3- عودة ومصائب وعواصف / 8
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)
محمد علي الشبيبي
أرشد مرة ثانية
إنه يعلن إن الانتخابات ستجرى وإنها تتسم بروح الحياد، ومعاملة الجميع بالمساواة، وأعلنت وزارة الداخلية إن الانتخابات ستجري في 9 حزيران 1954.
أحد أصدقائي كلما وجدني أحاول استكناه الأخبار من الجرائد، يأخذها من يدي، وهو يدمدم "صم إذنيك، وأغمض عينيك، كلما يجري لا يعود عليك بخير، أسلم من الشر على الأقل"
لكن نجفيا وفد إلى الناصرية، ربما جاء ليحتجب عن الأنظار، فحكومة أرشد رغم ما قالت عن روح الحياد، فإن مطاردة المتهمين بالشيوعية، ليس مشمولا بها، ولها أيضا أن تتهم الآخرين بأنهم من هؤلاء، ربما مع حسن الظن تستثني بغداد فقط.
هذا ألنجفي قصدني وأنا منزوٍ في مقهى حبيب، في ركن خال من الجلاس. حدثني عن أبي. إن الجبهة الوطنية الموحدة، ألحت عليه أن يرشح نفسه في هذه الانتخابات. الجبهة مؤلفة من، الديمقراطي الوطني، حزب الاستقلال، الحزب الشيوعي، أنصار السلام، المستقلون التقدميون. وقد مثل الشيوعيون في التوقيع على ميثاق الجبهة ممثلو العمال، الطلاب والشباب والفلاحين.
كان كل مؤيد للشيخ يأتي بدفتر نفوسه ليثبت له أن سنه يبيح له المشاركة بالانتخاب ومعه ما يتمكن من تقديمه من نقد لغرض دفع التأمينات. حين أمتنع الشيخ عن ترشيح نفسه، رفعت الجماهير المسألة إلى الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، فأرسل إليه يطلب لقاءه. وهناك ألح عليه قائلا "إنك مسؤول أن تلبي طلب الجماهير في أمر يخص حياة المواطنين ومستقبل الجميع، الشرع يوجب عليك حمل المسؤولية!؟"
كانت التبرعات مع دفاتر النفوس تختلف، كل حسب مقدرته، بعضهم دفع خمسين دينار، والأكثرون بين الربع والدينار والخمسة والعشرة، والأنباء تصل إلى علم المهيمنين في السلطة في الحال.
حاول أحد المنافسين من أنصار الحكم أن يكدر جو الانتخابات ويفتح ثغرة للاصطدام قبيل اليوم المعين بأيام. فجاء يخترق بسيارته شارع الثانوية في وقت يحتشد فيه الناس تحت منبر الشيخ، وراح يضغط على منبه السيارة باستمرار، والناس لم يفسحوا له الطريق. فصاح الشيخ: أفسحوا له الطريق، معه حق، فالشارع للمرور!
كان هذا المنافس هو علي محمد رضا الصافي. تخرج من مدرسة الصناعة العراقية وأرسل في بعثة إلى ألمانية. وكانت إذ ذاك ترزح تحت حكم طاغية النازية هتلر. وعاد مشبع بتلك الروح البغيضة. وعين وزيرا للمالية مرة -لا أتذكر تأريخها-. وفي هذه الانتخابات رشح بعض النجفيين من مؤيدي الباشا أنفسهم، ومن جماعة صالح جبر ولكن لم ينزلوا إلى هذا المستوى.
كان يجب على هذا المنافس أن يقدر موقف الشيخ فيما قال. لكنه أخترق الشارع وهو يلعن ويشتم ليستفز. فما كان من بعض الجالسين إلا أن أجتذبه من سيارته، وأخذ بتلابيبه، وهب الآخرون ليشاركوا. لكن الشيخ أعلن أنه سينسحب إن لم يتركوه وشأنه. وأخلوا سبيله!
