معلم في القرية/ 12
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)
محمد علي الشبيبي
عنتر في الهزيمة
أرسل إلي أخي حسين تذكرة إنه سيزورني مع بعض أصدقائه. سيكون غداؤهم عندي سمكاً مشوياً. أحضرت السمك، فوصلوا إلي بعد الواحدة ظهراً. اليوم هو الخميس. بعد الغداء وشرب الشاي، تأهبنا للسفر لزيارة الصديق السيد محسن الياسري في قرية "طبر شلال" ["طبر شلال" هو احد الأنهر المتفرعة عن نهر الفرات المار في ناحية الفيصلية "المشخاب"].
ركبنا الزورق، والنشوة تغمرنا، والبهجة تعمر قلوبنا، شلة من الأصدقاء الظرفاء، سنحييها ليلة ليلاء. لنشنف أسماعنا بأغاني الريف، أغاني "سعيّد" الأسود، ذي الصوت الشجي، إنه كما يقال يدخل الأذن بلا إذن، ألذ من الخمرة، وأجمل.آه، إنها مفاجأة مخيفة، وملذة بنفس الوقت. إنها بالنسبة لنا مجازفة. ولكنها اعتيادية عند القرويين. طريقنا مع منحدر الماء، وفي مثل هذه الأيام وبسبب انخفاض مياه النهر، ولعدم وجود تنظيم توزيع الري، يقوم القرويون، بعمل سدود. ضفائر تصنع من قش الشلب، تدفن في قعر النهر بين واحدة وأخرى تراب حتى تصبح سداً يقطع النهر كجسر، قد يكون عرضه أكثر من متر ونصف. ولا يبقي غير فتحة من وسطه لمرور السفن. هكذا يرتفع منسوب الماء من جهتهم ليجري الماء إلى أنهارهم الصغيرة. ويمكنهم إرواء مزارعهم، ويسمى هذا السد عندهم "الحَمِل" [الحمل بفتح الحاء وكسر الميم، لعل المعنى مأخوذ من "حَمَلَ" الفعل، لكونه حملة عمل من مجموعة كبيرة تتعاون على إنجاز شأنها في كثير من الأعمال، الحصاد، كري الأنهار].
في طريقنا "حمل" يعرف بحمل عبد الواحد. تهيأ الملاحان، شمرا عن سواعدهم. مدّا المرادي عن جانبي الزورق لحفظ توازنه قبل أن نصل إليه بعشر دقائق. كنا قد تحدثنا في بداية حركتنا، إنه عمل من الفلاحين يدل على مهارة، فإنجازه ليس بالأمر الهين، كما إنه يحتاج إلى بذل جهود غير قليلة. وعاني ملاحو السفن التي تفد من الجهة المعاكسة للمجرى متاعب، وفي بعض الأحيان مخاطر.
أحدنا لا يجيد السباحة، لهذا رفض أول الأمر المجيء معنا [هو السيد عبد الأمير مهدي الشرقي ابن أخ الشاعر المعروف علي الشرقي، كان من ظرفاء الشباب آنذاك، كان حينذاك معلما ومن أصدقاء شقيقي "حسين" ومن زملائه في الدراسة أيضا. وكان ينظم الشعر بقلة. وقد توفى يوم الأربعاء 5/8/1979]. إنه يخشى الغرق. قبل أن نتحدث عن هذا الحمل الخطير، وقف صاحبنا مصفر الوجه، تائه اللب، وبقفزة خاطفة إلى السد ثبت إنها أسرع من حركة التيار ، حين مرّ الزورق من الفتحة. لم نكن نعلم إنه سيفعل هذا. إنها مخاطرة، لو كنا نعلم لأوثقناه كتافا. مرّ الزورق بسرعة أشبه ما تكون بسرعة المتزحلق على الثلوج. وسمعنا صاحبنا يهتف بطرب المنتصر في جدل.
"ولقد ذكرتك والسفينة قد دنت من حمل عبد الواحد الفتلاوي"
أخذ الزورق مجاله في حركته الاعتيادية، ووجهه الملاحان نحو الضفة لنعيد صاحبنا إليه. هتف به أحدنا: "أين كنت عن السباق الذي أعلنته أحدى المجلات المصرية، لمعارضة بيت عنتر العبسي المشهور".
