3- عودة ومصائب وعواصف / 10
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)
محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com
أينما تول وجهك سبقتك سمعتك إليه!؟
وأخيرا تسلمت أمر النقل إلى كربلاء في 28/9/1955، وراجعت مديرية المعارف في 1/10. المدينة التي أستشهد فيها الإمام الحسين بن علي. وصادف أن هذا الشهر تحل فيه ذكرى يوم الأربعين لاستشهاده. وهو يوم زيارة يحضره الألوف من شيعة الإمام علي وأبنائه البررة. وتضيق المدينة بالزوار. فينتشر الزوار بالشوارع والصحن الحسيني والعباسي، والحسينيات والفنادق، وحتى الحدائق العامة. وتشغل أرصفة الشوارع من قبل مواكب العزاء، التي تعددت في كل بلد وتجاوزت المعقول. فلكل صنف من الكسبة موكبه، ولكل فئة أيضا، مما لا مجال لتعداده، وتشخيص هويته. وفي هذا الوقت أيضا تنعدم النظافة بالمرة، فأينما تسير، وأينما تتجه، تجد المياه القذرة والفضلات ومختلف الأزبال والأوساخ، تضايق المارة، أما الضجيج والعجيج، فلا يدرك وصفه. بحيث لا تجد استقرارا ولا راحة، ولا يمكن أن تسمع وتستفيد، كل موكب له عدة مكبرات صوت مطلة على الشارع، وفي الشارع -الفرع- أكثر من ستة بيوت يقيم فيها مواكب. بحيث لا يمكن أن تفهم ما يذاع من تلك المكبرات، إلا دويا يصم الآذان ويسبب الصداع.
أنا أحمل رجال الدين ورجال المنابر الحسينية تبعة هذه الفوضى، والتي هي أبعد ما تكون عن إفادة شيعة الحسين، وتفهمهم القضية التي أستشهد من أجلها. كما أنها تقعد بالشيعة أن يكون لهم صوت هام في مسألة التوجه الديني والسياسي في العصر الحديث، مما يجعلهم في مؤخرة القافلة، ويجعل جماهيرهم ينعقون مع كل ناعق حتى لو كان يقصد إهانة مذهبهم. وفي النهاية لابد من يوم يتوجه لهذه الأساليب وهذه الفوضى من يقضي عليها، لا لحساب خدمة المذهب بل لمحقه. ولو أن اليد التي تقضي عليه ليست من صنف البرجوازية العالمية المرتبطة بالاستعمار، لقلنا إنها في صالح مجموع الشعب. ولكن المحتمل عكس هذا. لقد حاولت حكومة ياسين الهاشمي في الثلاثينات الحد من هذه الأساليب التي شعر الاستعمار الانكليزي بإمكانية استغلالها لحسابه. فباءت محاولة ياسين بالفشل. ثم نهض العالم المخلص النزيه السيد محسن الأمين، ونادى بالإصلاح فقاومته الغوغاء ومن وجد فيها ما يستدر به ضروع المنفعة المادية، وساعدهم عدد كبير من المعممين بل ومن بعض زعماء الدين من المجتهدين، وناقضوا السيد الأمين فيما أصدروا من فتاوى، وكراريس تندد به وبرأيه الإصلاحي، دون أن تسندهم أدلة كأدلته التي أستمدها من السيرة النبوية وأصول الشرع الإسلامي.
الكسبة على اختلاف أصنافهم من باعة المواد المعيشية اليومية، إلى أصحاب الفنادق يرفعون الأسعار، برغم أن المواكب تبذل الزاد بشكل مدهش.