بعد هذا ودعني وانصرف. فوجدت لزاما عليّ أن لا أكتفي بالسماع، من الضرورة أن أقرأ الجرائد. ماذا في بغداد؟ الناس هنا أيضا كلهم يتحدثون عن الانتخابات في بغداد. وهنا أيضا نفس التدخلات، ولكن المتنافسين كلهم -خاصة في الأقضية والنواحي- ليسو من الفئات التقدمية. القوى الوطنية، قررت خوض الانتخابات متآلفة. ما أساس هذا الائتلاف. صاحبي ألنجفي تحدث عن بغداد، ولكن بإيجاز، أخذني العجب، أيتم تحالف، وتتألف جبهة وطنية موحدة!؟ وتذكرت أخي. كم حاولت هذا يا أخي، اليوم حدث ما تمنيت. أعتقد أن هذا دليل كاف على صحة رأيك. وفي هذا الوقت حدث أيضا ما لم نكن نتصوره ممكنا أبدا. لم نكن نثق بأن حزب الاستقلال -ومن نهجه معاداة الشيوعية- يوافق اليوم أن يشترك مع الشيوعيين بجبهة موحدة!؟ مادام هذا ممكنا فإنا إن لم ننجح اليوم، فإن لنا الغد لا محالة.
رئيس حزب الاستقلال "محمد مهدي كبه" يعارض الشيوعية كأي أرستقراطي آخر، وأركان حزبه أشد منه في هذا، ولكنه أكثر دقة في رأيه، فقد قرأت له في مذكراته: "إن الشيوعية نظرية يجب أن تقارع بنظرية، ونهج اقتصادي". وهو يشجب استعمال القوة ضدها ويرى أن القوة تساعد على نشرها. ونحن نعرف إن حزب الاستقلال منحدر بفكره -أصلا- من جماعة نادي المثنى بأفكاره القومية، التي هي في واقعها تقليد للفكر الفاشي.
كانت أهداف الجبهة الوطنية اليوم "الدفاع عن حرية الانتخابات، وإطلاق الحريات الديمقراطية، ورفض المساعدات العسكرية الأمريكية، وأهداف أخرى ..." حدثني بهذا شيوعي من سوق الشيوخ، ولم يكمل إذ لاحظت زميلا له قد أشار إليه بحاجبه!؟. هذا حق، ليس الإفضاء بهذا في هذا الوقت بصحيح. ولكنه حين ودعني قال: سآتيك بنشرة الحزب!
وقرأت في جريدة لواء الاستقلال، ردا عنيفا على الذين عابوا اشتراكه في جبهة مع الشيوعيين. وقرأنا أن الإقطاعي بلاسم الياسين قد أنزل من أعوانه مسلحين ليمنعوا جماهير مدينة الحي أن يوجهوا نداء للجبهة الوطنية، وأن السلطة الحكومية في الكوت قد طردت مرشح الجبهة الوطنية "المحامي توفيق منير" وفي الحلة هاجمت مرشح الجبهة "الشيخ عبد الكريم الماشطة"، واضطرت سلطة أرشد أخيرا أن تمارس التزوير والإرهاب. ومع كل هذا فقد فازت الجبهة بأحد عشر مقعدا؟
ولم يجتمع المجلس غير مرة واحدة، لسماع خطاب العرش فقط. وصدرت بتعطيله إرادة ملكية. ثم حل المجلس، بعد أن عاد الوكيل العام ليشكل وزارته الثانية عشر. كان نوري السعيد خارج العراق لتلقي مخططات أسياده، وهو بدوره يتلقى المعلومات عن العراق آنا بآن. وأقسم أن لا يدع هذا المجلس يتنعم بأي اجتماع. فقد عاد وشكل وزارته في 1/8/1954.
أما أرشد فقد أدى دوره كما هو معلوم عنه، وغادر العراق ليستجم بمصيف يليق به. وللشعب أن ينتظر يوما في جولة قادمة بظل جبهة أقوى. هل سيتم هذا؟
الفخ الفاشل
كررت تقديم عريضة النقل عدة مرات في الأعوام الثلاثة من بداية الخمسين. ترفض لأن الجهة المسؤولة تشترط البديل.