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
وفاز بالسبق شاعر منهم حيث قال:
"ولقد ذكرتك والحمار معاندي عند المقص وقد اتى الوابور"
صاح واحد آخر من رفاقنا وكان يحسن اللهجة المصرية، ساخراً من المصري الذي عز عليه حماره، يبدو إنه آثر أن يموت مع حماره تحت عجلات القطار.
- والله غبي عاوز يموت مع الحمار؟
وعلق آخر: هذه أبدع مواساة، بس المعيدي من وصل للطينة تحفه ونزع نعاله، وگال: بيه ولا بالحَمَر.
وحين وصلنا قرية مضيفنا وجدناه بانتظارنا على ضفة النهر. استقبلنا بحفاوة، وحييناها ليلة بين الطرب والأحاديث الشيقة وعدنا صباح اليوم التالي، وشاعرنا يتساءل: "هل سنلاقي نفس المخاطر"
حكومة الانقلاب
منذ أن تشكلت وزارة حكمت سليمان بالانقلاب المعروف [كان هذا في 29/10/1936 بقيادة العقيد بكر صدقي الذي قيلت عنه اتهامات لا نعلم مدى صحتها آنذاك. فمن ذلك إنه متزوج من ألمانية كانت تدفعه (بحجة المطامح) لتحقيق مطامح حكومة المانية النازية، بعد تثبيت الحكم وإقصاء حكمت وتحقيق حكم جمهوري برئاسته على غرار ما فعله مصطفى كمال]، ونحن نجد ونسعى للاحتكاك بالفلاحين. ماذا نستطيع أن نفعل؟. الفلاحون تطغي عليهم الروح العشائرية. أغلبيتهم يمجدون رؤساءهم، ويدينون لهم بالولاء، بل والتقديس. إن بعضهم حين يقسم يقول "عمي وبخت الحجي" يقصد عبد الواحد سكر. لاشك عن العنصر الأساس في موقف فلاح المشخاب، هو علمه بأن السلطة الحالية تؤيد الإقطاع. فهو أعزل لا يملك لا الأرض ولا السلاح، ولا قانون يسنده، ولا حزب سياسي يلتزم قضية تحريره، فيثير عنده الوعي.
وحين أخذنا نوزع منهاج "جمعية الإصلاح الشعبي" زارني أقطاعي صغير من العبودة. وراح يزجي إلي النصح: "لا تاخذك الهويزة تره الحكومة أيامها معدودة، ولا تنغش بالفلح كلهه عميان وتاكلك گبل ما تحصل حگهه التگول عنه"
ومفاجأة علمنا إن السيد رئيس الوزراء سيصل ناحية الفيصلية، وفعلا وصلها في 12/2/1937. لماذا ناحية الفيصلية. وأستقبلوه الفلاحين بدافع من رؤسائهم، وعن طريق السلطة المحلية –مدير الناحية- بالهوسات والأهازيج.
وقف هو في سراي الناحية، وقيل إنه ألقى كلمة شكر، وأعلمهم إنه جاء من أجل قضيتهم، ثم طرحت أمام جموعهم قواصر التمر [جمع قوصرة والعوام يلفظها " گوصرة" وهي منسوجة من سعف النخيل يكبس فيها التمر]، فأقبلوا عليها بشكل بائس يحطمونها بالمساحي، ويأكلون أكل الجائع المحروم من التمر الذي تنتجه أراضيهم بأيديهم، إنه لمنظر يعرب عن مدى تفهم هذه العناصر التي دفعتهم للاستقبال! تستطيع أن تقول، إنها سخرية من ينتصر للفلاح مثلما يمكنك أن تقول إنها إعراب عن بؤس مدى الفلاح وهو يعزف عن هوساته، وينصرف بكليته إلى التمر المطروح على الأرض؟!
وهكذا تم ذلك بأكثر من شهرين رفع الحصانة عن رئيس آل فتلة عبد الواحد، وزميله محسن أبو طبيخ، وعلوان الياسري واعتقلوا. فراح الناس يتحدثون وكأنهم عرفوا سر زيارة الرئيس إلى الفيصلية، إذن هو جاء ليتعرف الحال، ويتفهم درجة قوة رئيس الفتلة، هذا الذي كان محور الحركة ضد حكومة الأيوبي، والذي بانتفاضته أطاح به فوصل الهاشمي إلى الحكم.
