دراسات نقدية

 الدرب الطويل/ 7
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


 

محمد علي الشبيبي

alshibiby45@hotmail.com


موقف الراحل من الفكر القومي (لا أريد بتعبيري -الفكر القومي- أن أشجب القومية. فانا عربي أفخر بعروبتي. إني أقصد أولئك الذين نعتوا أنفسهم بـ -القوميين- وهم لا عمل شاغل لهم إلا معاداة الفكر التقدمي، وخصوصاً من يعتنق الفكر الاشتراكي العلمي، ويعملون على وجود حزب واحد وهذا ما يتنافى وجهود العاملين على نهضة شاملة لجميع طبقات الشعب -البرجوازية والكادحة- فنحن في مرحلة نضال من أجل التحرر الوطني وليس من أجل تحقيق نظام اشتراكي، إذ هو مرحلة تالية)النجف بلد المنابر والمشانق

قال أحد الرفاق: "ملاحظاتك عن التراث جميلة وصائبة، لفتت نظري إلى أمر آخر أراه مهم أيضاً. أحرى بنا أن نتعرف على تأريخ مدينتنا –النجف- إنا نجهله جهلاً تاماً. وان كنا نعرف اليوم إن لها شأنا كبيراً في تأريخها القريب، لما لرجالها العلماء والزعماء من مكانة في خدمتها وخدمة الإسلام والعرب".- أيها الرفيق شكراً، أنا

أرغب وأحبذ أن تبحثوا أنتم في المكتبات العامة والخاصة أيضاً، ستجدون فيها ما تبتغون. حين تقرأون تأريخ "بني بُويه" وتراجم علماء النجف في كتب التراجم، وما كتب حديثاً عنها أيضاً، خلال ما تحصلون عليه ستجدون أي كتاب تقرؤنه يذكر الكتب التي أستند إليها أيضاً. لقد عُرفت منذ القدم باسم "النجف" نجف الكوفة،

لا نجف الحيرة. وعرفت أيضاً بأسماء أخرى "خد العذراء" و "الغري".
أما حدودها فكلكم على علم بها، حيث تتصل من جهاتها الأربعة بالكوفة، وكربلاء، وأبي صخير والى الحدود السعودية. أهم ما رفع شأنها هو مرقد الأمام علي. وقديماً كان يسكنها النساطرة، والى أن ظهر الإسلام كان فيها بعض الأديرة.وأهم عناية لقيها المرقد العلوي كان من ملوك الفرس. ومن العباسيين "هارون الرشيد"

أعاد شأن القبر بعد أن هُجر، وكان أسبق من أهتم به هم أحفاد الأمام علي.
أهم ما كان يشكوه سكانها الماء، وتبارى كثير من محبي الأمام لحل هذه المشكلة. أعتقد إن بعضكم واعي أيامها، أو ذووه. أنا نفسي وعيت ظروفها الأخيرة في العطش. وكيف انتهت بمساعي الغيارى ومحبي البلد.
وللبويهيين خدمات تذكر نالوا بها ثقة ناسها، وشاركهم في هذا بعد الجلائريون والأيلخانيون في القرنين السابع والثامن للهجرة وأجروا الأنهار. أما الوهابيون فقد عانت النجف الأمرين من هجماتهم عليها، قاومتهم بفضل السور الضخم الذي يحيط بها. هجمات الوهابيين على النجف لم تنجح بسبب سورها المنيع، الذي هدم عام 1931 لتتوسع المدينة. ولكن هجمات الوهابيين نجحت على كربلاء من عام 1220هـ/1806م وحتى عام 1226هـ/1810م وقد نهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم وقد أحرقوا داخل الحرمين الحسيني والعباسي.وسرت إلى

النجف عدوى الوعي السياسي، حين تحركت كل من إيران وتركيا تطالبان حكومتيهما بالحرية والديمقراطية وسن الدستور. فكان رد الفعل عنيفاً في أوساطها سياسياً وثقافياً. فتدارسوا المبادئ الديمقراطية وهم ملتفون حول بعض العلماء الذين تدخلوا بالسياسة إلى جانب الدين وهم يعتقدون بوجوب تحقيق المبادئ الدستورية في حكم الشعب. فأقبل الشباب على قراءة الصحف، يجلبونها من كل مكان فتكونت بهذا فئة سياسية واعية. منهم الشبيبيان "محمد رضا ومحمد باقر"، وعلي الشرقي، بعدهم الجواهري، وأحمد الصافي، والشباب الذي ألتف حولهم.ولا ننسى إن بعض رجال الدين قاوموا تيار الوعي السياسي والأدبي، في مقدمتهم رجل الدين المعروف