الركابي يتصرف معي طبق المثل العامي "لاحقني بعربه" فبعد أن حاول دفع لجنة بحث الأضابير ضدي وباءت محاولته بالفشل بفضل إنسانية المتصرف عبد الكافي عارف، حث الركابي رئيس البلدية كامل الحاج وادي أن يبلغني دون أن يذكر لي المصدر باني معرض للفصل فلأسرع لدرء هذا الخطر عني!؟ وكان هذا على أثر توقيع صدور قائمة ترفيع عدد من المعلمين، أنا واحد منهم. ولأن كثيرا من المعلمين يعتقدون أن لي به صلة وتبادل احترام، فقد أعتمد علي بعضهم أن لا أضن بمراجعته عن ذلك بين آونة وأخرى. خصوصا وأني كتبت إليه بضعة أبيات بحثٍّ من صديقي القاضي.
بعد انتقال أو تقاعد القاضي السابق السيد سعيد كمال الدين، والقائممقام ضياء شكارة، صرت أجالس في نادي الموظفين أنماطا مختلفة من الناس دون تعمق في العلاقات درءا لدفع الأقاويل والظنون ولكن أكثر مجالستي لصديقي عبد الكريم الأمين أمين المكتبة العامة، والقاضي الشيخ عمار سميسم. وبعد إلحاح صديقي القاضي رفعت إلى ألركابي الأبيات التالية:
إلى كفــك اليمنى تركـت ملفتي فلا تبد فيهــا غير ما يجلب اليســــرى
ولي قلـم عن كل قــولة لــجمته وطلقــت من آياته الـنظـم والنثــــــــرا
وقلت لأفكاري جمــــودا فإنمـا يصيب الهنا في العيش من جمد الفكرا
فاستحسنها وأخذها شاكرا، وعلق قائلا: ثق إني لا أدخر وسعا في نصرتك! ولكنه في الواقع تابع محاولة إضراري. هذه آخر أساليبه لإيقاعي في حفرة أحابيله. رئيس البلدية "كامل" رجل وجيه محترم. علاقته بالركابي أنه التقى معه في منفى بسبب أفكارهم ونضالهم القومي -أيام زمان- وعلق الرجل على ما كلف به: أنا واثق إنه يريد أن يورطك لتقع في الفخ من ذاتك. لذا أرجح أن تسارع بمراجعة "الشيخ الشبيبي" وأذكره بصراحة، وإن شدد عليّ أنْ لا أنسب هذا إليه؟
هكذا إذن! شيء غير مستغرب من الرجل أبدا هذه سجيته، وانه يعتقد إن انتفاضة معلمي النجف كنت أنا قطبها. انه واهم. المعلمون النجفيون شباب واعون، وبهم شجاعة من أجل قضاياهم العادلة، ومن أجل القضية الوطنية.
وفعلا توجهت شطر بغداد، واجهت الشيخ في دار مجلس النواب. وأحالني بعد اتصال تلفوني بالمدير العام في وزارة المعارف الدكتور أحمد حقي الحلي. ولقيت الرجل فاضلا كريما إذ أحسن استقبالي بلطف، وقال بصراحة: سأحاول أن أفهم من القلم السري إن كان أسمك ضمن قائمة بعدد يراد فصلهم، فإن كان موجودا فلا مجال عند هذا لي بمساعدتك. الأمر منوط بالتحقيقات الجنائية، بكلمة مختصرة -هؤلاء يراد فصلهم- وإن لم يوجد لك ذكر، فأعلم انه يضمر لك كيدا، وسأرد كيده!؟
وبعد نصف ساعة وصله الجواب. لا يوجد أسمي في تلك القائمة. وأثرتها من هناك عاصفة، من المدير العام، ومن الأستاذ محمد حسين الشبيبي والشيخ باقر الشبيبي الذي له على ألركابي فضل الاهتمام به وإرساله إلى لندن. أيام كان الشيخ مفتشا عاما للغة العربية. وعدت فرحا لاكتشافي حقيقته في إصراره لإيقاع الضرر بي. وهكذا انتزعت حقي في الترفيع وصدر أمر ترفيعي. ولكن بقائمة منفردة. إذ كان الذين أنا واحد منهم قد صدرت قائمتهم. ومن المضحك أن بين الأسماء معلم "إسماعيل سهيل" قد توفى قبل صدور القائمة بأربعة أشهر!؟ وأستطاع أحد الموالين للشيخ الشبيبي أن يكتشف أسباب عدم ترقيتي يعود إلى تعليقة لوزير المعارف "خليل كنه" هي: "لا يرفع لأنه فصل بتهمة سياسية!؟" فقال الشيخ: شنشنة أعرفها من أخزم!