كنا نتلقى جريدة الانقلاب، لنتعرف على ما يستجد على مسرح السياسة الجديدة التي قيل إن كل العناصر الوطنية النزيهة أمثال "أبو التمن" والشاب "عبد القادر إسماعيل" ، وغيره قد ضمتهم هذه الحكومة بين الوزارة والمجلس النيابي. [جريدة الانقلاب -جريدة الشاعر محمد مهدي الجواهري-. وفيها نشرت قصيدته الشهيرة، التي خاطب بها حكمت سليمان
"وأنت يا ابن سليمان الذي لهجت بما جسرت عليه البدو والحضر"
وأبدى له ما يجب عمله اتجاه حكم مؤلف من برجوازية حديثة النمو، وإقطاعية شعرت بما يخبئه لها الغد هي لم ترتمي كلياً بأحضان الاستعمار. ولكن حكمت لم يستطيع عمل شيء طالما إن عماد انقلابه العسكريون لا الشعب. وعبد القادر إسماعيل من ألمع شباب العراق السياسي التقدمي. وبعد أن فشلت حكومة حكمت سليمان وأطيح بها لم ينله شيء، والحكومة التي تلت انتقمت وأعدمت البعض وسجنت الآخرين]
والناس في المدن حين حدث انقلاب بكر صدقي ورأس الوزارة حكمت سليمان، استقبلوها بفرح عظيم، يعانق بعضهم بعضاً، ويهنئ أحدهم الآخر، تماما كما فعلوا يوم سقطت وزارة الأيوبي وتشكلت وزارة الهاشمي. إنهم لا يفكرون إلا بما يعنونه ويرجون زواله، دون أن يحسبوا حساب البديل، ونوعية البديل الذي يتسلط عليهم. ذلك لأننا محرومون من التنظيم السياسي، وديمقراطية العمل في أحزاب سياسية. وعلى هذا لابد من يوم يتباشرون به عن سقوط وزارة حكمت.
الأديب ذو النون أيوب، كتب قصة عن الأسلوب الجديد للوصول إلى الحكم، ملخصها: "إنها بضع رصاصات في صدر زعيم الحكم أو حارس حكمه". صدق والله فقد وصل حكمت سليمان برصاصات من مسدس بكر صدقي إلى قلب جعفر العسكري. وها قد أطيح بحكم حكمت سليمان وبكر صدقي برصاصات من مسدس إسماعيل توحله. هذا أسلوب جديد، يبدو إن أسلوب انتفاضات زعماء العشائر قد أصبح غير مرغوب فيه، وربما تحاشاه بعضهم، لأنه غالباً ما يكون من العشائر الشيعية! إن أولئك الزعماء أنفسهم يتكئون على زعماء سياسة سنيين. المسألة إذن في حقيقتها ومن وجهة نظرهم ليست طائفية أبداً، إنها مصلحة الإقطاع واستناده على الاستعمار وأعوانه. فياسين الهاشمي الذي يتباهى بلبس "صدارة من صنع وطني" هو الذي شرع قانون إعادة الفلاح إلى الأرض، فلاحاً ماله غير أن يفلح أرض محمد العريبي، وفالح الصيهود، ومجيد الخليفه، وأمير ربيعه ووو...