"كاظم اليزدي". حيث كان مرجعاً كبيراً، لكنه عارض مقاومة الإنكليز أثناء احتلالهم النجف بحجة عدم قدرتنا على مقاومة سلاحهم، وأطمعوا فيه فكانوا يصلون إليه كوسيط ومعهم بعض الخونة، وقد أعدموا بعض الثوار ولم يمنع عنهم. فقد ذهب إليه بعض وجهاء البلد وطلبوا منه أن يصدر فتوى بعدم جواز قتل أولئك الأبطال، فأجاب "يجب تطهير النجف من المجرمين؟!". وتيار آخر ظهر مجافياً ومغايراً للتطور الذي حصل،

ذلك هو بدعة شج الرؤوس بالسيوف، وضرب الظهور بالسلاسل وفي أيام شهر محرم. وقد وردت من رجل تعرف عليها من النقشبندية في تركيا، ثم إيران فانتشرت بلا مقاومة. أكثر المجتهدين وهم فرس شجبوها وأصدروا الفتاوى بحرمتها. وأيدها ودافع آخرون فرس وعرب. وأتخذها بعض العوام مصدراً للعيش بحجة حب الحسين.أما المستعمرون الإنكليز خلال وجودهم في العراق أثناء الحرب العالمية الثانية فقد شجعوها سراً،

فكانوا يقدمون المال بواسطة عملائهم لرجال تلك المواكب. فيدفعون لبعضهم بعض المال غير يسير. وكان موكب التطبير "أي شج الرؤوس بالسيوف" واحداً فقط يُعرف باسم "عزاء الترك" فلما أدرك الآخرون من العرب هذا النمط من العزاء قلدوهم وأضافوه إلى مواكبهم، ليستدروا المنافع، وفعلاً استفادوا! وأرتفع صوت

رجل الدين الشهير السيد محسن الأمين العاملي، والسيد مهدي القزويني من البصرة لتحريم هذه البدع، فحاربه كثير من المعممين بأقلامهم. وناصر محرميها السيد أبو الحسن. أصدر الأمين العاملي رسالته الشهيرة "التنزيه لأعمال الشبيه" عام 1346هـ/1927م. فعقدت مجالس ينشد فيها الشعر بالشتيمة له والطعن فيه. كان جريئا لا تأخذه في الحق لومة لائم. وحين ورد النجف زائراً أمر أبو الحسن الموسوي نصب الخيام والاستعداد لاستقباله، وكان استقبالا فخماً حقاً. كانت النجف عام 1917 محتلة، فابتليت بقحط شديد، وندرة

وغلاء في المواد الغذائية. تأريخ ثورة النجف قريب إليكم وغير بعيد. وما يزال كثير من الرجال الذين اشتركوا فيها على قيد الحياة. نعرف بعضهم وسمعنا منهم عنها، ولابد إنهم دونوا الأحداث التي جرت.أما

الممهدون لها فهم نخبة من الشباب المتحرر، وأغلبهم من كان في ركب "دعاة الدستور" أي المشروطة، أيام الخراساني، بينما الذين ساندوا الإنكليز من الجانب الآخر.اعتمدت الثورة أول الأمر على جماعات من

المثقفين الواعين الذين اتصلوا بالمتحمسين لها من الرجال الأشداء المعروفين بالبطولة، أمثال الحاج نجم البقال، وكاظم الصبي.
إن الكثير من رجال العشائر الذين شاركوا في ثورة العشرين ضد الإنكليز تحولوا إلى جانب الإنكليز في العهد الملكي، لتركيز الإقطاع، وأصبحوا كتلاً، كل كتلة وراء وكيل من وكلاء الإنكليز في الحكم الملكي، ممن كانوا يتناوبون في إشغال كرسي رئاسة الوزارة. مع العلم إن أولئك الوكلاء جميعاً، كان نوري السعيد الرجل الأول بينهم، بل والمخطط الأوحد، لتوزيع مواعيد الأدوار بينهم، سواء كان ذلك في رئاسة الوزارة، أو كراسيها، أو عضوية المجلسين النيابي والأعيان. حين أنفصل صالح جبر عن حزب صاحبه نوري السعيد، قص علي شاب

