|
دراسات نقدية 3- عودة ومصائب وعواصف / 6 محمد علي الشبيبي
فترة هدوء وليست فترة أمان أعرف فتى كان خادماً عند أحد جيراننا في النجف. كان لطيفاً في حديثه بلهجته العربية المتعثرة بلغته الأصلية -الفارسية- ونخوته لمن يطلب مساعدته، مهما كلفته من جهد وتعب. كان يحبنا ويحترمنا. وبالصدفة وقف أمامي، وقد تغيرت لهجته كثيراً عن ذي قبل. كان قد ترك النجف بعد وفاة مستخدمه. ولم نعد نعرف عنه شيئاً. لكن ما الذي جاء به إلى هنا. لقد عرفني قبل أن أنتبه إليه، وبادرني مباغتاً، بالقبل وإعلان الفرحة بهذا اللقاء. وصحبته معي إلى البيت ضيفاً. فأدهشني حديثه عن أخويَّ! فعجبت كيف تم له علم كثير بموضوعهما، وأستمر، فتغير كل رأيي فيه، ولزمت الحذر من فلتان اللسان. كشف لي عن نفسه، بدون لف ودوران، عرض عليّ أن يقوم بخدمة لنا فيما يخص أخي السجين "محمد علي". أكتب عريضة عن لسان والدته، إلى سفير بريطانيا العظمى!؟ قل فيها إنها حامية العدالة معينة الضعفاء، دولة الخير والدين والأخلاق ..... وأجلب الوالدة وأنا سأصحبها إلى صاحبي! - ومن صاحبك يا عباس؟ قلت، يا عباس. الله وأكبر من صاحبك. تركنا الأمر إلى الله ولن نلجأ إلى أحد غيره. لم أجد ضيرا من هذا الجواب مع عباس العجمي الذي أصبح مؤمناً بريطانياً! كان لقائي ببعض الأصحاب أكثر من البعض الآخر. فكل نموذج له لطف خاص به. علاقتي بالأديب عباس ملا علي وعبد الكريم الأمين تختلف عن علاقتي بكثير من زملائي المعلمين. وفي هذه الأيام وبعد أن مرّ على تبليط الشارع "عـﮕد الهوى" شهر واحد. أخذ الناس يتحدثون، كيف بدأ تبليطه يتفتت، حتى لكأنه من رماد وليس من قير. "عـﮕد الهوى" كان أسمه عند عامة الناس. يقول بعضهم إن سبب هذه التسمية كثرة الهواء لسعته، فهو أوسع شارع إذ ذاك في الناصرية. ويزعم آخرون إن هذا بسبب وجود بيوت الدعارة في نهايته. وتم التبليط على العادة مقاولة بالمناقصة؟ وما كان المبلغ زهيداً أبداً. ولكن الرشوة كانت متفشية. حتى أن المتصرف "عبد الحليم السنوي" قد أستوفى حصته قبل الهيأة الفنية من مهندس البلدية وأعضاء المجلس البلدي. وتحدثنا كالناس عن هذا آسفين للسكوت والخنوع الذي يلازم شباب البلد، وتناول الحديث جوانب متعددة من تلاعب المسؤولين بمقدرات البلد وشؤون الناس في مختلف الأمور ومن أهمها مديرية المعارف التي تسودها سياسة التنافس والتعصب، وفعلاً بسبب هذه الروحية الكريهة قسمت وظائف المديرية -بشكل مقصود وتدريجياً- فلان يمثل خط السوق "سوق الشيوخ"، وفلان يمثل خط "الشطرة"، وفلان يمثل خط "الرفاعي"، وكل واحد من هؤلاء العمد له وكيل يتوسط أمور المتعلقين ويوصلها إلى العمدة. ولا تخلو الحال من اعتراف الوكيل والتعلق بالجميل للعمدة الذي يلتزمها عند الضرورة وفي حالات الخطر والمصادفات السيئة، مثل النقل إلى مكان غير مرغوب، أو رفض نقله إلى المكان الائق، أو شموله في التعيين في المدارس المسائية، أو في لجان التصحيح بالامتحانات العامة. فمخصصات المسائي، والتصليح كلاهما وارد لا بأس به. وللعمدة