آدم والشيطان
وسفن البروفسور عدنان الظاهر المجـّنحة
سعيد الوائلي
من خلال العنوان البارز"آدم والشيطان" نلج الى عوالم ما وراء الطبيعة محلقين نسترق السمع الى ايقاع صورها الشعرية الناطقة واحداثها الغائرة في لب الخيال المتواتر في القصيدة الصوفية وفضاءات الحلاج الهائم في اسواق القرون الغابرة يقذف صداها أنة الندى المقفى برائحة الدراية ويصوغ توهجها العشق الغافي بين انامله كمحّارة ناطقة قذفتها امواج متلاطمة على ساحل البحر في ليلة انتصاف القمر.
من هنا يشـّد الرحال ممتطيا ً جواده المجـّنح شاهرا ً سيفه خارجا ً لتوه من معركة ذات الاجراس بعد ان اجهز على تنين خرافي كان بوابا ً لمغارة نائية توحي له بقصص عرائس البحر وإيحاءاتها بعد ان هام معهنًّ بحثا ً عن لؤلؤة ملتصقة في ثنايا ارجل اخطبوط مجنون حط على يخت غافٍ على موجة ساهية حاملا ً معه توابل الهند وعطور باريس وتحف روما وصبايا موسكو واعواد بخور آلهة الاغريق وخمور ميونخ وعوالم الكيمياء والفيزياء واباريق خزف الصين وعسل نحل جبال الهملايا وغيرها الكثير من الرموز والمفردات وهي تستجيب صاغرة تحت ارادة قلم الناقد والشاعر والمربي والعالم البروفسور عدنان الظاهر سواءاً من خلال دواوينه (احساس يصيب الهدف) و(سورنكات) و(رمل وبحر) و(نقد وشعر وقص) يطوف من خلالها متفحصا ً دارسا ً صولات المتنبي وخلوات المعري وهتافات الجواهري وخلجان السياب وصبايا نزار قباني وحكايا مصطفى غلمان وعبد الهادي سعدون وحيدر حيدر وفاتح عبد السلام ونقاشات طه حسين وطوافه مع ابي الطيب المتنبي في رحلاته وسفراته وحماساته مع كم نوعي هائل من دراسات نقدية للعديد من دواوين الشعر وبعض الروايات المعاصرة ولا ننسى بحوثه العلمية حول البيئة والتلوث والكيمياء النووية والعضوية في الجامعات العربية والاوربية والامريكية وغيرها الكثير من العناوين المثيرة طيلة عقوده الثمانية حيث كان وما زال يفاجئنا بالطراوة والضراوة والكشف والاسهاب في التعبير ولباقة وحلاوة الحوار من خلال نصه الاخير "ادم والشيطان" الذي اهداه الى السيّدة عائشة الحطّاب
أتخيّلُ شيئاً يتراءى
في عَتمةِ ما خلفَ الأبوابِ
من فرط خداعِ الرؤيا / رؤيايْ
يدعوني سر ّاً ـ جهرا
( بئسَ الدعوى ... بئسَ الدعوى دعوايْ )
يتعالى مُختالاً بالسمتِ العالي
يا هذا...
يا هذا المنفوخُ هواءً وهباءً منفوشا
مثلي ما عانيتَ وممّا غيري عانى
هبّني أُذناً علّكَ تفقه شيئاً مّما بي
شاركني بؤسي يوماً أو بعضا
المحنةُ يا هذا في رأسي
ماسٌ مغشوشٌ في أعلى قمّة رأسي
لا تجعلْهُ فأسا
لا تجعلني مَلِكاً في تاجٍ من قارٍ ورصاصٍ مصهورِ
دعني أتدّبرْ أمري
أمشي مقتولاً في نعشي
العصرُ يُخالفُ منظومةَ ألواني طيفاً طيفا
مَنْ يسمعُ صوتَ الشكوى ؟
اتخيل شيئا ً يتراءى : مدخلا ً لأتون معركة حامية الوطيس مع الطيف الذي يلوح امامه في الظلام يدعوه او ربما يتجسد امامه مقاتلا ً مغوارا ً ممتطيا ً جواده شاهرا ً سيفه بيده اليمنى وفي اليسرى يشير اليه بالمنازلة ، عيناه الحمراوان تبحلقان به يتطاير منهما شرار التحدي والغضب ... يا هذا الجسم الابيض يقدح شررا انا لا اخشاك مهما تتمسك خلف الابواب فأنا اعرف ماهيتك ، اتحداك بأن تنال مني او ما انت قادم من اجله ، فأنت لا اكثر من هواء منفوخ يتبدد حين اريد وكيف اريد ، انها القدرة الفائقة على تلمس ماهية الاشياء وقدراتها في الظلام الدامس ورؤيتها بعين العقل ، انا لا انازل شيطانا ً فارغا ً بل ابحث عن قواسم مشتركة تشاطرني قدري ، انها رموز فيزائية خفية وقديمة تنطلق معا ً في مطاردة خارقة للعادة عبر ممرات ضيقة في فضاءات خطيرة تشاركه المغامرة في تبادل الادوار وحمل النعوش تماما ً كما وصف (روبرت لانغدون) بطل شفرة دافنشي حين قادته الى اقبية الفاتيكان بحثا عن تنظيم سريّ يسمى المستنيرون (The Illuminatti) حيث يعتقد ان مجموعة من المستنيرين انبعثت من التراب لتنتقم من الكنيسة عبر تدمير الفاتيكان.
