3- عودة ومصائب وعواصف / 5
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)
محمد علي الشبيبي
Alshibiby45@hotmail.com
عذاب ولكنه هين!
وأشتد ضغط "السيد" على الحريات. فخلال وزارته هذه عطل عدداً من الصحف، تجاوز المئتي صحيفة، ومنع دخول الصحف العربية التقدمية طبعاً. حيث كانت ترد إلى العراق صحف مصرية ولبنانية وفلسطينية، أمثال الفجر الجديد، النداء الوفدية، إتحاد الشعب السورية، وإتحاد الشعب الفلسطينية، وأم درمان.وما يدري أحد ربما كان سادته هم الذين دبروا قضية خروج القطار عن السكة، فأتهم طلاب مدرسة دار المعلمين الريفية -قرب المحاويل- باعتبارهم شيوعيون انتقموا لإعدام قادة الحزب. وكأن الطلبة لا يدركون أن الذي أعدم قادة الحزب هو نوري السعيد وليس ركاب القطار. لكن هكذا شاءت عقليته العفنة. وبعد التحقيق أصدر قانوناً صفيقاً ضد الأساتذة والمعلمين، إلى حد الحرمان من الحقوق التقاعدية، وعلى الرغم من أن لجنتي الشؤون الحقوقية قد رفضت مرسومه هذا، فإنه أستنفذ أغراضه.
بيتنا شعب عراقي، والشعب العراقي بأسره مبتلى بهؤلاء الحكام. فلا غرابة إذن أن يستمر البلاء أيضاً عليّ وعلى أبي، بعد إعدام أخي.
فقد حكم على أخي محمد علي بالسجن عشر سنين وأرسل في 28/4/1949 إلى سجن نقرة السلمان، واُحلت أنا إلى المجلس العرفي الأول مرتين في 17/4 و 20/5/1949 بناء على توقيفي في 1/3/1947 في النجف خلال مدة فصلي من الوظيفة.
شاهد أخي محمد علي إعدام شقيقنا بعينيه، حيث أقام ليلة إعدامه في بيت رفاق مطلاً على ساحة باب المعظم، وسمعه وهو يتقدم بخطى متزنة نحو المشنقة، ينشد مطلع قصيدة أستاذه ألجواهري:
أتعلــم أم أنت لا تعــلم بأن جراح الضحايا فم
ولما اعتلى المشنقة قال ما معناه:
من المناسبة الطيبة إن منصة الإعدام نصبت لي في ذات المكان الذي كنت أثير منه المظاهرات الوطنية!
وبعد أكثر قليلاً من أسبوع، ألقي على أخي "محمد علي" القبض في دار مطبعة الحزب. حين أخذ إلى التحقيقات الجنائية، لقي النذل "مالك سيف" هناك، فأشار إلى الجلادين "إن هذا هو أخو حسين، فافعلوا به أعنف العقاب، إن الشيوعي يقف أمام الرشاش بكل جرأة، ولكنه لا يحتمل التعذيب. عذبوه لتنتزعوا منه ما عنده. إن عنده بعض ما ليس عندي!". روى أخي محمد علي حديثه هذا وحين قال عن الشيوعي قال، هذه كلمته بالنص. علقت، حقاً أثبت أنه ليس شيوعياً قبل أن يخون، لأنه سلم أمره بدون أن يقف أمام رشاش، كما أنه لم يلاق أي تعذيب! ربما كان جاسوساً منذ كان، وآن أوان الكشف عن هويته بنفسه!.
كان أخي هذا مصاباً بقرحة المعدة، وقد انهارت صحته أكثر، بعد مشاهدته إعدام شقيقه. يقف مالك فيوصي الجلادين بضربه ما استطاعوا بقوة، وهو يشرف عليهم بلا خجل. لا غرابة، لقد فقد رجولته منذ أمد وداس ضميره بنعله، من أجل أن يبقى حياً، يملأ كرشه كأي حيوان لا يدري إن الموت حتم لابد منه ولا فرار. وأن اللعنة عليه أبداً ما طرأ ذكر أسمه.