كان يرقد في مصح بلبنان. إن طبيبه قال له "هل هو اختلاف في الرأي بينهما؟" فأجابه الشاب "صونه وأنفشگت" والصونة هي بعر الحمار، انه يريد إنهما شيء واحد. والواقع إن ذلك ربما كان أيضا حيلة استعمارية ليحوز الاثنان على السنة والشيعة.لاشك أيها الأخوة، إن الثورات التي حدثت في سائر أنحاء العالم،

ليس السبب فيها شعور الثائرين ضد الأجنبي الذي تسلط عليهم وحده. إنما السبب المهم هو تفتح عيون الشعوب المستعبدة أكثر بما تم من مخترعات ومكتشفات هذا هو السبب، هو الصناعة الحديثة التي تمت واتسعت بسرعة بعد أن بدأت بالمغزل والقطار، وتوصلت بعد ذلك إلى الطائرات وسائر المخترعات السلمية والمدمرة، وما نتج عنها أيضاً من انبثاق نظريات وآراء في العلوم الطبيعية والفلسفية.ولعل كثير من المتزمتين

والمسؤولين الدينين أسفوا كثيراً إن ساعدوا على المشاركة في المطالبة بالحريات والدساتير. فها هي الحريات تعددت جوانبها وأنواعها. حرية الفكر مرق بموجبها الكثيرون فتحدوا الذين لا يحيدون عن آراء السلف حتى بأسلوب التأليف والكتابة. وأصبح أبناء بعض المراجع الدينية خريج جامعة أمريكية أو أوروبية. واختفت كثير من العادات والالتزامات التعبدية، بل تعدى الأمر أن عمل الكثير من أولئك على فتح مدارس للبنات، وتبدلت أيضاً كثير من مظاهر المرأة النجفية. كانت قبلاً مبرقعة الوجه معصوبة الرأس، ترتدي عباءتين، واحدة على الكتف والثانية على الرأس. كان أمهاتنا يسمينها "سرسوحة" ولا أعرف أصل هذه الكلمة، ربما لأنها تنسرح على جسمها أكثر من التي على رأسها. وحين انتشرت مدارس البنات كان أكثر المبادرين لإدخال بناتهم هم من الفئة الروحانية وأعيان البلد. في بداية شبابي، أتذكر إني كنت ذات يوم جالساً بأحد أواوين الصحن الحيدري، ومر السيد سعد جريو السياسي المعروف، ومعه عزيز الأعسم وهو يجمع تواقيع لفتح مدرسة بنات. وعلى الأثر بعده علمت أن الزعيم عطية أبو كلل يعلن انه سيعمل ضد من يسمح بإدخال أبنته المدرسة. هذا الاندفاع

بالتوسع بمظاهر التجديد الفكري والحياتي، حسبت له الرجعية والاستعمار حسابه، خصوصاً ضد تيار الفلسفة المادية، والمجلات التي تعني بحرية الفكر مجلة العصور والدهور والطليعة، وبحوث بعض العلماء والكتاب مثل مجموعة شبلي شميل وإسماعيل أدهم وغيرها. فصارت تحجبها وتحول دون وصولها. بينما سمحت في أيامنا هذه لمثل مجلة "الفن" ومجلة المختار وأمثالهما. لكن الضار أحياناً يكون دواء وعلاجاً في أحيان أخرى. فالاستعمار الذي جلب معه ما يفتح عيون المستعمرين، فيما يقتنيه من وسائل الراحة والتنعم، سرت عدواها إلى المؤسرين من أبناء البلد المحكوم. هذا الاستعمار حين انفجرت الحرب العالمية الثانية، ويئس

بعد انتظار مرير من تغلب النازيين على الإتحاد السوفيتي، سارع فحالفه فتأسست علاقة دبلوماسية بين الإتحاد السوفيتي والعراق، وبناء عليه أيضاً سمح للكثير من الكتب والمجلات التي كانت محرمة أن تغزو الأسواق وتنتشر بين الشباب المتلهف للإطلاع على كل ما كان مجهولاً لديه، بل وصدرت مجلات وصحف أدركتموا عهدها. أدب الكتاب التقدميين من عرب وأوربيين وأمريكيين، خصوصاً أدب القصصيين الواقعيين

ارسكين كالدوين، وهمنغواي، وديستوفيسكي، وبوشكين، تولستوي ومكسيم غوركي. ومجلة الطريق اللبنانية، والفجر الجديد المصرية، وأم درمان السودانية، ومجلة الرابطة البغدادية، وجماعة البعث