حين التقيت بالركابي قال لي: أنا أردت أن تتأكد من خلاصك!؟ أجبت، يا أستاذ أنا أعلم أن إيقاع الضرر ليس أمرا عسيرا إذا تخلى المرء من نقاء الضمير. إن الضرر يصدر من أحقر المخلوقات ولا يحتاج إلى شجاعة. إنما العمل الطيب والنافع هو الذي يحتاج إلى شجاعة وإرادة حرة.
لا يفوتني أن أذكر بالمناسبة أمر اكتشفته، خلال وجودي في غرفة المدير العام "الحلي" كانت هناك امرأة ترتدي معطفا أسود يغطي كل بدنها، من لهجتها يبدو أنها مسيحية. كانت في حديثها منفعلة. وفهمت من الحديث انه عن معلمة في مدرستها. أما المدير فقد كان يرد كل ما ادعته وبلهجة تنم عن استيعابه للدوافع الغير سليمة من حضرتها لتلك المعلمة.
بعد خروجها غير مرتاحة، قص علي الموضوع: إنها مديرة مدرسة، وقد نقلنا إليها إحدى المدرسات -من الثانوية- إنها مدرسة عربي. حفاظا عليها من أن يقع عليها ضرر من رشاش أمواج السياسة. ذلك لأن زوجها الأستاذ عبد الرحيم شريف السجين في نقرة السلمان. بقيت هي أم أطفال وربة بيت. فقد أقنعتها بأن غرضي لأجل سلامتها لأطفالها. لكن حضرة المديرة صديقة زوجة "فاضل الجمالي" وبهذا الدافع تسعى للخلاص منها!؟حقا أن الرجل طيب وشهم. فقد وقف مع هذه المديرة صريحا بكشف محاولتها اللئيمة. وأنبها وصد كل
إدعاءاتها. صدق لو قال لو خليت قلبت.
بين حانة ومانه
رجال الدين في هذه الأصقاع كلهم مستوردون من النجف. غالبا ما كانوا من مستوطني النجف القدماء. وربما كان منبعهم الأصلي من هذه العشائر، كآل أطيمش مثلا، والشبيبيون، وآل فياض، وآل الشرقي، ولكن في هذه الحقبة الأخيرة التي أخذت فيها السلطة تضعف، حيث ألتحق معظم أبنائهم في المدارس الحديثة وتخرجوا من كليات العراق ومن أوربا فعادوا يحملون شهادات عالية، كما حدث لأشهر أسرتين دينيتين في النجف هما آل الشيخ راضي وآل كاشف الغطاء.