ويختتم الشاعر والناقد البرفسور الظاهر جولته الاولى من النص وكأنه استفاق من رحلة خاصة في عالم آخر تتضارب منظومة الوانه واطيافه تتناقض وتتقاطع فيها الماهيات والتكوينات تهز صيحاته الفضاء المترامي " من يسمع صوت الشكوى" تأكيدا لإستحلة ظاهرة انبعاث غريبة قد اصابته في غفلة قد بالغ في تقدير قدراتهم و صفاتهم، أو اعتقد لبرهة بامتلاكهم قدرات جسدية أو نفسية خارقة او شكل من اشكال التفكيرالمبالغ فيه اخل بعلاقة الفرد مع الواقع، وعبَّر عنه بصيغة مبتكرة تتشابك فيها الصراعات التي تلف الكون بشكل مطلق فيما تبدأ سلسلة اخرى من تساؤلات مماثلة وبديهيات تتزاحم بل تتجسد احيانا ً يجمعها محور خارق للقدرات العقلية واستنتاجات لإبداع حواري مع كائن آخر خرافي يبدأ بملاحقته في الوديان الوعرة يبحث في دائرة اكتشاف مبهمة لطبيعة خاصة ينفذ اليها تتعلق بمحور جديد للافراز الفكري والثقافي يميل اليها الكاتب الفرنسي المشهور (جوستاف فلوبير) كثيرا ما اوصى بها الادباء بالابتعاد عنها الى وهي الثالوث الكبير (الدين والسياسة والجنس) واكد على ان اي عمل ثقافي فني ادبي لا يتطرق الى هذه المواضيع الاشكالية لا يحظى بقبول نقدي او قيمة فنية ما واصبحت حالة الابداع محاولة لكسر المحرمات فالمبدعون يدعون الى قبول نقاش فكرة الرموز الدينية والثقافية ويرفضون بالمقابل ان نقيم اعمالهم استنادا ً للدين او السياسة ولذا فإن الخيال الجامح يستوحي منه الشعراء تشابك عوالم الظل والحقيقة ومؤامرات جمالية وحبكة مشوقة تترك القارئ حائرا ً في معرفة بواطن الطبيعة وبوادي ننحدر من خلالها نحو الحقيقة المطلقة بماهية الملائكة والشياطين ولا مجال للرجم إلا من خلال الحجة والابداع وحرية الفكر واحتدام النقاش المظني والمستنير ، الضد للضد حتى يفل الحديد الحديد وتنقشع الصورة الضبابية لكن هناك رباطا ً ازليا ً من عنصرين يتضادان في خلقهما وفي مصدر عناصر طاقاتهما شيئان الاول طبيعي يتمثل رؤى العين والثاني طاقة غير مرئية كما السعادة امر نشعر به من دون ان نراه ، نسترسل في الجزأ الثاني من حوارية البروفسور الظاهر كي لا نلج بابا ً من ابواب شتـّى بحثا ً عن ماهية الصوت القادم من فضاءات قد لا نخرج منها.
وقتُكَ أم وقتي
صمتُكَ أو صمتي
صوتكَ في دقّات الساعةِ أم صوتي ؟
لا مِنْ فرقٍ في ذاكَ ولا في هذا
لا من فرقٍ دعنا
نتبادلْ حالاتِي حالاً حالا
ونُصفّي ميزانَ الدنيا وزناً وزنا
لا تجعلْ عنوانكَ عنواني !
أبعِدْ ...
ما بالكَ تُقحمُني قسرا
هذا شأنُكَ لا شاني
أفلا تخشى عاقبةَ الدنيا الآخرى ؟
كلاّ ... لا أخشى
يخشاها الأشقى والأعمى والأدنى والصرعى
يخشاها مَنْ كذّبَ واستكبرَ واستعلى ...
فكّرتُ مَليّا
فيما قال الشيطانُ وفي ما استعصى
لم أسمعْ إلاّ :
(( نحنُ روحانِ حللنا بَدَنَ الحلاّج بؤسا )) .
في شكٍّ من أمري
في شكٍّ من أمرِ الشيطانِ
هل حقّا
روحان أحلاّ جسدا ؟
لا من أثرٍ يبقى
حين الشيطانُ يغيبُ
لا يتركُ آثاراً تنطقُ باللهجاتِ الفصحى ...
إحتجَّ الإبليسُ [ الساتانُ ] :
آثاري باقيةً تبقى
تتألّقُ جمعاً أو فردا
لا تيأسْ لا تَقْنُطْ
إنّي حاملُ أختامَ الكونِ
غصباً عنكَ وعنّي !