صادف مجيئي قبل مجيء الزوار. فنزلت في فندق باسم فندق الجواد وما توارد الزوار خصوصا -البحرانيون- حتى قفزت الأسعار. وفوجئت بصاحب الفندق وهو من خدم الروضة الحسينية يقول لمدير مكتب الفندق اسمع: الغرفة الواحدة لا تؤجر لأفراد، السعر عشرة دنانير يوميا، من لا يوافق فليخرج!؟ وجرت بيني وبينه مناقشة حادة (ذكرت هذا بمجموعتي "يزيد قاتل الحسين") عن هذا الاستغلال الذي يتنافى وقدسية هذه الزيارة، وهذه الذكرى، التي تجسد نتائج الظلم والاستعباد في موقف أبي الضيم الذي صاح "هيهات لا أعطي بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد". ورجح لي مدير الفندق أن أبيت في سطح الفندق وتعهد أن يوفر لي الغطاء، فبرد أيلول لا يطاق ليلا!؟ وقبلت ريثما أتدبر إيجاد مقر آخر. تفضل الأديب مظهر اطيمش أن ينقلني إلى داره وبضيافته. وأمتلأ بيته بالزوار من أهالي الشطرة! ومظهر اطيمش هو الأديب "مظهر عبد النبي اطيمش" والفنان الموهوب في فن الرسم، وآل اطيمش يعتبرون أخوالا لجدنا الشيخ جواد الشبيبي فجده لأمه هو الشيخ صادق اطيمش.
حين زرت بغداد نهاية العطلة، وبعد تأكدي من موافقة الوزارة على نقلي، استحصلت من الشيخ "محمد رضا الشبيبي" بطاقة شخصية إلى متصرف اللواء حسين السعد توصية منه بمساعدتي بتعييني في مدينة كربلاء لا خارجها. ولما عرفت أن رشاد شمسه مدير المعارف فيها، فقد عدت عن مواجهة المتصرف لتقديم التوصية، ذلك أن بيني وبين المدير معرفة تامة. ولكن حسابي هذا كان مغلوطا. فلبساطة الرجل أستطاع بعضهم أن يحشو رأسه بالمخاوف من وجودي في أي مدرسة داخل المدينة. فأعلن أن لا وجود لشاغر هنا، فاختر واحدة من ثلاث، الكوفة، عين التمر، قرية الحسينية؟ وعبثا حاولت إقناعه: أن لي عائلة وعدد من الأولاد والبنات في المدارس الثانوية والابتدائية، ومرتبي لا يحتمل لتدبير أمرهم وعيشهم وإيجار المسكن؟ وانتهت مدة الالتحاق ولم يصدر أمر تعييني. فقد رفضت ذلك الخيار وبشدة، وقلت يمكنكم رفض أمر نقلي من الأساس!
وعلمت بعد أمد من استقراري في مدرسة الفيصلية الابتدائية أن الذي حشى رأس مدير المعارف وأخافه من مغبة الأمر هو محمد علي هادي، وقد مرّ ذكره في موضوعة "إشراف المفتشين". وهو هنا بوظيفة مفتش أيضا. وتهمة الشيوعية هي البعبع الذي كان أهم ما يخيف ويحذره رؤساء الدوائر. وسانده اثنان من ذاتية المعارف وهما نجفيان -والحمى تأتي من الرجلين- كما يقول المثل الشعبي.
عند هذا لم أجد من بد من البحث عن واسطة وشفيع. وهذا كان من أبرز ما يتسم به الحكم عندنا -الشفاعة- فمن لا شفيع له -خفّت موازينه- ولماذا لا! ففي أمورنا الدينية والمذهب تعتبر -الشفاعة- ركنا هاما في حياتنا. المئات من العوائل في المراقد المقدسة، تعيش على النذور والهدايا التي يقدمها طالبوا شفاعة الأئمة والأولياء بعد أن ينالوا المراد، وقد كثرت القبور التي يعتاش بفضلها البطالون ممن ينتسب إلى الرسول في القرى والأرياف، ففي كل قرية -أسرة علوية- تدفن أشهر واحد منها وتشيع له كرامات ويصبح قبره بعد هذا مزارا، ويرى بسطاؤهم انه الملجأ والشفيع لتحقيق أمانيهم، أو خلاصهم من مشاكل أمورهم. المضحك في الأمر أن كرامة سمعتها تتردد في قرانا القريبة مثلما سمعتها في قرى الجنوب هي أن من جملة كراماته أن يبتلي من لا يفي بالنذر أو يهزأ به، يسلح من بطنه جيرا!؟.