سافرت حين اُحلتُ للمجلس العرفي الأول في 17/4/1949 إلى بغداد، بعد أن أعدت أهلي إلى النجف. فقد كنت أخشى أن يصدر عليّ حكم فلا أحب أن أثقل على الطيبين الذين حملوا مسؤوليتهم تجاههم حين أخذت مخفوراً في بداية عام 1948.
في الجلسة الأولى لم تجر مرافعة. اقتصرت على أخذ أسماء الحاضرين والمتهمين. كان عددنا جميعاً ثلاثين، منهم أربعة سجناء في نقرة السلمان، واثنان كانا هاربين.
في المرة الثانية بدأ الشرطي يدخل واحداً بعد آخر حسب طلب الحاكم "عبد الله النعساني". ناداني هذا الشرطي النبيل، أتذكر أسمه "جودي ..." وهو من أهالي الحلة، وقال لي بهدوء "أنت علي أخو حسين؟" قلت نعم. قال أقترب وأستمع "فربما ذكرك أحدهم لتعرف كيف تدفع عن نفسك! وأستمر أنا شهدت الحكم على شقيقيك حسين ومحمد علي، الله يساعدكم. إذا نجوت من حكم النعساني أنت سعيد؟ خلصت من عزرائيل!"
في هذه الجلسة حضر كل المتهمين عدا الهاربين. ولم يوكل محامياً غير واحد فقط، كان هو أيضاً من المحامين. وآخر لم يكن في الواقع من الشيوعيين، ولا أدري سر اتهامه، لكنه أخذ يكرر ذكر صاحب الفخامة "صالح جبر": هكذا آنه بيك ما كنت حاضر بالنجف من بلغتوا المتهمين، أصلا ها المدة كنت في بيت صاحب الفخامة؟! والمحامي "موسى صبار" جاء اسمه أولا كواحد من الغائبين وبعد هذا لم يذكر مطلقا، ولابد ان هذا لعلاقة عمه "مهدي صبار" بوجهاء الشطرة، لأنه دفان أمواتهم، فيكون أحد أولئك قد شفع له عند صاحب الفخامة "صالح جبر" أيضاً. والمحامي موسى فعلا كان من حزب عبد الفتاح إبراهيم، وهو فتى هادئ وحيادي رغم إنتمائه المذكور. كان موسى ضمن المتهمين ولم يحضر أصلاً، وأستثني أيضاً باسم صاحب الفخامة!؟
الحاكم أمر أحد الشهود أن يستعرض وجوه المتهمين، فيشخص من يعرف؟! أمر هذا غريب. هو ليس من فئة سياسية، ولكنه يُسأل ليشخص الشيوعيين أو من يعرف من هؤلاء الماثلين أمام المحكمة!؟.
سأله: عني!. أجاب أعرف أنه نجفي، وأعرف والده، ولكن لم أره منذ سنين ولا أعرف عنه شيئاً. ثم نودي على الشاهدين من شرطة الشعبة، أحدهما "رزيج" كان هو وزميله "هادي" موكلاً إليهما أمر مراقبتي، أيام فصلي. أشتبه النعساني حين سأل عن أسمه وقال "ارزيج" ضن أنه "غزيل"، وحين أستمع إلى شهادته لخصها "رزيج" بأن هذا المتهم، كان يقصد الحديقة العامة مع عدد من المعلمين، وآنه أمشي وراهم. كل يوم قبل غروب الشمس!؟
سأله الحاكم بحدة شكانوا يتحدثون؟ والحديقة خاصة بالشيوعيين؟
أجاب سيدي، يسولفون ويضحكون!
- بس!؟
- أي سيدي ...
- وأنت تمشي قريب منهم؟
- لا سيدي. بيني وبينهم خمس أمتار؟
تضجر الحاكم، ولك أنت "أحميّر" مو "غزيل" موذنبك. ذنب اليخلي مثلك يمشي ويراقب ناس تعبانين على أنفسهم!.
