أيتها القصيدة : كوني جميلة واصمتي ...
( واقع القصيدة الشعبيّة الحـرّة )
طه فرحان الربيعـي
كما أنجز ( السياب ) عملية انتقال الشعر العربي من بحوره المقيدة الى بحور محُررة – حرّة – أي الى شعر التفعيلة ، فعل ( النواب ) منجزه الهائل ليس فقط ببحور الشعر وإنما باللغة الشعبية التي ظلت لزمن طويل وما زالت حبيسة اللغة الشعرية الجنوبية ( الريفية ) ، ناقلاً إيّاها الى لغة يومية معاشة ( مدنية ) متدفقة بالصور الرومانسية ، وكأنك أمام لوحة – قصيدة : قصيدة ممزوجة : شعراً و فناً تشكيلياً رفيعـاً .
مفارقة : شعرية – ثقافية :
تلقف الشعراء ما بعد الرواد ( السياب ، نازك ، البياتي ... ) تجربة شعر التفعيلة وأغنوها شكلاً و مضموناً . فيا ترى ماذا فعل الشعراء الشعبيون ما بعد الرواد ( النواب ، شاكر السماوي ... ) سأقول ، ولكن قبل القول سأروي حكايـة :
( إنّ حكيماً نظر الى رجل صوب سهماً الى طير فأخطأه ، فقال له الحكيم : أحسنت . فتعجب الرجل وسأل عن سبب الاستحسان فقال له الحكيم : أعني أحسنت الى الطائر ... )
أقول : تلقفها شعراء شعبيون شباب ( الحلفي ، كاظم غيلان ، رياض النعماني .... ) وكتبوا قصائد رائعة شكلاً و مضموناً ، ولكن هنالك عوامل عدّة أدّت الى ( تحجيم ) أو وقفت سداً أمام جريان ماء – روح – القصيدة الحديثة الحرّة منها :
أ- الظرف السياسي : لم يعد خافياً على المدارس أنّ حركة التجديد ( وبكل أنواع الفنون ) ارتبطت بالتيار اليساري ، ومن سوء حظ القصيدة الشعبية الحرّة أنها قد ولدت متزامنة مع ظرف سياسيي قاسٍ : ظروف اضطهاد لعموم الشعب و في طليعتهم الشعراء ، فقد وُضعوا أمام ثلاثة خيارات : تمجيد القائد الضرورة / الصمت / أو مغادرة أرض الإبداع كرهـــاً و قسراً . فالكثير – وأقولها متألماً – قد اقتنعوا ورضوا بالخيار الأول : وجاءت الفرصة الأوفر كي يثبتوا أركان القصيدة الكلاسيكية ألا وهي الحرب المدمرة العراقية – الإيرانية ، وما تفرض قصيدة الحرب من خطابية ومباشرة و حماس لإثارة المشــاعر .
ب- من خلال اطلاعي على نتاج الكثير من الشعراء ( أصحاب العمود ) تلمست تواضع المستوى المعرفي لديهم و ذلك من خلال دورانهم حول مواضيع محددة و صور هابطة وأعزو سبب ذلك قلة أو ( عدم ) اطلاعهم على الفنون الأدبية المختلفة فثقافة الكثير : ثقافة شفاهية – سمعية – فطرية : و القصيدة المنتجة وفق هذا السياق ستكون بلا شك معتمدة على ما سبق . و نحن لسنا بحاجة هنا لتوكيد الحقيقة القائلة : إنّ الموهبة تنمــو و تتطور بالقراءة ... و لست أبالغ حين أقرر حقيقة : إنّ الكثير من هؤلاء الشعراء لم يطلعوا حتى على شعر الكلاسيك الكبار أمثال : الحاج زاير ، الملا منفي ، صاحب عبيد الحلي ...