وقصدت وجيه آل كمونه "عبد الحسين كمونه" لا باعتباره من بني أسد الذين ينتسب إليهم آل الشبيبي، وإنما لأنه عرف بالأريحية، وكرم النفس، واستجابة النخوة. وأفهمته إني أحمل بطاقة شخصية من الشيخ الشبيبي إلى المتصرف، وسبب عدولي عن تقديمها، اعتقادي أن هذا يمس شخصية مدير المعارف وعلاقتي به، فعدولي تكريما له. وأسرع الرجل وأنا بصحبته، واجه أولا المدير، فوجده ما زال متعنتا، فأفهمه حكاية البطاقة الشخصية، ووجد الكموني العذر فقصد بي المتصرف، وشرح له كل ما أحاط مسألتي من ملابسات. وقدم له البطاقة.
في اليوم الثاني قام المتصرف بجولة في المدارس. متوخيا حل أزمة ملاك المعلمات في المدارس، وخاصة مدرسة خديجة، واقترح توزيع صفوفها من الثالث وحتى السادس على المدارس القريبة، وتعين معلمين بدل معلمات لها للصفين الأول والثاني حسب كفاية شعبها. حين أبدى المدير اقتناعه بالحل، قال المتصرف، أصبح ممكنا إذن أن تُصدر كتاب تعيين "علي" في إحدى المدرستين الحسين أو الفيصلية. بُهت المدير. وأصدر أمر تعييني إلى مدرسة الفيصلية في 12/10/1955، هناك فهمت مَن مصدر العراقيل، والهمس المفتعل الذي أحدثه جناب المفتش.
أكد لي بعض المعلمين أن زمرة من اثنين من موظفي ذاتية مديرية المعلمين، وبعض من آزرهم من مدراء المدارس الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من مناضلي الحركة القومية. ولكن المعروف عنهم من ذيول رجال العهد الملكي. كما أبدى المفتش محمد علي اهتماما كبيرا للحيلولة دون تعييني في مدارس كربلاء. وبقيت فترة طويلة إذا ذكرت هذا المفتش أسند ذكره بـ -جناب المفتش-. سألني أحد زملائي، لم تذكره بكلمة "جناب" وألح. فأجبته: إنها اسم لقصة من قصص غوغول، ساخرة تفضح أمثال صاحبي المفتش "محمد علي هادي".
وسارعت واستأجرت دارا، واستحصلت إجازة للسفر وجلب العائلة من الناصرية.
* * * *
حين حضرت وصغيري "محمد" أمام المحكمة والحاكم "راجي الهداوي" وسرد المحامي حقيقة القضية وظروفها من كون الآلة "ديلاب الهوى" التي أستخدمها -المتهم- وإنها خشب واه محطم، كثرة مساميره الكبيرة، بسبب محاولة ترميمها، وكأنه لا يعرف إنها بهذا الشكل غير صالحة، وقد تسبب خطرا على حياة الأطفال وفي هذه الأيام المباركة التي يجد فيها الصغار المجال التام للفرح. وفعلا أمامكم تقرير الصحة الوافي بما حصل لأبن موكلي وما كلفه من خسائر مادية، وضياع الوقت وخسارته المشاركة بالامتحان النهائي ...الخ.
جاء قرار المحكمة جافيا، وذلك أيضا جاء متأثر بشفاعة لما جاء فيه "من أنه فقير وبائس" أي "الجاني" أغتنم هذه الأيام فرصة لعيشه، وهو طبعا يجهل كيف حصل لما حصل. وكانت غرامة عشرين دينار. لذا أعلنت تنازلي عن قبول هذا التعويض بسبب هذا التحيز.