قلت في نفسي أهذا هو النعساني؟ هذا ليس بعزرائيل! إنه يبدو لي طيباً. على إني كنت أسمع كثيراً بأنه مثل في القسوة!
الشاهد الثاني، كان أحسن منه. قال ما رأيت منه شي موزين، ولا شفته أختلط بأحد، يروح بدربه ويجي بدربه. ومن زمان أدري بيه بالناصرية، هو ما كان بالنجف أيام المظاهرات.
وتقدم مفوض الجنسية والسفر، كان خفر يوم أوقفت، وأجاب إني لا أعلم عنه شيئاً، فقط كنت خفر يوم جيء به، أنا عن شؤون الجنسية والسفر!
أما مأمور المركز "خضر" فقد أدلى بإفادته، بأنه لم يسبق له أن سمع باسمي أو رآني، ويوم أوقفته لقيني في الطريق وسألني ماذا تريدون مني؟ فسألته من أنت؟
بعده تقدم مفوض الشعبة الخاصة "قاسم ...." فلخص إفادته أنا رافقت مظاهرات النجف سبعة عشر يوماً، ولم أره بين المتظاهرين. إني أعرفه جيداً، كما أعرف أنه كان قد نُقل من الناصرية إلى ناحية بني سعيد.
هنا حاولت أن أخرج كتاب مديرية معارف الناصرية، الذي يتضمن تأريخ يوم مراجعتي لها بعد إطلاق سراحي في 11/3/1948 ثم تأريخ ورقم كتاب نقلي إلى مدرسة أصيبح وإقامتي في ناحية بني سعيد. تهيأت بهذا بعد علمي بتواريخ أيام المظاهرات.
أحد الحكام المدنيين تظاهر كأنه يريض يديه وكتفيه، فمد نصفه إلى الوراء، وأشار إليّ برأسه إشارة فهمت منها -أن لا تخرج ما تريد-. ولكن الحاكم "النعساني" ألتفت أيضاً، وقال لي الكل ما اتهموك فماذا تريد!؟ ولكنه قال أنا لا أعرف، لماذا حشر إذا لا يوجد بين الشهود من يتهمه؟ هنا نهض ممثل التحقيقات الجنائية عبد اللطيف الوتار وأجاب: "سيدي، مديرية التحقيقات الجنائية قسمت المتهمين إلى ثلاث أصناف. صنف ضبط في وكر سري. فثبت أنه من الشيوعيين. وصنف عرف أنه منظم إلى أحد الأحزاب العلنية المتهمة باليسارية، فروقب حتى ضبط أنه شيوعي -مندس- وصنف ثالث لم يكن منتمياً إلى حزب ولكن يشاع أنه متهم بالانتماء! وكان المشار إليه من هذا الصنف"
النعساني، أنفعل كثيراً، وراح يسخر من كيفية الاتهام؟ بصوته الجهوري: "غريب أمركم مديرية التحقيقات الجنائية في بغداد، توعز إلى شرطة النجف، تتهم شخصاً يقيم في ناحية بني سعيد في لواء الناصرية باشتراك في المظاهرات التي تمت في النجف؟! كيف تم هذا؟ بالرادار؟! يعني هم هذي مادبرتوهه!؟ مومهزله!؟"
أنا موقن بأن بين موظفي الدولة أمثال الحاكم الذي أشار برأسه كثير من لا يهون عليهم أن يقبلوا اتهام الناس بدون مبرر ودليل. وأنا من بين المتهمين لم أتعلق بأحد ولا أعرف أحد يمكن أن يهتم بأمري فالجميع يسيطر الخوف عليهم، فلا ينتصرون لأحد تعاديه حكومة "نوري السعيد" اللهم إلا من كان بعيداً عن التهمة بجلاء، كأن يكون من أتباع أحد الأحزاب الوطنية الأخرى، فهو يهتم تأديباً له وتحذيراً.
لم أكن أول متهم تم استجوابه ومحاكمته، ولكن الأكثرين كانوا بعدي. وصدر القرار، بعد جلسة استراحة، لقد حكم على الهاربين فقط!