منهم هدايا مناسبة! وتعرضنا لبعض أساليب ملاكي دور السينما، في عرضهم لأردأ الأفلام، مثل "السيدة تعارض" وأمثالها مما يزيد التفسخ الخلقي، وأساليب اللصوص، والعصابات، ذلك لأن هذه الأفلام رخيصة الثمن بينما هي تجذب وتستهوي الشباب المائعين، والمراهقين، بينما أصحاب هذه الدور يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول، ويستضيفون رجال الدين الذين يطوفون شتى أرجاء الجنوب يجبون من هؤلاء ومن العشائر، الزكاة والنذور، ولكن لا يدخل في حسابهم، أنهم بما يعرضونه من تلك الأفلام ما يهدم الأخلاق، ويشيع التفسخ والانحلال الخلقي. وأجمعنا نحن الثلاثة، لو قام أحدنا أو ثلاثتنا، بنقد هذه الأوضاع على صفحات الجرائد، ولم ننس أن المسألة لا تخلو من خطر، لما نعرفه من تحالف بين أهم القوى، الشرطة والإداريون، والمتنفذون من رجال البلد "الوجهاء" وبالأخص أحباب صاحب الفخامة، والموظفون الوسطاء في نفخ الجيوب. وبدون توقف سارعت فكتبت كلمة بهذا، عنوانها "تعال معي إلى الناصرية" وأرسلتها للنشر في جريدة العالم العربي لصاحبها نجم عبد الله السعدون، وهو صديق لي أيضاً، ورئيس التحرير فيها الصحفي المعروف لطفي بكر صدقي، وما أسرع ما نشرت بتوقيع مستعار طبعاً. ومن الصدف أن يوم نشرت لم أخرج كالعادة، لقد تأخرت لأمر يخص صحتي، ولزمت مكاني الخاص في غرفة الاستقبال. وجاء شاب من الجيران. أعرف فيه طموحاً لخدمة البلد، والنضال ضد العمالة والاستغلال والسياسة التي تساعد على التأخر والانحطاط. لاحظت أنه يعاني من سوء أصابه. فسألته، فراح يقص علي نبأ نشر كلمة له، بعنوان "تعال معي إلى الناصرية" وأن موجة غضب هاجت بين وجهاء البلد. مدير الشرطة أتصل بإدارة الجريدة، مدعيا إنه صاحب الكلمة، وإن فيها أخطاء كثيرة، يوهم الإدارة ليتعرف على صاحبها الحقيقي. وآخرون يهددون ويتوعدون، لو عرفنا من هو كسرنا عظام جمجمته بالأحذية! ومدير المعارف السيد كاظم القزويني أستدعى عبد الكريم الأمين وعباس ملا علي معتقداً إنها لأحدهما. كان قد تكرم مدير المعارف على الأديب عباس ملا علي فعينه محاضراً في دروس العربية في بعض صفوف المتوسطة والثانوية، ولهذا أجاز لنفسه أن يحاسبه!. وأنا آسف أن فقدت نسخ الجريدة التي نشرت الكلمتين. ثم قال الشاب، أنا صاحب الكلمة. وإني أخطأت إذ أفشيتُ أمرها لأخي، وقد جاء أخي منفعلاً وخائفاً من مغبة العاقبة. وهددني بالطرد! كان على الطاولة التي أجلس خلفها ملف كتب عليه عنوان المقالة وتأريخ إرسالها للجريدة، وجلس هو من جانبه الثاني. فقلبت الملف حالاً، كيلا يلتفت إليه. ورحتُ أهدؤه وأحثه على كسب رضا أخيه ولو بالإنكار، وأنك قلت ذلك أدعاءً. والتقيت بصاحبيّ، فبادرتهما بالتساؤل عمن كتب ذلك منهما! راحا يقسمان اليمين متنصلين، ويسألان مني أن كنت أنا الكاتب، فأقسمت اليمين أيضاً. قال أحدهما، المضحك في الأمر إنا تعاهدنا على الكتمان، فمن يجرأ على التصريح؟! وحضر أحد شياطين مديرية المعارف، وقال متحمساً، والله العظيم لو تأكدت من معرفة الكاتب