ولا غرابة فأنا أعرف أوضاعنا الخاصة، هي نتاج الوضع العام للحكم المتهرئ. فللشفاعة عنده مكانة إن كانت من ذي مقام أو قربى، وبالأخص إن كان الخصم من أمثالي أمام مثل ذاك الحكم.
كل الأمور تمر وتجري على غير هدى. مهما كان تأثيرها على المجتمع أفرادا أو وجماعات. فمثلا، شرطة المرور تهمل صاحب سيارة أبو -اللـﮕـو- وعلى صاحبها اثنتا عشرة مخالفة. ركبنا فيها لا نعلم عنها شيئا، وكدنا نلاقي الموت فجأة، وتحت الظلام، وارتفعت في الهواء واستقرت بلا عجلات على وجه الأرض!؟ قلت لـِ "أبو اللـﮕـو" أنت بائع معلاگ -يعني بائع كبد- وبعين واحدة ويد واحدة، فكيف حصلت على إجازة سوق؟ أجاب: عليمن تعيش الشرطة!؟
أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف. الكربلائيون لا ينسجم معهم الغريب ولا يتعاونون معه إلا إذا كان في وظيفة ينتفعون بواسطته فيما يخص مصالحهم، أو يخشون سلطته. ربما يعزو بعضهم إنها طباع تغلبت على العرب منهم من -الإيرانيين- وهم أكثرية بالنسبة للمدينة، وبأيديهم أهم المصالح من تجارية وغيرها. السبب في هذه الصفة هو أن طبقة التجار أكثرهم إيرانيو الأصل، وهذه الصفة فيهم لتبقى سيطرتهم على الوضع. وقد وجدت أن الكربلائيين العرب أيضا يستعملون اللغة الفارسية، بينما أعرف أنا الفرس القاطنين في النجف يستعملون اللغة العربية، وهكذا لا يمنع التاجر ألنجفي من تمكنه أيضا للغة الفارسية. فهل الإيرانيون في إيران ليسوا بذوي نخوة، ويعادون الغريب؟ هذا ما لا أعرف عنه، ولكن بالطبع ليس كذلك، وإنما يحصل هنا فلأنه من نوع تنازع البقاء. أغلب الإيرانيين هم من النوع المسيطر على المكاسب هنا، وردوا إلى البلد فقراء، وبمهارة وجد تمكنوا من رفع مستواهم ماليا. وخاصة الذين كانوا يجيدون أعمالا صناعية الناس بحاجة إليها. فمصلحوا المكائن على اختلاف أنواعها إلى "رقاع الأحذية" و "خياط الفرفوري" ولكل ما يهم مثل "الريافة" للملابس والسجاد.
وللعرب صفة وراثية منذ القدم، هي ترفعهم عن مزاولة الكثير من المهن عدا التجارة. مما يروى أن أعرابيا تخاصم مع أحد الموالي بين يدي ابن عامر -صاحب العراق- فقال له المولى لأكثر فينا أمثالك، فأجابه بل كثر الله أمثالك فينا، فقيل له يدعو عليك وتدعو له؟ قال: نعم ، يكسحون طرقنا ويحوكون ثيابنا ويخرزون نعالنا!
في كربلاء وجدت العربي يجيد اللغة الفارسية. مخطئ من يعتبر هذا عيبا وأنه يتنافى والشعور القومي. ونحن نعرف أن الغربيين يتعلمون ويجيدون كثير من اللغات الشرقية وسموا "المستشرقين" فدرسوا تأريخ الشرق وألفوا فيه. وقد استفاد الأستاذ أحمد حامد الصراف فتعلم اللغة الفارسية من مربيته الفارسية منذ كان صغيرا حيث أقام والده هناك، فترجم رباعيات الخيام نثرا. والفئة الأرستقراطية من العرب يتبادلون المصاهرة، ومربو أبنائهم وخدمهم فرس أيضا. أما في النجف فالفرس يتكلمون العربية، وانصهرت كثير من الأسر الفارسية فيها بالعربية. ولا تجد الاندماج بين القوميتين إلا نادرا.