ولا أنس أن أذكر إن الحاكم النعساني قبل أن يستجوب الشهود، خاطبني بألم -مؤنباً ومُليماً- متألما لوالدنا الشيخ كيف لم تنصفوا هذا الرجل العاجز، فتسببوا له الغصة والآلام من أجلكم، واحد يعدم، والثاني يسجن، والثالث يحاكم، اتقوا ربكم وأنصفوه!
انه على أية حال موقف نبيل، فأين ما قيل عنه؟
في خدمة المستعمر والرأسمالية
كان حضوري إلى المجلس العرفي قبل يوم. لي سابق معرفة، بمفوض الشعبة قاسم أو هو الذي تعرف عليّ. ذلك أن سبق وتحرى بيتنا عدة مرات. إحدى المرات بحجة وجود كتب لشقيقي الشهيد حسين والحقيقة أنهم كانوا يبحثون عن شقيقي "محمد علي" الذي كان يعيش متخفياً. وحين جاؤا للتحري، كان أخي مختفياً في بيت والدي. وقادهم أبي إلى سرداب فيه مجاميع من مجلة الثقافة، الرسالة، والرواية المصرية. وكان مخبأ أخي قريباً منهم جداً. كان في الأصل موضع إناء ماء "حِبْ" فحجبناه بجدار وفتحنا له فوهة مجاورة لدرجات السرداب والتي هي من داخل البيت، فالنازل إلى السرداب لابد له من وضع أقدامه على الفوهة، غطاؤها كان خشبياً نهيل عليه تراباً كثيراً من نوع أرضية السرداب المجاور للفوهة. لكننا لم ندخل الشرطة المتحرين من هذه الجهة. ولابد أن أخي قد لقي عناء من كتم أنفاسه. لو لم يرَ "قاسم" أن هذه مجلات عربية معروفة وغادر المكان يسأل عن مكان أخي الخاص، فرد عليه أبي: انه لا يسكن في النجف أصلاً، إنما هذه عندنا منذ كان عام 1940.
في الفندق الذي أعتدت النزول فيه، وجدت قاسم مع بعض التجار من النجف من صنف تجار أدوات السيارات. وقررت أن أختصر به بضع دقائق، وكذلك فعلت.
وقد دهشت إذ وجدته في غاية الانفعال. وقبل أن يبادرني بكلمة. قلت لا بد أنك متزوج ولك أطفال. ضعهم أمام عينيك، وتذكر إن لي زوجة وأطفال، فلا تحرمهم مني وتحرمني منهم، وأنت لا تجد مبرراً أو مبرزاً جرمياً يدينني به.
ردّ عليّ أنا آسف إننا نضع في رقابنا قيود الذلة والاستعباد بملاحقتنا الأبرياء من الناس الفقراء من أجل أن يطمأن أرباب المال ويناموا بأمان. كنت يا أستاذ أعمل وأنا أعتقد أني أحافظ على كيان دولة وأمة. ولم يكن في حسابي إني ككلب يَشلونه(1) على من يعادونه وحسب. ثق أني غداً سأقف إلى جانبك وجانب الآخرين ممن لم أجد مبرراً أو أي سبب لأدانتهم. لقد أفقت من غفلتي. إن المسؤولين لا يتهمون الأغنياء وأرباب المال بأية تهمة، حتى ولا أبنائهم في فترة المراهقة. ولكنهم يصدقون على أمثالكم كل ما يشاع.
أنا أستحق الترفيع منذ شهرين، وعبثاً طال انتظاري. واليوم وبمناسبة مجيئ إلى المجلس العرفي حول قضيتكم، راجعت مديريتنا، فإذا بالمدير يهددني "إنك تستحق الطرد، بل تكسير جمجمتك! إنك تطارد أبناء الأشراف لأنهم أبناء أغنياء لكي تستدر الرشوة منهم! الأغنياء من فضل الله عليهم أبعد من أن يكونوا شيوعيين. فما بالك تطارد أبناءهم؟ إنك تحريت دورهم، فماذا وجدت؟". ثم صرخ بوجهي "أخرج سأعيد إليك عقلك! سأعلمك كيف يجب أن تفهم الأمور، وأسلم على ما بيدك ولا تطالب بالترفيع، إنك لا تستحق ذلك!"