ومادام الأمر كذلك لم تتفتح عقلية الفلاح، ويكسر الطوق ويخرج من دائرة تفكيره القبلي الضيق إلى فهم صحيح لقضيته، لن يكون إلا حين يتم تشكيل حزب متحرر ومدرك لجذور القضية الوطنية، ولا يرتبط بهؤلاء السادة الذين يتوارثون الحكم باتفاقيات بينهم تارة، وبروح "الزعل" تارة أخرى.ولم نر هذه الحكومات على
اختلاف درجة وطنيتها قدمت جعفر أبي التمن وعبد القادر إسماعيل وعبد الفتاح إبراهيم في وزارات حساسة، كالخارجية، الداخلية، الدفاع، العدل، لماذا؟ أبداً هذا مفهوم! [عبد الفتاح هو مؤسس جماعة الأهالي، ويعد من أنشط أعضائها. كما له مؤلفات قيمة منها مؤلفه الشهير "على طريق الهند" كما عرف عنه رئيس جمعية طلابية عراقية في بيروت. وأنا نفسي أعرف، إنه كان واحد ممن اهتموا بالعمل لتقارب وجهات نظر الأحزاب التقدمية التي أجيزت عام 1945 من أجل الجبهة الوطنية، وهو إذ ذاك رئيس لحزب الاتحاد الوطني، ولد عام 1906 والده رجل دين يدرس في أحد جوامع عانه ودعي بهذا الاسم "إبراهيم المدرس"]
الفيضان
هو الفــرات وكم في أمره عجب في حالتيه وكم في آيه عبــر
بينا هو البحر لا تسطاع غضبته إذا استشاط فلا يبقي ولا يذر
إذا به واهن المجـرى يعـــارضه عود ويمنعه عن سيره حجر
تعجبني هذه الأبيات من قصيدة الفرات الطاغي للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري. إنها وصف رائع لحال الفرات والفراتيين، وصف لفيضان الفرات وانتفاضات الفراتيين السياسية. وبديع –لا أبدع- ما وصفه به الشاعر علي الشرقي:
هذا الـفــــــــرات وهذه عاداته متفلت من عهد حمـــورابي
قد يستحيل على الحديد عبوره جسراً وقد يكفيه نفخ جرابالفيضان الآن على أشد حال من طغيانه، إذا شاهدته
أدركتك منه حالات، الروعة المتناهية في جماله، ولون مائه الذهبي حين تغطيه أشعة الشمس الفضية فتتكسر تحت رقصة الأمواج، وأشجار النخيل على ضفافه كأنها العرائس تتباهى بغدائرها والريح تلاعبها... وتحدق بأمواجه المتدافعة الهادرة كأنها جموع زاحفة، فيأخذك الدوار، وتسيطر عليك الرهبة.
وإذا جن الليل ترى النيران من بعيد، يشعلها الفلاحون، وهم في سهر يحرسون السدود، وتسمع بين آونة وأخرى الصياح والتنادي، والأهازيج والهوسات، لردم الفتحات التي يحدثها تيار الماء في مجراه الكاسح. الناس خلال موسم الفيضان يعيشون حياة كلها قلق ومتاعب. إنهم في محنة من أمر نهرهم هذا. هم إذا حل موسم الفيضان عاشوا حياة مهددة، مزارعهم مهددة بالغرق، ومساكنهم، وحيواناتهم. وفي حال "الصيهود" جفاف يحرمهم من الزرع، ويسبب لهم الجوع [الصيهود في الأصل، الفلاة لا ماء فيها ولا شجر. ولكن الفلاحين هنا يطلقونها على مواسم قلة الماء في نهر الفرات، والذي قد يشتد فتتعرض زروعهم في الشتاء إلى التلف].
ومن لا يعرف أسباب كل هذا؟ إنه إهمال الدولة لمشاريع الري، وتنظيم وتوزيع مياه أنهارنا. أفليس معيباً أن ينظم الري في العهد العباسي، فتكثر الزروع حتى سمي العراق "أرض السواد" وحتى بالغ بعض المؤرخين فذكر، إن المسافر يسافر من الكوفة فلا يأخذ معه زاداً حتى يصل البصرة، لأن القرى يتصل بعضها ببعض؟!
إني أقف في شرفة الفندق المطلة على النهر، فيتملكني المنظر الرائع وجماله الساحر الآخذ بمجامع القلب. بين لحظة وأخرى أترك غرفتي أمتع النظر بجماله. كان اليوم جمعة، حين تقدم إلي صبي في سن الثانية عشرة يسألني عن مدير المدرسة وصاحبه.
أعرف هذا الصبي، يقيم عند المهندس "عبد الله ..." مهندس مشروع ناظم أبو عشرة، يستمتع بجماله ويمارس معه اللذة المحرمة!. فما له لصاحبينا، المدير وصاحبه .... وأنا على موعد مع صاحبي المفوض "عبد الستار عبد المجيد" لنتغدى سوية. كان طعامي الذي أعددته "شجر اليقطين" الذي ندعوه يقطين ملا احمد، وصاحبي المفوض أحضر السمك المشوي.