تأمل إني حين نزلت في كربلاء، وكان كل متاعنا في شاحنة قطار لم يصل بعد من الناصرية. حاولنا أن نعتمد على جارنا فاعتذروا حتى بتزويدنا بالماء!؟ قالوا قدورنا عند "المبيض" -هو الذي يطلي القدور النحاسية لتبييضها-، وماء الحنفيات منقطع!
ومرضت، فلازمت الفراش، فلم يزرني زملائي المعلمين. وأرسلت إلى المدير أن يدبر لي الدواء بوصفة أرسلتها إليه فأعتذر، وطالبني بوجوب الدوام. الفراش الشيخ محمد المسلماني، كان معلم صبيان وحين كثرت المدارس الحديثة تحول إلى فراش فيها، كان إنسانا جيدا له شخصية جذابة ومحترمة. كان أكثر أريحية، راجع أحد المرابين من أجل أن يرهن عنده "مصوغاتنا الذهبية" هذا المرابي على رأسه عمامة خضراء، وفي جبهته ثفنة تبدو كدملة من أثر السجود، ولكنه شرّ مرابي!. فعلاوة على ما يحمل القرض من أرباح حسب المدة، يفرض الموعد وإن تأخر ثلاث ساعات يصبح الرهن ملكا له على قاعدة "بيع الشرط". وأخيرا جاء الفراش بثمانية دنانير. ويوم استلمت سلفة "مصرف الرهون" أخبرني الفراش لا تفكر بدفع المبلغ، إنه هدية من بعض زملائك.
عاتبته لأنه لم يذكر هذا في حينه، وتوجهت إلى الإدارة لأسلم المبلغ إلى المدير. عند الباب سمعت زميلي "عبد المجيد ..." يخاطب المدير: (الشبيبي أستلم سلفة رجع إلنه المبلغ منه ...!) ودخلت فقدمت المبلغ وقلت وأنا أنظر ذاك الزميل: أرجو أن تعيد إلى كل زميل حقه وأعتذر عن عدم ردها في حينه لأني لم أكن أعلم!
وآخر ما حدث فعلمني أن ألزم الحذر. معاون المدير، اخترته، وعن طريقه تعرفت على آخرين صرت ألتقي بهم معهم في مقهى محترمة. وحدثت مظاهرة طلابية، كانت بعيدة عن طريقنا، لكنه أخذ يحثني أن نسارع إلى بيتنا دفعا للشبهة. امتثلت ضاحكا، ولكن بنية التأكد من أن ولديّ في البيت أو خارجه. وعدت مسرعا إلى نفس المقهى. فوجدت صاحبي وقد انكمش خجلا حين سلمت عليهم. قلت أخاطب الجماعة: جئت لأعلمكم إني لن أكون "ضغثا على إبالة" أسألوا الزميل، من موقفه مني. أترون لو حصل -فرضا- أن اتهمتني الشرطة، وكنت أثناء التظاهرة في بيتي، كيف أثبت لهم صحة ذلك!؟. وبالطبع لو كنت بينكم لصرتم الشاهد الأمين. أليس كذلك؟ فصاحبي إذن كان من يدفعني حيث التهمة!؟
إنه صديق لهم قبل أن أتعرف بهم، فطيبوا خاطري باعتذار. ومع هذا فقد كنت أعوده أكثر من أي واحد منهم أثناء مرض لم يُشف منه إلا في أوربا. لا بأس هذا قدري، وهو سمة طيبة لمن يحترم نفسه وثقافته ...
* * * *
وتتحمل كربلاء تركة سيئة، وغير مشرِّفة، من عهد الحكم العثماني والاحتلال البريطاني. فقد تنافس زعماء الأسر الكربلائية القديمة فيما بينهم على امتلاك زمام الأمور تنافسا كبيرا. بعض أولئك الزعماء أعتمد على الطبقة الفقيرة، فأحاط نفسه بعدد كبير منهم، وبكل جرأة كانوا يؤدبون منافسيه، بالتعديات وإشاعة الفوضى في البلد لإحراج موقف الآخرين. وهو الكفيل بسلامة -جنوده هؤلاء- وأغلبهم كانوا من الإيرانيين.