ثم أضاف قاسم أتعرف من يعني بهذا؟ أنه يعني حسن عجينة وعبد الوهاب الرفيعي وأبنيهما أنيس وعبد الأمير.
لزمت الصمت. ولكنه تابع أنا تحريت داريهما حقيقة، وعثرت على منشور. وتدَخَل بعض الوجهاء والمسؤولين وحالوا دون إلقاء القبض عليهما! ولكن حسن هو الذي أتصل بالمدير وأدعى هذا الزور!
الحق أن أبنيهما كانا من طلاب الثانوية. وكانا من أنشط الطلبة في الحركة الطلابية والعمل الحزبي. كانا مثالاً للخلق السامي والأدب. وليسا كأبويهما في كل تصرفاتهما. وقد سافرا للدراسة خارج العراق، وتبعهما شغب "نوري السعيد" فطلب من حكومة لندن أن تطردهما من الجامعة ومن بريطانيا. فأعلن أحد النواب في المجلس: إن من العار أن تمتثل حكومة صاحب الجلالة لأوامر بغداد بطرد طالبين يدرسان في جامعاتها! ولم أعرف بعد أين وماذا انتهى أمرهما.
حسن عجينة كان كأي ذي مال، يؤسس علاقات وثيقة مع رجال الإدارة والشرطة ويقيم لهم المآدب الفخمة، ويقدم الهدايا بالمناسبات، وكذلك عبد الوهاب الرفيعي، وأسمه المشهور بين الناس "بهلول" لتمشية أعمالهم. وإضافة إلى هذا أن محضر حسن دائما غير نزيه. "بهلول" هذا أهون من "حسن" فما كان متملقاً ولا ذا تجارة، ولكنه ذو مال. وهو في الحقيقة بسيط ولذا أكتسب هذا الاسم. وكانت لي معه صحبة، لكني فوجئت يوماً به يقف أمام حانوتي يصيح بي بصوت متألم، ليش علي؟ بيش تطلبني؟ ليش سبب على أبني مطاردة الشعبة؟ هالواحد عندي، ليش تأذيني؟!
بُهتُ. إنه لساذج حقاً فلم تكن لي بابنه صلة مباشرة مطلقاً، ولم يتصل بي أبداً. وقبل أن أرد عليه، ذهب يواصل سيره في الطريق!
هكذا إذن وعى الحقيقة قاسم. إن الدولة بكل أجهزتها إنما هي الحارس للبرجوازية وسلطان رأس المال.
أطفالي
بعد أن نجوت من أحكام المجلس العرفي عام 1949 بقيت حتى عام 1952 في هدوء نسبي، أقول هدوء نسبي، ذلك لأن فكري موزع بين ما يمكن أن يجد. فوضع حكامنا لا يعرف الاستقرار. لأن الاستقرار يتيح للناس أن يتفهموا حقائق الأمور. والوطنيون لا يكفون عن فضح الأوضاع السياسية والنوايا المبيتة. وبين ما يردني من أخبار عن أبي وثورته المنبرية. فبعد حادث إعدام ابنه أعلنها الوالد حرباً شعواء من على منبره على الحكم المتهرء فسانده النجفيون خصوصاً الكسبة والعمال.
أحياناً كنت أشغل نفسي في ملاحظة أوضاع أطفالي. وأحاول أن أدرس أسباب اختلاف طباعهم. أكبرهم، وكان قد نال الحظ الأوفى من العناية بطفولته الأولى، فقد كان كل شيء موفوراً، سواء من ناحية ثمنه أو من ناحية وجوده حتى عام 1943 حين بدأت أمورنا المعيشية تتأزم، كنت أهيئ له اللعب والملبس، وأعني به ساعات الراحة في البيت، وأصحبه معي إلى النادي، أو سائر النزهة التي أتمكن منها. أما الآخرون فقد كانت الظروف قد اختلفت، وسببت لبعضهم شيئاً من الحرمان.