في هذه الأثناء ونحن نهمّ بنصب مائدة الطعام، فاجأنا ملاحان يضطربان غصة وألماً. أرادا أن يخبرا المفوض بما هما لهما من أمر، فتلجلجت شفاهما، وجرت دموعهما. هدأنا روعهما واستراحا قليلاً، فحدثاه عن أمرهما. الزورق الذي جلبا به -صبي المهندس عبد الله- ليوصلاه إلى أبي صخير، قد فك رباطه بعض السفلة، لينشغل الملاحان بأمره ويخلو لهم الجو في محاولاتهم لكسب الصبي؟! في الزورق طفلهما الصغير، كان نائماً، وانحدر الزورق بقوة التيار، وطغيان الماء.
نهض صاحبي "المفوض" والغضب قد أربك خطواته، وحضر شرطيان بعد دقائق فالقي القبض على صبي المهندس عبد الله، بينما سارعت ثلة من الشرطة بالزوارق للبحث عن الطفل.
أستجوب صبي المهندس عن وجوده هنا. أجاب، إنه يعمل في الناظم كندير [أي رئيس عمال] وأخذ إجازة ليذهب لزيارة أهله في النجف، ولكنه تأخر بدعوى من مدير المدرسة "صالح ..." وصاحبه "عبد الأمير ..." (ذكر والدي أسماءهم كاملة ولكن ارتأيت عدم تدوينها/ الناشر) ولم يكتم من أمر المضايقات التي قام بها بعض السراق وغيرهم؟!
بأسف قال مدير الناحية: المهندس عبد الله ... ما وجد أصغر منك فيعينه رئيس عمال؟! ويظهر أن هذا هو السبب أيضا الذي جعل مدير المدرسة يدعوك، تكريماً لك!؟
أما السيد مدير المدرسة حال سماعه بتطور الحال فإنه سافر إلى أصدقائه السادة الياسريين في "أم عودة" وهكذا تنصل مما ادعاه الصبي.
وعاد الشرطة بعد أكثر من ساعة فرحين، فقد وجدوا الزورق محصوراً بين ضفة النهر ولساناً منها بشكل زاوية ممتد في النهر، ومكتظ بشجر الصفصاف، والطفل يغط بنوم عميق!
يبدو إن السيد مدير المدرسة، يعتقد إن لي في المسألة ضلعاً، ويبدو إن تأثر مدير الناحية منه قد وصل إلى علمه. فقد جابهني بانفعال، قائلاً: "وأنا شنو دخلي بالموضوع؟"
أجبته: "طيب، وأنا ليش تسألني؟"
- أسألك لأنك حاضر، ويمكنك أن تدافع!
- لا يا عزيزي، خل عتبك على الحاج عزوز رئيس البلدية؟! ونظر إلي نظرة حقد، ولاذ بالصمت. [الحاج عزوز هذا أيضاً من قوم لوط، وهو في بداية سن الشيخوخة، وقد وعدَ الأستاذ المحترم أن يكون بيته مقراً للقاء]
من المسؤول
أنا في هذه الناحية المتجلببة بجلباب الوحشة، لا تلتقي بأديب إلا أديباً يمارس وظيفة التعليم، فأنسته هذه بمتاعبها، وقيودها، والتزاماتها المفروضة نتيجة تخوف الحكام من حرية الفكر. إن المعلم هنا يعاني سأماً قاتلاً.
أين يا ترى يتوجه بعد انتهاء دوامه؟ حياته اليومية روتين جامد لا يتبدل. تدريس، غداء، قيلولة، تمشي، تحضير وتصليح دفاتر امتحانيه، سهرة خليطة من ثرثرة ومزاح. وقل أن تجد المطالع. اثنان أو ثلاثة، يسترقون اللحظات ليقرأوا جريدة، أو صفحات من كتاب، فكل ما حولهم لا يتيح الفرصة في الدرس والاستفادة.
الفندق مليء دائماً بالتجار ذوي العلاقات بالمزارعين، والمقاهي نهاراً تعج بهم وبعملائهم. وشارع النهر ترسو السفن إلى جواره، بنفس الوقت يتخذه بعض القرويين مجالاً لعرض بعض مبيعاتهم، أغنام وأبقار وحاجات أخرى. وفي المقهى لا تجد الراحة، مثلما لا تجد النظافة! لا شيء في هذه الناحية من ملامح المدينة، إلا ما تضمه سوقها من بيع وشراء. وموظفوها تقرأ في وجوههم ما تنطوي عليه نياتهم وما يهتمون به، ملء جيوبهم بالرشى، وطرق الاختلاس، والسهر بين الكأس ورقص الغجر، والسهرات الخاصة.