جرى حوار بيني و بين أحد الشعراء الذين يكتبون الكلاسيك وهو شاعر مبدع و قارئ نهم ذكي و قد صرح لي : أنه لا يقرأ للشاعر ( الحاج زاير ) و حين سألته عن السبب أجاب : ( انه شاعر ماجن ؟! ) ... وطلب منّي أن أقرأ له فقرأت له بعض المواويل :
تميت أشاجف عواذل يا خلكـ بالهوش
حتى دعوني شبيه السارحة بالهوش
ما جان هذا بضميري لا ولا بالهوش
من حيث إذاني دعوهن من حجيهم طرش
لاخط لفاني ولاجد من سواهم طرش
ياحيف أكضـي العمر مابين وادهم طرش
لو تلزم إذانه لزم لو مايكف بالهوش
فأصيب بالدهشة ولكنه ظلّ على ( عناده ) !!
ت- المنبرية : كثرت المناسبات المختلفة سابقاً وازدادت حاضراً ، و طبيعة ( المنبر ) يحتاج الى الخطابية و المعنى الواضح السهل الذي يدخل من الأذن اليمنى و سرعان ما يغادرها الى اليسرى مطرودة مهزومة ... يصاحبها التصفيق ليزيد من تحليقها في الفضاء مبعثرة منسيـــة .
ث- جمهور المستمعين و القرّاء : لعبت المناهج الدراسية ( مناهج اللغة العربية – الأدب خاصة ) و بمراحلها المختلفة و بما تحتويه من قصائد كلاسيكية ( مختارة ) و لعصور مختلفة ، على ( قولبة ) الأذن و ( تحجيرها ) لانتظار القافية و تحديداً حرف الروي بعد الاستئناس بالبحر الشعري الراقص ... إضافة الى ( وحدة البيت ) .. فأنـتجت ( عقلاً إتصالياً ) و قارئاً ( بعقل قياسي ) و ذائقة ( مقولبة ) فعقل كهذا و ذائقة كتلك لم تعد قادرة على انتاج الســـؤال !! .
(( استدراك )) :
لئلا يتهمنا البعض بالتطرف نقول : ليس عيباً أن نطبق أو نستعبر بعض المفاهيم العلمية لخدمة أدبنا : فمثلاً ( النسبية ) : أحدثت ما أحدثت من ثورة في كل العلوم متوصلة الى بديهية عامة تقول ( ليس هنالك شيء مطلق ) ، معنى ذلك أن هنالك جمهوراً من المستمعين و القراء للشعر الشعبي الحر يبحثون و ينقبون عن قصائد للشعراء المابعد الرواد قصائد لـ ( غيلان ، الحلفي ، النعماني ... ) و يؤمنون بأن القصيدة الشعبية الحديثة لابدّ لها من أنْ تأخذ مكانها مستندين الى قانون التطور لا السكون .
(( حلـــقة الوصـــل ))
إذا كانت لـ ( دارون ) حلقة مفقودة في نظريته العلمية ( الارتقاء و النشـوء ) فأنّ لدينا حلقة وصل معلومة ما بين الرواد و الشباب أدت الى ترسيخ البناء الكلاسيكي للقصيدة الشعبية متمثلة بعدد من الشعراء الكبار ( أخشى أنْ أذكر أسماءهم ولكن المتتبع لحركة الشعر الشعبي الحر يعرفهم جيداً ، و الخشية من عدم ذكر أسمائهم ، لأني سبق أنْ هدّدت بالقضاء عندما كتبتُ حقيقة حياتية عن صديق شاعر راحل . ) . الشعراء الكبار كتبوا أيضاً قصائد شعبية حرّة .. ولكنها كانت تحت ( اللحاف ) كما يقولون ......
((حلم خارج الكتابة ))
( في منتصف السبعينات ، كنت و الشاعر شاكر السماوي نفترش ( ثيل ) ( أبو نؤاس ) ، وكان الوقت قبيل الغروب .. لم يمر وقت طويل حتى ظهر القمر نحيلاً ضعيفاً .. فقلت لشاكر : أنظر الى القمر وتأمله .. أطرق لحظات وكعادته حين يبدأ الحديث بلازمته المحببة ( أكول ) :
الكمــر مسلول ...
عسّه السلّك يسلَّه السـل ...
فولدت قصيدته الرائعة ( الكمر مسلول ) :
الكمر مسلـول
هنيال الحرامـيَّ
ولكن من التي تنادي من فوق جسر ( الجمهورية ) في هذا الوقت :
- يُمّه الشمس غابت وأنتَ مارديت ...
- يُمّه :
الشمس غابت .... وآني مارديت ...