هذا الطفل الأكبر يقسو على أخيه وأخته قسوة لا مبرر لها. ورغم كل ما أبذله من توجيه ونصح وتحذير، انه لا يعرف اللعب ولا الدعابة، ويولي الدراسة والتحضير الاهتمام اللازم.
أما أخوه الأصغر منه "همام"، فأنه يمتاز بالمرح، والدعابة البريئة، وفيه حنو على الآخرين ملفت للنظر، فهو لا يعطى شيئاً إلا وطالب بحصةٍ لغير الحاضر منهم، إنما يدهشني في سرعة انقباضه إن زجرته -ولو بلطف- فإن دموعه تنهمر بسرعة مذهلة، لماذا؟ كذلك هو يعتمد على ما يسمع من المعلم وما يؤديه أمامه على السبورة، وينصرف خارج المدرسة إلى اللعب مع أخته وأخيه الصغير "محمد" في لعبات يبتكرها ويندمج بها، يمثل بائعاً وهم المشترون، أو معلما وهم التلاميذ.
أبنتي "أحلام" التي جاءت في تسلسل الولادات بعده، رقيقة المشاعر نحوهم جميعاً. لا تكاد تحس بأحدهم -خلال تناول الطعام- بحاجة إلى الماء حتى تنهض مسرعة لتقديمه، إنها عصبية، ومرد هذا إلى ما أصيبت به من عارض مفاجئ كانت نتيجته حين كبرت أن ظهرت عندها فأفأة، كانت مدعاة هزل أخويها منها بدعابة مزعجة لها. وطالما أطلقا عليها أسماء مزرية، أو غنوا بأهازيج مثيرة لعصبيتها. وبسبب فأفأتها أخرت دخولها المدرسة سنةً مع عرضها على طبيب فزالت الفأفأة فأدخلتها المدرسة وواصلت دراستها بنجاح.
كانت أمها تغلق عليها باب البيت حين تخرج للسوق، وتترك عندها أختها الصغرى "نوال" وحدث أن أخذت دجاجة بالقوقأة مما أفزع الصغيرة فرمتها بسكين كبيرة كانت قريبة منها فانكسرت رجل الدجاجة! فسارعت وضمدت الدجاجة بخرقة شدتها على الكسر بعد أن أدنت العظم إلى المفصل. كانت تستقبلني لتأخذ ملابسي إلى حيث أعلقها، فأسلمها لها لكني أحمل عنها بشكل تبدو أنها هي التي تحملها.
ابني "محمد" ذو خيال خصب، يجبرني كثيراً أن أصغي إليه وهو يسوق حكاية صعوده إلى القمر وعجائب ما رأى فيه من حيوانات. ومرة حدثني، أنه رأى عمه "حسين" في مقهى على النهر، وأن شرطياً كان يرقبه، فخفت أن أناديه؟! وكان سريع الانسجام في اللعب والمزاح مع أخوته. وتميز بصبره في تحمل مزاحهم القاسي، أو حتى تحمل اعتداءاتهم عليه دون تذمر أو شكوى.
و"نوال" السمراء حين ترعرعت كان نطقها جيداً، كانت مولعة بتقليد ما تسمع وترى، وتسارع لإنجاز ما يكلفها به الآخرون فترضيهم بمرحها وتتملقهم لتسكتهم. ولكنهم يضحكون منها ويطلقون عليها أسم "السخلة" لشدة سمرتها. بدت حين تمت أنوثتها أكثر أدبا والتزاما وحبا لوالديها وخدمة البيت مضافا إلى وظيفتها كمعلمة فنظمت فيها قصيدة مطلعها:
نوال يا سمراء يا غالية يا بهجة البيت بلا ثانية
وقد نشرت القصيدة في مجلة "...." التي تصدرها جمعية النهضة في كربلاء، مسؤولها الشيخ عبد اللطيف الدارمي.