لهشمت فكيه بحذائي هذا! فقابلناه بالنكات والتعليق. بعد أسبوع جاءت جريدة "الجبهة المتحدة" تحمل كلمة أخرى لي بتوقيع صخر بعنوان "يا شباب الناصرية" ذكرتهم بتقصيرهم في خدمة بلدهم، مع علمهم بمن يتلاعب بمقدراتهم. وقلت، إن كثيراً من أولئك المتلاعبين ممن هم ليسوا من بلدكم، وتعرفون عنهم كل شيء ولكنكم ليس فقط تغمضون عيونكم عنهم، إنما تزيدون احترامكم لهم!. فهاجوا أيضاً. أحد معارفي استدعاني -وأنا مار في الطريق- أن أجلس قليلاً معه. وقدم لي الجريدة. وقال، خذ أقرأ ... في رأيي كاتب هذه المقالة هو نفسه الذي كتب الأولى! ماذا تقول؟ ولكني تبت إلى رشدي فعدلت عن الكتابة. ومن غريب الصدف إن مدير المعارف أرسل بطلبي. وحين حضرت قال، في النية إقامة حفل بمناسبة المولد النبوي. لنا عليك أن تشارك بإلقاء كلمة بهذه المناسبة. لكني اعتذرت وأصررت. وقلت، يا سيدي أنا لست من رجال هذه الحلبة أولاً، وثانياً أنت تعرف إني تحملت المصائب بدون أن أكتب فكيف بي لو كتبت؟. أضف إلى هذا لو إني أحسن ذلك لكتبت ببالغ الأسف عن مصير دين محمد في هذا العصر على أيدي أبناء الدين!. وسمع دوي الملائكة يسبحون ويقدسون ويباركون البشرية بالمولود العظيم؟ إن كتبت فسأكتب عن دين النبي العظيم كيف أصبح غريباً، وقد زوي عنه "بدى الأسلام غريبا وسيعود غريباً كما كان" وكأنه يشير إلى الآية الكريمة "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات انقلبتم على أعقابكم ..." وحضرت الاحتفال. وجاء دور الطالب شاكر محمود. بعد قليل من إلقائه، أخذ المتنفذون المتصرف، مدير الشرطة، مدير المعارف، يوشوش بعضهم مع بعض، يتساءلون بدهشة ونرفزة، من سمح لهذا؟ دعوا أحد المسؤولين من المدرسين. أخبروه، أن الشرطة ستقبض على هذا الطالب لتحديه ومروقه. أجاب المدرس، وأيده زميله وشريكه في المسؤولية والأشراف، إنا لا نسمح بهذا ونقول لكم لاحق لأحد على هذا الطالب مادمنا قد سمحنا له ورضينا بها فأن كان ولابد، فنحن الذين يجب أن نحاسب! وطال بينهم النقاش. كنت في الصف الذي يليهم. في مسافة أستطيع أن أفهم شيئاً مما دار. وشدد المدرسان المشرفان والمسؤولان أيضاً "حامد العزي ورشدي الأشهب". كان حامد مدرساً مثقفاً وأديباً وشاعراً. وبيني وبينه صداقة تمت بواسطة علاقتي بأمين مكتبة الناصرية عبد الكريم الأمين، ورشدي الأشهب فلسطيني، أديب وشاعر أيضاً، يحمل الحسرات من أجل موطنه فلسطين، وهو ظريف غاية الظرف. وتجرأت فأقدمت على زيارة قضاء الشطرة. أليس مؤسفاً إن يجد نفسه المواطن محروماً من التعرف على مدن بلاده! صرت ضيفاً على الصديق الأستاذ رسول الوسواسي. وزرت الصديق عبد الحسين جواد الغالب. رسول الوسواسي مدرس تعرفت عليه عام فصلنا من الوظيفة باعتبارنا شيوعيين وقد مارس خلال فترة الفصل العمل في حانوت بسيط. وعبد الحسين الغالب هو من زملائي في الموقف العام عام 1948 أيام وثبة كانون. ولفت نظري، بيت فخم -بالنسبة لمباني هذا القضاء- لكن جدرانه مطلية ومشوهة بالحناء، وقد كتب على بعضها -يا بخت حجي