ورسائلهم ومجلة المجلة، والمثل العليا النجفية، ومجلة واسط. ناهيك عن الكتب التي تطرقت لبحث الفلسفة المادية بجرأة فذة.أجل هذا الضار أضطر حين ضويق من خصمه الجبار العنود، فقاومه بحلف لمن يكرهه -ربما

أشد وأكثر من خصمه ذاك- وتنازل عن كثير من أساليبه ضدنا. ولكن حين انتهت الحرب بانهزام النازيين –وليس النازية- عاد بكم الأفواه وبحجب الحريات، ويطارد الأحرار، عن طريق المجالس العرفية، بحجة الدفاع عن فلسطين. والصرخات الكاذبة من المتربعين على دست الحكم في بلادنا هنا وفي البلدان العربية الأخرى. وإنا لنتوقع أحداثاً، وتبدلات ليست في البدء لصالحنا. وما يدرينا، ربما أستطاع الاستعمار العالمي بسبب من التحاق كثير من الدول التي تحولت إلى الاشتراكية –أن يحيي النازية- هذه المرة ممسكاً زمامها بيده. ويفسح المجال لنشاط الفكر القومي. فيشل الشعوب العربية ويجعلها تدور حول نفسها ولا تصل إلى الطريق اللاحب.
لا أريد بتعبيري "الفكر القومي" أن أشجب القومية. فانا عربي أفخر بعروبتي. إني أقصد أولئك الذين نعتوا أنفسهم بـ "القوميين" وهم لا عمل شاغل لهم إلا معاداة الفكر التقدمي، وخصوصاً من يعتنق الفكر الاشتراكي العلمي، ويعملون على وجود حزب واحد وهذا ما يتنافى وجهود العاملين على نهضة شاملة لجميع طبقات الشعب –البرجوازية والكادحة- فنحن في مرحلة نضال من أجل التحرر الوطني وليس من أجل تحقيق نظام اشتراكي، إذ هو مرحلة تالية.أنا عربي نسباً ونشأة وشعوراً، وكل من عاش ونشأ نشأة عربية إسلامية، عربي.

الفرس الذين استوطنوا منذ عهد سحيق انصهروا بزيهم ولسانهم وعاداتهم هي عادات النجف العربية، لا ينم مظهرهم ولا لسانهم ولا عاداتهم على أنهم من أصل غير عربي أبداً.والواقع إن الصراع الذي نشهده اليوم مهما

تبرقع أصحابه ببراقع ودعوات، فانه في الحقيقة صراع بين اتجاهين، الاتجاه القديم الذي يعالج أمور حياته بالتسليم لما سماه بعضهم –المكتوب في لوح القدر- ولحل مشاكله يرجع للتسبيح والتكبير والتعاويذ، وانتظار المعجزات، هذه الأساليب التي ينكرها القران نفسه.واتجاه آخر يعتمد على العلم والعمل والإنتاج بالوسائل

العلمية الحديثة، والنضال الدائب للتخلص من النظم البالية، ووجود الطبقات، وتحكم الطبقة الأقوى في الطبقة الأضعف والأدنى. وبهذا وحده ينتهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.ويجب أن لا ننسى أن لكل صراع

سيرافقه انحلال وتسيب في القيم الأخلاقية. وقد يستمر هذا فترة طويلة، فيعتقد الكثيرون –حتى بعض الذين عملوا من أجل التغيير- إن ذلك هو حاصل الاتجاه الجديد فيتملك نفوسهم اليأس، من صلاح الإنسانية. وبالمناسبة وللنكتة أذكر لكم، لماذا أختار كل من أبي نؤاس وأبي العتاهية، طريقاً خاصاً به، بينما كانا صديقين حميمين!؟الذي استنتجته من دراستي لهما. تزهد "أبو العتاهية" ومجون "أبو نؤاس" سببهما واحد في رأيي.

فقد درس الاثنان طبيعة الحاكمين، وموقفهم من ذوي الفكر والمعتقد، وبطشهم ببعضهم بلا رحمة، بينما –الحاكمون- يدنون الأدباء والعلماء وأهل الفن، يستغلون مواهبهم وقابلياتهم، لخدمة عروشهم وكيانهم، وليحرقوا البخور حولهم، ويختلقوا لهم تأريخا نزيهاً، حافلاً بالتقى والورع والمكرمات. لهذا مال الأول للزهد ومال الثاني للمجون، ليعيشا بأمن وسلام.

 

 

 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com