على القبر
ظهيرة يوم من أيام آب، حيث الحر الذي يلجئ النجفيين إلى القيلولة في السراديب العميقة، نسيته في لحظة فارقتني فيها الغفوة التي اعتدتها بعد الغداء بفترة قصيرة. غادرت مكاني وأهلي جميعاً مستسلمون للراحة المعتادة تلك، وتوجهت إلى وادي السلام، كنت كالشاعر علي الشرقي في قصيدته "وادي السلام" وقوله:
طلبت ابن عباد فالقيتُ صخـــرةً وقد رقشت هذا ضريح ابن عباد
لم أزورْ قبر أخي يوم قصدت النجف على أثر سماعي خبر الحكم عليه. أردت ذلك فردتني رعدة غريبة هزتني هزاً وتراءت لي مخاوف كثيرة! لست أعرف لماذا؟ فلزمت نفسي أن تهدأ إلى حين .... يوم 22/7/1950 هيأت بعض الأبيات دون أن أتمكن من مواصلة النظم!؟ وقد اندفعت اليوم 12/8/1950، وكأنه يناديني، يعاتبني، ويؤنبني على ذاك الجفاء! ولكن كيف؟ أنا لا أعرف عن مكان القبر، سوى إشارة من أبني كفاح الطفل إذ ذاك، وقيل لي أنه قرب قبر الشيخ بْنَيَّه، وهي بناية واسعة تعود لزعماء بني لام في لواء العمارة، سميت بأول دفين وأسمه تصغير بنت. واتجهت نحو هذا. فأصبت. إني أمامه، وكأني أمامه هو. فأجهشت بالبكاء، أقول:
وحقك لن أنساك لن أعـرف السـلـــوى ولكنني شـخص صبـور على البلـــوى
أبـثـك فـاســـمعني أحــاديث لـــــوعتي فهــا أنني قد جئت أسـمعـك الشـكــوى
ألــــح عـلي الـــدهــــــــر حتى كأننـي غـــــدوت له من بيــن أوكاره مـــأوى
وقد كنت لي صبرا وقد كنت لي حِجى فلم أختـش الـدهيــا ولم أرهـب اللأوى
وفارقـتني يا ضـوء عيني ويا هـــــوىً تنســمه أنـفي فـعشـــت كمـا أهــــــوى
إذا بي غريب في الحيــــاة تـنوشــــني ثعالـب كم كانت تصــول ولا تـقــــوى
اُخـي ومــا أحــــلى أخيّ أقــــولهـــــا إذا رَدَدَتْـها النفس عـادت بها نشــــوى
فقـــدناك فـقـــد النجـــم من يهتــدي به وقـد بعــد المسـرى ولم نبلــــغ الشـأوا
حــــرام عـلى قـلبي الســــــلـو كأننـي سـكرت بأحزاني ولم أعرف الصحـوا
وقـــد طـــويت من بعــد فقـدك فتـــرة ولم أتـرك الـكرى لـعمـد ولا ســـــلوى
خـيـــالك لــــم يـبـرح عيـــوني كأننـي أطـارحك الأشـــواق والهـمّ والنجــوى
كـأنــك تـلــمحني كـأنــــك عــــاتــــب كأني على تقــديم عــذري لا أقــــــوى
أخـيّ جـفـــــانا الأقـربـــون وعـافـنــا أخـلاؤنا شــأن الذي فــرّ من عــــدوى
أُخـيّ. وقـد صاح الــــزمان بشـــملنــا فأنـت هـنـا ثــاو ويـا طـيـبـه مثـــــوى
تـضمن جـثمــانــا يفيض شــهـــــامـةً على رغم ما قد بث أعـداه من دعــوى
تكرر من مسـتعبدي النـــاس ضـد مـن يـكافـح في إيـمانه الـبغي والطـغــــوى
وطه؟ فهــــل تـدري بطه وما جــــرى عـليه من الأرجــاس إذ لـم يكن رخـوا ...2