خيون- هو شيخ مشايخ عشيرة العبودة، ولكنه الزعيم البارز في هذه الربوع. فهو الذي تعاون تعاوناً وثيقاً مع الإنكليز لتثبيت احتلالهم وسيطرتهم. وقد رصدت له حكومة الاحتلال مرتباً شهرياً -مئات من الروبيات-. عدت مرتاحاً وهنأت نفسي أن عدت بسلام، وبعد أسبوع علمت أن الشرطة استدعت مضيفي واستجوبته عن علاقته بي، وأسباب مجيئ، انتهت أيضاً بسلام! ولكن صدري يجيش أحياناً بلهفة وحرارة، أيّ أمر ينتظرنا في الغيب. إن العالم يضطرب، ذلك لأن حلفاء الإتحاد السوفيتي ضد النازية، بدؤوا منذ انتهت الحرب يهيئون أنفسهم. لضرب حصار على السوفيت، علّهم يعيدون الشعوب التي أصبحت حكوماتها اشتراكية -كما يعبرون عن هذا- بإعادة الحصان إلى الإسطبل. وفعلاً قد تفجر صدام مسلح بين شطري كوريا وتدخلت أمريكا باسم هيأة الأمم المتحدة، واشتركت معها الأمم الموالية لها. ولم تفلح في دحر الكوريين الشماليين. وقد نُصح الأمريكان بعدم تخطي خط العرض (38) لكنهم اعتبروه خطاً وهمياً. وهاجموا الشماليين بوحشية وقسوة، مما دعا الصينيين للتدخل لحماية أنفسهم، وبالتالي أنتصر الشماليون، وكانت خسائر الأمريكيين والكوريين الجنوبيين فادحة، وانسحبوا بصورة مخزية. وحين أشتد البلاء من حكم الوكيل الأعلى على الصحافة والفئات الوطنية، استقال ليشكل الوزارة في 10/12/1949 علي جودة الأيوبي، وضمت وزارته عضواً من الوطني الديمقراطي وزيراً للعدلية، وهو حسين جميل بصفته الشخصية لا الحزبية إذ كان الحزب مجمداً. الأيوبي أيضاً حمامة سلام خصوصاً وانه قد فارق رئاسة الوزارة منذ عام 1935. وهذه هي المرة الثانية يتسلم زمام رئاسة الوزارة. فألغيت الأحكام العرفية، وأتيح للصحافة شيء من الحرية لتعالج قضايا البلاد المتردية. فطالبت بإعادة النظر في أحكام المجالس العرفية. ثم لم تدم أكثر من شهرين واستقالت! أن مجيئها مؤقت ومرسوم للتهدئة وإيهام الناس بالأمان، وفترة استجمام للسيد الوكيل، ريثما يزوده أسياده بالتخطيط الجديد. وجاء دور حمامة السلام رقم "3" توفيق السويدي ليوطد الأمور، ويحقن الظروف -بمورفين- ولكن الجميع يعلمون انه رقم "3" يأتي بعد جودة والأول هو ذو اللحية المقدسة. والسلام في عرف هؤلاء، ليس مهدداً من قبل الاستعمار، إنه مهدد في مفهومهم كما قال شاعر العراق الكبير الجواهري: وخــوفــوهــا بدب ســـوف يأكلهــا في حين سبعين عاماً تألف السباعا ويبدو إن الإعجاب فيها كان كبيراً، إذ بلغت مديرية المعارف المدرسة برغبة المتصرف بمشاهدتها. فواصلنا التمثيل يوماً رابعاً. مدير المعارف القزويني قدم كارت إلى بطل المسرحية -كفاح- كتب فيه "أهدي حذاءاً جديداً لأبي القاسم" أعجاباً بقيامه خير قيام وأداء وتمثيل الدور. والناس في حديث واسع عن كسوف الشمس الذي حدث في 25 شباط -1951- في الساعة 11 والدقيقة الخامسة والثلاثين من جهة الجنوب الغربي، لم نعد نرى الشمس تماماً وعًمّ الظلام ربما لأن هذا جاء مصحوباً بتلبد الغيوم. قالو: إن البعثة التي اتخذت "أور" مكاناً لمراصدها لم تنجح في مهمتها