدات القائمة من نوع تبادل المنفعة. فبريطانيا استعمارية.
وعرفناها جيداً حين جاءت عقب طردها العثمانيين من العراق. صرحوا إنهم "جاؤا محررين لا فاتحين" وبرهنوا بعد هذا على كذب هذه المقولة؟!كنت أتجه اتجاها بحيث أشرف على الصف، وأراقب السيد المدير!
فأشار إليّ أن أتوجه نحوه. خرجت فابتعدنا عن الصف قليلاً. وجدت حضرته قد بدا عليه أرتباك، واحتقن وجهه من انفعال واضح. كانت الكلمات تتسابق من لسانه. فيتمتمها تمتمة متقطعة على غير ما عرف عنه من قدرة على الحديث والنكتة البارعة.صاح بوجهي "شتريد تتكلم؟ أنت شنو رأيك؟ أنت تعرف أن فيصل ملك
العراق، واضع صورة ملكة بريطانيا على الجدار فوق رأسه؟ هذا كلامك سياسة، تخريب، هجم بيوت!"
- عافاك الله. انه جواب الطالب، ولست أنا. وهو مصيب؟!كانت أنفاسه تتلاحق، وكأنه كان يمارس هرولة
ليخفف من وزنه الثقيل. ثم تراجع، وقد صعد إلينا مدير المدرسة، عند سماع صوت السيد المدير بدرجة ملفتة للنظر، بينما أحتشد طلاب الصفوف الأخرى تاركين رحلات الدرس، ومعلموهم ينظرون إلينا بدهشة.
قال "أنا جئت لأسألك عن تحدٍ غريب منك، ومن بعض الذين تشدهم إلى صفك؟!"- أمر غريب يا أستاذ! ماذا
تقصد بهذا؟
- أنك وبعض أفراد المعلمين ممن هو في صف فئتك ...!!؟- قل وهذا أشد غرابة. قل يا سيدي قل!
- أنك ترفض أن تدفع بدل اشتراك مجلة المعلم الجديد! لم تكتفِ بنفسك، فحرضت آخرين. لماذا؟
- أنا مخير بالاشتراك. بموجب النص المثبت على غلاف المجلة -الاشتراك اختياري-. ويمكنك الاتصال بالآخرين الذين قاطعوها أيضاً.وأشتد الجدل، فكان منطقياً تارةً، وتهديداً تارةً. وقال:
- لا تلم غير نفسك إن عوقبت! إن نقلت إلى أبعد قرية!والتفت إلى مدير المدرسة يسأله "أهو متزوج؟ وله
أطفال؟ هل يمتلك دار؟"- نعم وله أربعة أطفال. وغالبية المعلمين هنا لا يمتلكون دار يا أستاذ!
- حسناً. ستنقل إلى "شفاثة". أجبته "لا بأس. أين ما أحل فلست إلا في بلدي العراق!"
طال الجدل، وغادر المدرسة غاضباً، بعد أن ناقش آخرين كانوا أيضاً قد قاطعوا المجلة. وعلمت بعد هذا أنه التقى كل الذين قاطعوا المجلة من معلمين ومدرسين، وقد أنفعل أحد المدرسين حين أنبه السيد المدير، قائلاً "أنت مدرس ثانوية فمن المؤسف أن يحرضك معلم -وذكر أسمي- ". فردّ على المدير بكلمة قارصة. فغادر الثانوية منفعلاً.حدث هذا في 9/12/1946 وقد صغت ما دار بيني وبينه بكلمة بعنوان "لتسمع جمعية
المعلمين"، أرسلتها إلى جريدة "الوطن" لسان حال حزب الشعب. فنشرت بتاريخ 21/1/1947 مع حذف بعض فقرات منها. ومجلة "المعلم الجديد" تصدرها وزارة المعارف، في التربية بمختلف مواضيعها، والاشتراك
فيها، كما هو مرسوم عليها إذ ذاك اختياري، وبدل الاشتراك 200 فلساً. لكنها ضحلة ومقصورة على أقلام معينة، ولا تتناول مشكلة المعلم والتعليم إلا نادراً. وغالباً ما يكون ذاك التناول بعيداً عن ملامسة الواقع -واقع المعلم والتعليم- بشكل علمي عميق. أما الوخز واللوم فكثير.كانت جمعية المعلمين هي الأخرى، ميتة ومحنطة،
لا تعرف عن المعلم شيئاً ولا تهتم بأمره. وكانت لا تخطر على بال معلم، وتبدل أمرها في السنين الأخيرة للعهد الملكي نوعاً ما ففتحت لها فروع في الألوية -المحافظات-، وصارت تقوم بتسليف المعلمين وفق شروط خاصة، المرض، الولادة، البناء، وضمن تحديد لمقدار السلفة. غير أن هيآتها الإدارية أيضاً كانت لها حصة الأسد في التصرف لها ومن يوالي المتنفذين منهم. وقد ثار عليها المعلمون عندما أنهار النظام الملكي، وأعيد تشكيلها ممن كرسوا حياتهم لخدمة المعلم، وسأذكر هذا في مكانه. وعلى أثر نشر الكلمة زار المدرسة يحمل
الجريدة، ولكن بوجه باسم، وقف قبالة باب الصف على بعد مترين، حياني فرددت التحية. وقال:
- ما أسرع ما أرسلت ما دار بيننا في جريدتكم؟!- جريدتكم؟ ماذا تعني أستاذ؟ أنا مازلت غير مشارك في
المجلة!- أقصد جريدتك، وليست مجلة المعلم الجديد.
- تقول جريدتكم! للمعلمين مجلة -المعلم الجديد- لا غيرها!فدنا من باب الصف وقال بهمس "جريدة الحزب!
. وأراني جريدة الوطن. لو كان رجلاً عادياً هان الأمر، ولكنه مسؤول عن التربية والتعليم في لواء كامل؟ فضحكت. ألهذا الحد. أهو ساذج. كلا. انه خبث الطوية! لا أدري أن كان حقاً لا يعلم إن جريدة "الوطن" ليست
لها علاقة بالحزب الشيوعي، إن لم تكن ضده، أو ضد قيادة فهد -إذ ذاك-، وكل من يتصفح الجرائد، منها جريدة الوطن يدرك ذلك من مقالات كتبت بقلم "عباس بلال" و "عامر عبد الله" وكانا إذ ذاك من جماعة الأستاذ عزيز شريف، كانوا يهاجمون بها آراء الحزب الشيوعي وقيادة فهد. والأستاذ عزيز شريف معروف بآرائه التقدمية، وأسس أفكاره، وقد أستهدفه العهد الملكي وحكامه على اعتباره واحداً من زعماء اليساريين، وطورد، وأوقف، وحوكم، بسبب نضاله العنيد ضد حكام العراق الرجعيين والموالين للاستعمار. ومن الجهل الفاضح أن لا يدرك المرء الفرق القائم بين اتجاهات الأحزاب، وإن التقت في مقاومة الاستعمار.حكاية الاشتراك
بالمجلة والنقاش حول موضوع الواجبات، كلاهما مؤشر لما يحاك ويدَبَر ضد عدد من خيرة المعلمين الواعين. كما انه يرتبط وبتأكيد بما قمنا به خلال أزمة المخضرات والمواد الغذائية، وبيع حصتنا من القماش أيام القائممقام "توفيق عذار" ومعاون الشرطة "عبد الرحمن دربندي".
"ومـا عـشتَ أراكَ الدهـر عـجـباً!"