ولما انهارت سلطتهم -نوعا ما- في عهد الحكم الوطني ظل كثير من أولئك -الجنود- يعانون الحرمان، بنفس الوقت هم على ما كانوا عليه من مزاولة التعدي، والنهب، والتفسخ الخلقي، حتى وهو يمارس مهنة وعملا، فإنه تمويه وإيهام، بينما يستطيع بهذا اكتشاف أثمن غزوة، هذا في مواسم الزيارات الهامة، زيارة الأربعين وزيارة النصف شعبان-.
في هذا الوقت كان مدير شرطة اللواء رجل عرف عنه النشاط الجم في تعقب أمثال هؤلاء. يدعى "جواد أحمد" وهم بدورهم يخشونه، فهو يقسو على من يضبطه متلبسا بجريمة، واشتهر بالتنكر لملاحقتهم، وله جولات ليلية متنكرا، يراقب الحراس الذين هم طالما شاركوا اللصوص فيما يغنمون. وكم سرني لو أن جميع مسؤولي الأمن مثله، في النشاط لخدمة المجتمع، مع مثل نقاء ضميره وسريرته الطيبة، وإن شئت سمّه سياسيا مثلا، إلا إنه يسير وفق الأصول القانونية، وفن المتابعة، بعيدا عما أعتاد عليه الأكثرون في معالجة القضايا المنوط إليه أمرها. سواء ضد اللصوص والسفلة أو ما يخص المتهمين.
حين عدت من بغداد بعد أن قضيت نصف شهر -من 20/1 إلى 3/2- في مستشفى صحة الطلاب، وباشرت بعد أسبوع في الدوام. عاد مدير المدرسة "مهدي علي" ذات يوم، وقص عليّ ما لو كان على يد غير هذا المدير، لكنت في مشكلة وأي مشكلة. قال: استدعاني مدير الشرطة، واستفسر مني إن كنت أعلم عنك وعن تحركاتك شيئا. أجبته: إنه جديد على هذه المدرسة، وملازم لزميله المعلم "حميد شريف" بعد دوام بعد الظهر، ويعودان سوية إلى البيت. وهو لحد الآن لا صلة له بأحد غير هذا. كما أنه عاد منذ أيام قليلة من مستشفى صحة الطلاب، الذي أرسل إليه بكتاب رسمي من صحة كربلاء للعلاج.
وأستفسر عن تأريخ ذهابك وعودتك. فأخبرته. فأخرج -إخبارية- بتوقيع مواطن مخلص، مفادها: أن فلان وفلان إلى عدد آخر اجتمعوا في أحد بساتين كربلاء، كخلية شيوعية يديرها شخص ورد كربلاء حديثاً يدعى "أبو كفاح". فطمأنته أؤكد لك إلى أنه لا صلة له بأحد مطلقا ولم يتخط حدود كربلاء لغير النجف. فأجاب الرجل: لأني لا أعرفه طلبتك. وأراني تأريخ الإخبارية فكان خلال وجودك في المستشفى. على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير.
وحدث أن ولدي همام خرج بعد الغروب لحاجة لنا، فعاد بعد مدة ومعه قريب لأمه. كان قد تعرض له اثنان من السفلة لو لم ينطلق هاربا إليه لحصل له شر منهم. وأخذه هذا إلى مقهى أصحاب الطيور فشخصه له وليس معه الآخر، وعرف أسمه، فسارعنا لتقديم الشكوى. وظلت الشرطة تبحث عنه حتى عثرت عليه، كان يدعى "محمد برّام".