لقد أحتل في الناصرية الصدارة في هذه الحقبة -كما ذكرت- اثنان من أبناء هذه الربوع ينتميان إلى عشيرة لم يعرف أن لها سابق منها. أحدهما كان بمنتهى الطيبة والصلاح، لقد طبق في سلوكه الحديث المعروف "رحم الله إمرءاً عرف حده فوقف عنده" هو السيد راضي السيد عثمان. لم يتجاوز هذا السيد حدوده من معلوماته الشرعية في الفقه والأصول الشرعية، في الحلال والحرام والصلاة والصيام، ومسائل الزواج من عقد وطلاق، وما يلحقهما من حقوق الرجل والمرأة في حالة الزواج والطلاق. وهو يتلقى الحقوق الشرعية ممن يرجع إليه، من زكاة وخمس وكفارات، وما أشبه ذلك. أما الثاني فهو الشيخ عباس الخويبراوي، من عشيرة آل خوبير -توفى في 5/4/1967-، ومع أنهما تلقيا دراستهما على الشيخين الشهيرين في النجف الشيخ عبد الكريم الجزائري و الشيخ عبد المحمد زايردهام وسارا على طريقهما في ولائهم للمرجع الكبير السيد أبو الحسن الموسوي، فإنهما عندما عادا إلى الناصرية انفرط عقد صداقتهما بعد أن كانا صديقين حميمين خلال سني الدراسة. وكان البادئ هو الخويبراوي فقد كان دون السيد راضي في الاستفادة والإطلاع، ولكنه كان عارفا بجذب المنافقين والمهرجين الذين يتذرعون بالدين لحلب ضروع المنافع، ولهم قدرة على خوض المعارك في ميادين مختلفة، السياسة والتجارة، ويجيدون التهريج والتطبيل والتزمير.
لم أحاول أن أتصل غير مرة بالسيد راضي. ثم قررت أن لا أعود فهذا ربما يسبب لي حقد الخويبراوي وكلاهما من معارف والدي. وحدث ذات مرة أن التقيت بأحد الموالين للخويبراوي وبعد أن تبادلنا التحية، لا أدري كيف عاتبته، على وضعه أربع أجهزة من مكبرات الصوت على سطح الجامع، وكانت أيام شهر رمضان. كما أن هذا ويدعى "الشيخ عودة ..." هو المسؤول عن الجامع، وهو الوزير المهم للشيخ الخويبراوي في علاقته بالمجتمع الناصري. قلت للشيخ عودة: بناية الجامع ليست بالعالية، وهو يتوسط البيوت، يكفي مكبرة صوت واحدة، وفي وقتين للصلاة الظهر والغروب، أما أن يبدأ ترتيل القرآن والأدعية من الصباح حتى الظهر، ومن العصر حتى الغروب، ثم السحور. فأرجو معه أن تتذكروا أن في البيوت المجاورة، ربما مرضى، أو نفساء، ومواليد جدد، هؤلاء مضر بهم الصوت العالي والدوي المستمر.
فرد عليّ وهو يتكلف وقار شيخه، القرآن والأدعية شفاء للناس. شفاء للمرضى، وهل أحسن من ذكر الله للمسلم؟ قلت يا شيخ: ليس هذا هو الرد، كن جادا وواقعيا. كدت أقول له هذا جواب مُدلِس. اكتفيت بهذا ولم أدر أن هذا المُتَمَومِن النجار وتاجر الأخشاب، قد فارقني ليشن عليّ حربا لا مبرر لها. والمتمومن مصطلح عامي يطلق على من يسلك في نهج حياته مشابها في حديثه واهتماماته ومظهره سلوك -المؤمن- والمؤمن هنا المقصود به المعمم وهم يلفظون الكلمة بلا همزة "مومن" وهذه الصيغة إذ يطلقونها فإنما يريدون غمزه واتهامه بسلوك طريق هو ليس منه في شيء. وأغلب الظن أنه نقل إلى أبن الشيخ "باقر" وابن أخته "حسن"، فهبا ليثيرا ضدي الشرطة والمعارف معا. حررا برقية فيها: "أنقذونا وأنقذوا الدين من علي الشبيبي وبطانته، الذي يخطب في الساحات والميادين يحرض ضد الدين والحكومة".
مرحى لرجل دين كذوب. أخذ يجمع التواقيع على عريضته باسم الجماهير. فتصدى أحد أبناء البلد واختطف البرقية والعريضة. وقال له: ماذا يكون جوابك لو تم تحقيق من الحكومة هنا، أين خطب ومتى؟ ومن الذين شاهدوه؟ وأنت تعلم أن الشرطة أعلم بهذا إن كان قد صدر من أي أحد؟.