ســــجين بقـفــر شــــــطَّ عـنــا مـزاره على أنه قد أحســن الصبر في البلــوى
يـجــــــر بـرجـلـيه الـــحـديـــــد كـأنـه أداة بـهـــا يلهـــو وما عــرف اللـهـــوا
ويـحـلف أن لـــــو مُدّ حـبـل حـيــــاتـه وحـالفـنا نصــر لنمحـــوهمــو مـحــوا
وأمـا أنـا فـالحـمـــــــــــد لله في عـنـــاً وقد أبعَدتْ دنيـــاي عن عيشيَ الصفوا
وزيـد بأعـبــــــائي وأثـقــــــل كاهـلـي ولكـن جـيــدي لـن يـذل ولـن يُـلــــوى
أُخـي تجـول الذكــــريات بخـاطــــري وها أنا ذا أسـتعـــرض الـمر والحلــوا
مضـت بعض أيـام علينــــا وعيشــــنـا رخيّ ولــــذات الحـيـــاة كـما نهــــوى
ترف المنى كالـطيــر فوق رؤوســـنـا فـتهفـوا القـلــوب النابضــات بها هفـوا
وتهـتــــــز للأنغــــام تســمـع لـحنهـــا وتـطـرب للأطيـار إن أرسـلت شـــدوا
ودارت بـنــا الأيــــام: حيث تبـدلـــت لنــا فِـكَرٌ قـد مجـت اللـعب واللـهـــــوا
أحـبت مـيـادين الـــرجـــال وأولعــت بحب النـضــال الحـــر مذ صوته دوّى
وعـفـنـــا لــذاذات الـحيــــــــاة كأنمـــا عشـقـنا الشـقـا حتى غـدونا به نشــوى
نـصـارع جـورَ الـظـــالمين وعسـفهـم صراعا ولم نركب غـرورا ولا زهــوا
أُخـي شــــهيــد الحـــــق مُـتَّ مكــرمـا صحـائفك الغـراء في الدهر لا تطـوى
على ضـوئهـا يمشي الشـبــاب منـافحا وغـايته تحـقيـق غـايتـــك القصـــــوى
أُخـي لــو أن الـــدمع يـــرجـــع ميتــــا بكـيت بكا الــراجين من ربهم عفـــــوا
وأذريـت دمـع الـــعين أحمـــر قانيــــا ولـكـنه واحســـــــرتاه بـلا جـــــــدوى
بنفسي من لم يُغلب الــــدهـرَ صبــــره مـآثـره حتى لــــدى خصـمه تـــــروى
بنفسي من لـم يَشْـكُ يــــــوما عنـــــاءه وحتى غـدا من ثـقـل أعبـائه نـضـــــوا
بنفــسي من ضـحى بــــــكل حيـــــاتـه وخر صريع البغي كالغصن قد ألـــوى
بنفــسي صـــريعــــا مـا ألينت قنـــاته وحـاول كالإعصـار لم يألف الرهــــوا
بنفسي صليب الـعـــود عـانـق عــــوده مـع الفجــر والأنسـام داعـبنه نشــــوى
تعـطـر من اردانه الـفجـــر بالنـــــدى ويزداد عـطــر الـورد إن هو قد ألــوى
سيبقى مدى الأجيـــال ذكراك مفخـــراً سـلام عـليه في الحيــاة وفي المثــــوى
كان صدى نحيبي وإنشادي يرتطم بجدران القبور المكتظة في مدينة الأموات فيعود رنينه إليّ. لست أدري كيف مرت الساعة ونصف، تحت وطأة حر السموم في صحراء النجف. وكيف استطعت أن أواصل في ارتجال بقية القصيدة ولست أعهد فيّ هذا الارتجال! لقد تركت نظم الشعر منذ عام 1938 وحين حلت مصيبتنا به، عدت إليه كأني أجد فيه البلسم لجراحي. أواه وألف آه يا ابن أمي!