ومن حدائق اتحاد الأدباء يمزق صوت سعدي يوسف الهادئ سكوننا :
فليسقط الشعراء ..
فلتسقط قصيدتك الجديدة
ماذا ستكتب غير لغوك .....
(( ما بعد الاحتلال ))
استبشرنا خيراً حين رست بواخر الاحتلال ( التحرير ؟! ) في ميناء البصرة .. كنا ننتظر قصائد وايتمان ونتباهى بلحيته البيضاء الجميلة ... و نقرأ روايات همنغواي باللغة الأم ، رغم تهيجينا الأبجدية الوافدة .. :
ولكنْ ، وآهٍ من ( لكنْ )
لنبتعد عن السياسة ( هًمَه بذاك الصوب ، واحنة بهذا الصوب ) على حدّ قول الروائي الراحل : ( غائب طعمة فرمان ) .
(( الفضـــائـيات ))
كنّا قبل الاحتلال نتداول ( كاسيتات ) مظفر النواب سرّاً ، نسمعها بعيداً حتى عن أطفالنا .. نرددها مع ذاتنا لئلا تسمعها الجدران .. ولكنها كانت أقوى وأعلى صوتاً :
حنْ وآنه أحن ..
و نحبس ونّه و نمتحن
مرخوص بس كت الدمع
شرط الدمع ، حد الجفن ...
أو نقرأ قصيدة شاكر السماوي ( يا شط الحزن يا ... ) الى مظفر النواب :
تعلمنه ....
الشعر جلحه نبيه ، أو طيف يصدك بالمنيه ، و سيف وركاب أو قفين
أو تعلمِنه ...
الفجر كعبة أو إله ، و النبي أبساطه ضواه ، و الشمس تربه أو صلاه
أو تعلِمنه ...
البشر قابيل ، بيه هابيل ، دمه اجروف من يجزر بحرها إتسيل و انت أو بين خنجر بالسمة وهلال بجروحك مشه يضويك
سرجت الدم ........... سحنت الهم
تفرزنت العسل بالسـم ..
أقول : كنا قبل الاحتلال ، نسلي أنفسنا و نقضي ليالينا مع قناتين فقيرتين .
وفجأة :
أصبح العالم بين أيدينا ...
وتربع من تربع من أصحاب الشأن و الشان على ( برامج الشعر الشعبي ) و أطلقوا عليها تسميات مغرية شدّت اليها مشاهدين ( مستمعين و قراء – مرّ ذكرهم – ) فكانت المسابقات بين الشعراء والأبأس و الأفقر من ذلك أسئلة مقدمي البرامج :
أي وزن لهذه القصيدة ؟ / من يأتي بومضة على وزن كذا بموضوع كذا وكأن الشاعر نجار يصنع كرسياً حسب الطلب ؟ / من يفسر الجناس في هذا الأبوذيه ؟! ...
وغاب الشعر الشعبي الحر أوْ كاد ......
وأخيراً :
أرجوا ألاّ يشتط تفكير الأخوة الشعراء من أننا ندعو الى نبذ القديم .. لا وألف لا .. فلا بنيان بدون أسس قوية متينة ، و لكن لا يعني ذلك ( تقديس الماضي ) أو عدم المساس به . ولكن علينا أنْ نعترف :
• أنّ المقاييس المعرفية في الزمن الماضي تختلف كثيراً عن مقاييسنا المعرفية و مصادرنا في الوقت الحاضر .
• السقف المعرفي لدى الشعراء المحدثين لم يختلف كثيراً عن السقف المعرفي لدى الشاعر القديم .
• القارئ المعاصر له خيار واحد : أنه لم يعد مقيداً بالمضامين السابقة .
• أسئلة أخرى :
- هل قدّمت القصيدة الكلاسيكية ( الحديثة ) ؟ ما هو متجاوز للميراث الشعري ( المقدس).
- هل الشاعر المعاصر عاجز عن إنتاج المعرفة أي قصيدة حرّة جميلة كما خاطب أحدهم الوردة ( كوني جميلة واصمتي .... ) .
- السؤال المستحيل : متى يكتب الشعراء المعاصرون قصيدة ( نثر شعبية ) ؟