هذان اثنان من موظفي الاستهلاك همهما الوحيد، وضع برامج لسهراتهم، لماذا لا؟ إنهما دائماً على رزق وفير –وحلال تلال- كما يعبرون. قدما مرة أكثر من قنينة خمر مع كمية من الماء، ليتمتعا بمنظر الحمار تحت تأثير الخمرة! ومرة ثانية جلبا المعتوه " گرامة" وأسكراه، فلما صعدت الخمرة الى رأسه، راح يكشف أسراراً في حياة بعض البيوت. كان يسمي بعض النساء، زهرة .... أدخلتني البيت، غسلت يدي ورجلي ووجهي بالصابون، البستني ثوباً نظيفاً، أصعدتني الجرباية "سرير النوم" ضاجعتها! وكانا يستجوبانه باهتمام، عن البيوت، في أي شارع، أسم زوجها؟ شكلها؟ وكان يحدد الجواب كأي عارف متمكن يتفهم الجمال ويحس لذة الجنس! ["گرامة" مخلوق بائس له عينان رماديتان لهجته أقرب إلى لهجة الطفل، في وجهه ندوب ورمية، يداه اليمنى ورجله اليسرى تختلفان بغلظها عن الأخرى. يستطيع تقليد أصوات وجوه البلد ورؤساء الدوائر]
قال أحد زملاء الفندق وهو يستمع إلى ما حدثته عن هذا المعتوه البائس: "حكمتك يا رب حرمته من نعمة العقل والصحة، وأبقيت له الشهوة؟!"
البؤساء في بلدنا أنماط. فصديقنا "عزيز" جاري وزميلي هو الآخر بائس. أنخرط في سلك طلبة العلوم الدينية وقضى شطراً من العمر دون استفادة. إنه مصاب بالغباء، الغباء في كل شيء إلا قابلية جذب أهل الجمال المسوس! [ "عزيز"جعلته بطل قصة "حسون أفندي" التي نشرتها في مجلة واسط عدد 2 لسنة ... كذلك ذكرته في كلمة بعنوان "أصدقاء" نشرت في جريدة الهاتف. وبعد سنين طويلة حين انتقلت إلى محافظة كربلاء من الناصرية، فوجئت عام 1955 إن صاحبنا عزيز قد تدرج من وظيفة كاتب في دائرة النفوس حتى أصبح مديراً لدائرة نفوس لواء كربلاء! وقص علي من يعرفه إنه قد كنز وأدخر فهو أكثر من مرتش جهراً بلا خوف. وحين شغل دائرة المتصرفية سلطان حاج أمين كرماشي. وهو يعلم حقيقته وقابليته سعى إلى إحالته على التقاعد. وقد أدركه غضب شديد لوجوده ومنحه أجازة ليدبر أمره بعد إعفائه من الوظيفة]
كتب إليّ يستغيث بي وبصديقنا مرتضى، يقول إنه قعيد البيت منذ أسبوعين. لا أستطيع الخروج منه خشية الدائنين! أنقذوني ببضعة دنانير على وجه السرعة. صديقنا مرتضى رفض مساعدته. قال: إن مساعدتنا تزيد عزوفه عن طلب العمل، دعه. لكنني أخذت منه دينارا ضممته إلى أثنين مني وأرسلتها إليه.
وحين زرنا أهلنا في أسبوع تالٍ، فهمنا المهزلة، لقد أشترى بها عباءة وساعة يدوية أهداهما للفتاة "نعيمة" ابنة البائسة المجنونة "بنت عـﮕيلي" كان يحدثني عن نعيمة وغرام حسين العبودي بها، وإنهما يلتقيان بتدبيره فيتمتعان بنشوة اللقاء، حبا عذرياً، لا تشوبه شائبة. فكيف تحولت إليه؟
حسين العبودي سحبه أبوه، إن غرامه بفتاة فقيرة لا يناسب مقامهم كزعماء عشيرة معروفين! فعوضها عزيز بحبه رأفة وإنسانية!؟ أليس هذا عزيز بائساً! ولكن لا. إن له طموحاً، وله قابلية ، لو تخلينا عنه، سنجعله يحس فيشق له طريقا.