أبلغني الصديق فقصدت كبيرهم الذي علمهم مع صديقيّ عبد الكريم الأمين والأستاذ حامد العزي بعد أن مهدا للموضوع. ورد هو: إن علي ابننا ولكنه خرج علينا. قلت: يا شيخ إن كنتم أول معممين من آل خويبر فأني معمم وابن معممين أولي علم وشهرة وزعامة. وإن أقمت جامعا للصلاة والآذان في مدينة فيها أكثر من محل لبيع الخمور وعدد من دور السينما تعرض الأفلام المثيرة للمراهقين، فإني نشأت في النجف الملأى بالجوامع والمنائر العالية تناطح السحاب، وهي كما تعلم لا تجاور البيوت، وما في المنارة إلا مكبرة صوت واحدة. وانتقادي لكم أنكم جعلتم على بناية واطئة أربع مكبرات، فهل كان هذا وهو حديث مع -عودة- معناه خطب في الميادين والساحات، أتجيزون الكذب وقول الزور!؟
كان جوابه: أنت أسكت ونحن نسكت!؟ وتغافل عن لب اعتراضي. فأرسلت استفتاء إلى العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عن رجل يلجأ إلى الشرطة يحرضهم وإلى الحكومة فيكذب ويلفق ليوقع إنسانا بتهمة. كانت عدة أسئلة أجاب عليها الشيخ متفضلا. كان من إجاباته: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" قررت أن أطبعها مع الأسئلة وأنشرها. فلما وصل إليهم الخبر، توسط بعض المحترمين الأمر، بعد أن قال له أحدهم: يا شيخ إنه أبن النجف ومن عائلة تعرفها أنت، كان الأجدر بك أن ترد ابن أختك وأبنك "باقر".
كان الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء لا يعترف بفضل الشيخ الخويبراوي وسبق له أن صدمهما لأمر، وأرسل إلى أحد الوجهاء في الناصرية: (إن على إخواننا في الناصرية أن يطردوا الشيخين الخيبريين)! نسبة إلى خيبر وسكانها اليهود الذين حاربهم النبي واقتلع باب قلعتهم الإمام علي.
بعد هذا بفترة قام ابن أخته "حسن" بحملة على دور البغاء، صحب معه عدد من الشياطين أغلبهم ممن يتردد على تلك الدور. وقف من دورهن على مسافة قليلة، وصاح: أهجموا عليهن، أرجموهن بالحجارة. وفعلا هجم أولئك -الأبطال- كسروا دواليبهن، ونهبوا الذهب والثياب. وعلمت الشرطة فأوقفت الشيخ، وأطلق سراحه بعد ساعات وتحقيق. لو لم يكن غبيا لوجد أسلوبا خيرا من هذا يرفع من مكانته ولكن هذا هو مستواه.
وصادف أن أحد الوزراء أثار في بغداد وجود المكان المعروف بـ "قوق نظر" و "الكلجية" فصدر أمر وتقرر غلق هذه الأمكنة. ورحلت الحكومة المحلية في الناصرية العواهر من محلاتهن في "عـﮕد الهوى". على أية حال إن غلقها ليس حلا للمشكلة. غاية ما في هذا الحل أن تتوزع تلك العواهر في المدن والمحلات، وتجر على البيوت البلاء مما يمكن أن يصيب بناتهم وأبناءهم. العهر والزنا واللواطة كلها من أنتاج النظم التي يعيش فيها ذوو الثراء ناعمين مرفهين وهم حفنة معدودة. ويعاني فيها الألوف الحرمان، وبين أولئك وهؤلاء تتوالد الجرائم بأنواعها من سرقة، وسلب ونهب، ولواط وزنا وقمار، وتنتشر الأمراض وتتفسخ الأخلاق، وينعم الشيخ عباس وأمثاله باسم الدين.