تماماً. القزويني أنتقل وحل محله حسين صياح. دهشت منه انه لم يبد أية ملاحظة على تدريسي فروع العربية، القواعد، الإنشاء، أسلوب تدريس القراءة. انه قصر ملاحظته على عدد قطع "المحفوظات" الشعرية والنثرية. في رأيي أنا ليس المهم العدد، المهم أن يكون الاختيار هادفاً من الناحية التربوية، وموافقة القطعة الشعرية فيما يخص بنائها في الوزن والقافية، ووضوح القصد فيها، لعقلية وسن الطلبة. حسين صياح من أهالي الديوانية، قيل انه يعتبر من ركب المدرسين الذين يتعاطون نظم الشعر وقد جاء خلفاً للقزويني الذي نقل. مدير المعارف سيد كاظم القزويني من الحلة. تعرفت عليه منذ زمن بعيد بواسطة علاقتي بأستاذي جعفر الخليلي. حين جاء كمدير معارف "لواء الناصرية" زرته -وحدي- بعد زيارة المعلمين. رحب بي ترحيباً كبيراً. وتساءل عن سبب وجودي في الناصرية فأفهمته أني عينت بها بعد إعادتي للوظيفة. كان قد ترك ما بين يديه من أوراق، وحين علم أني معلم ابتدائية، عاد إلى عمله ملازماً الصمت!؟. إنه إذن يستخف بمهنة المعلم، وأنا أيضاً أستخف بهذه المقاييس وأصحابها. نشط المعلمون لإقامة حفلة توديعية له. ومن المهازل أن بعض الذين كانوا ينتقدونه ويشتمونه كانوا في مقدمة الذين القوا كلمات غاية في المبالغة بتكريمه والثناء عليه، منهم مفتش المعارف عيسى الساجر. وبالمناسبة هذا المفتش في بداية مجيئه، أختصر بي أثناء زيارته مدرسة السيف. وقال، آني علمت أنك من آل الشبيبي، وأن للأستاذ محمد حسين فضل عليّ أنا، وأنا مرتاح إذ وجدت قريبه لأوفي جميله عليّ، ولكنه بعد هذا غير رأيه، وانقلبت الآية إلى محاولة نقيض الأولى. لماذا؟! أكبر سبب لأني لست ممن يقيم دعوات منضدة الشراب في النادي. وسبب آخر له علاقة باختصاصي واختصاصه، هو معلم رياضة ويبدو انه بعيد عن اللغة العربية تماماً. أخرجت تلميذ -ابني همام- على السبورة ليعرب جملة "لم يكن التلميذ كسولاً". بطبيعة التلفظ يكسر المتكلم نون "يكن" على قاعدة إذا التقى ساكنان أما أن نحذف أو نحرك، وحيث لا يمكن الحذف فقد حركنا بالكسر. ولكن حضرة المفتش، أخذ يلح على التلميذ، أنطق جيداً ودقق ما علامة الجزم هنا؟ التلميذ يجيب، السكون! لكن المفتش يلح. ويحاول أن يقطع التلميذ الكلمة، حرفاً حرفاً، ليلفت نظره إلى انه يكسر النون، فهي إذن علامة الجزم؟! نبهته، التلميذ مصيب في العلامة. لأني اعتقدته يغالطه. فأجاب، إنها واضحة وهو ينطقها؟ ولما نبهته للقاعدة لم يقتنع، وغادر الصف. أدركت إنه اهتدى إلى الصواب وأقتنع ولكن أخذته العزة بالإثم. وحكاية منارة الكفل مضرب للمثل في نكران الحق الثابت. واصل الحكاية: إن نزاعاً جدّ بين المسلمين واليهود أيام العثمانيين. المسلمون يدعون إن البناية لهم فهي جامع لوجود المنارة واليهود ينكرون وجود المنارة وان ذو الكفل نبيهم. وكلما جاء موفد من الأستانة لمعرفة الحقيقة رشاه اليهود فأيدهم وما تزال المنارة موجودة. ولكني أدركت بعد هذا سر هذا التحامل. مدير المدرسة يتضايق من "العليين" معتقداً أنهما من دعاة الاشتراكية! هذا فهمته حين تمشى ذات يوم معي، وراح يقدم لي النصائح، إنك من مدينة الأمام علي بطل الإسلام وأسرتك أسرة علم ودين فلماذا تتجه هذا الاتجاه المنافي للدين والأخلاق؟ الاشتراكية أو الشيوعية؟ قلت، يا أبا منذر "سيد باقر" إن صح هذا فهو لا يخرج عن كونه اتجاه فكري في السياسة والاجتماع والاقتصاد. ولكن قل لي، أيصح لك وأنت من أبناء الرسول أن تبذر راتبك على مائدة القمار، وهو رجس من عمل الشيطان؟! وبيتك ما فيه غير حُصُر الخوص؟! أليس القمار محرم في الدين؟ أما العلم فلا! وأنت تعرف عني أيضاً إني بعيد عن الكأس والقمار. كم أضحكني رده حين أجاب، سأترك حينما أكمل تجربتي لغرض تأليف كتاب "المقامرون"!؟. انه مدهش أيضاً حين يتحدث عن جدته. التي ربطت أسداً قد جاء مع أبقار جده عند المساء! فربطته تلك الجدة متوهمة أنه أحد العجول. ولكن جده أكرم الأسد بعجل وأطلقه معه؟! حين انتهى من حكايته هذه -المعجزة لنا- صاح المعلمون بصوت واحد، اللهم صلي على محمد؟! إنهما نموذج واحد في التربية والتوجيه. وقيادة التربية والتعليم ما تزال في أيدي أمثالهم من المدللين أو المأمونين على سياسة الدولة. فأعلنت متذمراً، أي سخيف هذا الذي تمتد يده لحاجة غيره دون علمه؟ أهي مداعبة؟ ليس الوقت وقت مداعبة! إنها سرقة. إنها نذالة. وكرر إنكاره بالاعتذار مع اليمين. وفي صباح اليوم التالي، أنكشف كل شيء. جاء أحد زملائي يطلب أن أذهب معه وأعتذر، وأطلب العفو؟ فالمسألة خطرة. السيد كتب كتاباً رسمياً وجهه إلى الشعبة الخاصة "الأمن" حول موضوع الكتاب، يشير فيه "الكتاب، شيوعي وهو مبرز يؤكد أن المعلم علي الشبيبي يدين بها وهو زميل المعلم الشيوعي الآخر في المدرسة، يرجى العلم" وكان يقصد بالمعلم الآخر الزميل علي عبد طالب الذي أتهمه المفتش بالتقصير في وسائل الإيضاح. وذهبت مع الزميل. وقلت وأنا في حالة انفعال، أسمع يا سيد .... أنت وحيد أبويك رحمهما الله، ليس لك أخ لذلك لا تعرف معنى أخ! ثق إني لو وجدت قطعة من ثياب أخي حين إعدامه لوضعتها على يميني وتقدمت إلى المشنقة -إن حكم عليّ بها أيضاً- مسروراً. أما أنت وقد أنكرت علمك أمس بالكراس مع الأيمان فخذ مرآة أنظر بها وجههك، وضع يدك على صدرك، سيكون وجههك أسود، وضميرك ميتاً بسبب فعلتك هذه السوداء والمخزية ... وغادرت الإدارة إلى الصف! وحين عدنا إلى البيت عند الظهر. دق الجرس فخرجت أستطلع، كان هو نفسه، جرني وقبلني بجبهتي وأعتذر وسلمني كتاباً وغادرني مبهوتاً! ما الأمر؟! "الكتاب" اعتذار وألم. لقد أثرت فيه كلمتي تأثيراً، كانت سطوره في كتابه، كأنها دموع تنسكب، وأنّة تسمع: أنك من مدينة جدي، وأنت سميه، محال أن تصل بي النذالة إلى هذا الحد! ولكني كنت أهدف إلى ضرورة تجنبك مثل هذا فهو خطر عليك! وفي الدوام الثاني بعد الظهر، جاء إلى الصف وقدم لي الكراس بظرف جديد. وطلب أن أخفيه، وبهتَ حين مزقت الظرف وأخرجته أمامه. وعَقبتُ: المسؤولية عليّ وأنا راض، وشكراً.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
|