كان مدير الشرطة "جواد أحمد" يتولى التحقيق مع السفلة من مرتكبي المخالفات والجرائم بنفسه. وقد حاول أبو هذا السافل إطلاق سراحه بكفالة، لكن الحاكم "إدريس أبو طبيخ" لم يوافق إذ هو يساند المدير في وجوب التشدد ضد هؤلاء. فهو يترك أمر التصرف فيما يقترح عنهم إذ هو عارف بهم تماما. وفوجئا بدخول امرأة فارسية مسنة، جاءت تتوسل بنا كي نوافق على إطلاق سراحه، انه المعيل الوحيد لنا وأبوه العاجز. ويوم المرافعة أعلن أبني أمام الحاكم التنازل بقوله: إن دموع والدته العجوز دعتني أن أستجيب لطلبها ...!. فأنب الحاكم المجرم، وقال: استجابة لطلب هذا الولد الكريم نطلق سراحك. فتعلم أن من البر بالوالدين أن تكون حميد السيرة لا سافلا.
* * * *
عدد المعلمين في هذه المدرسة "الفيصلية" كاف لصفوفها الستة بشعبها. أما مديرها فملق أمر المعلمين لهم. ورغم انه يطلع تماما على كل أوضاعهم -بأساليب خاصة- فأنه لا يحاسب أيا منهم. بعضهم تمكن من مادة درسه، ولكنه على أي حال لا يسير إلا على النهج المطلوب، أي أنه يدرس سواد على بياض -كما يقول المثل- تجنبا للتهم السائدة في عصرنا هذا. وبعضهم أختص بالصف الأول والثاني تخلصا، فهو محسوب على الاتجاه الديني، أو لأنه قد تجاوز الكهولة وخطا الخطوة الأولى نحو الشيخوخة. آخرون يعتقدون أن كل ما في الحياة مهزلة، فهو لا يهتم بشيء قدر اهتمامه بالضحك، ومعاقرة الكأس ليلا. ولكن الجميع منسجم مع الإدارة ظاهرا والتعليق بالنكتة لا بأس به.
شاركني المدير في المراقبة مع المعلم "موسى توفيق" هذا المعلم على أنه من أكبر المعلمين سنا، فإنه يدين بالمثل الشعبي "لياخذ أمي يصير عمي". مرة أحد المعلمين حرض أبنه الصغير مصطفى أن يردد أمام أبيه أهزوجة شعبية محرفة عن أغنية تنسب للمغنية سليمة مراد صديقة الباشا حيث كانت الأغنية تشير إلى علاقة بين نوري باشا وصالح جبر "نوري السعيد شدة ورد صالح جبر ريحانه" فكان التحريف "نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانه" كرر الطفل الأغنية محرفة ثلاث مرات، ويسكته الأب بعشرة فلوس وينصحه، أبني نوري السعيد ابن الله دير بالك صير حباب.
وذات يوم أخرج المعلم موسى على العادة أثناء الاصطفاف تلميذا ليلقي قطعة شعرية من محفوظاته المدرسية. بالنسبة لي كانت حصتي تنظيم الاصطفاف، والإيعاز بالتوجه إلى الصفوف، بعد انتهاء الفترة المحددة للنشيد وإلقاء ما يحفظ من كلمات وقطع شعرية من مختلف الصفوف. كان الطالب "عادل جياد" من الصف السادس (هو اليوم شاعر شعبي وموظف في ... زراعة كربلاء)، فما أن ألقى الطالب بيتين حتى سمعت المعلم يولول ولولة من أصيب برجة عصبية: أرجع كلب ابن الكلب، ألعن أبوك لا بو العلمك ها الحجي!؟ وأسرع إلى مدير المدرسة يصرخ "فلان" يريد يـﮕطع خبزتي يطي التلاميذ شعر سياسي!؟
القصيدة كانت من شعر أحمد شوقي. وأحيل الطالب للتحقيق، فأفاد إنها من اختياره الخاص من إحدى المجلات، وارتأى المدير فصله. فوافق أكثر المعلمين عدا أربعة منهم وأنا أحدهم. ووافق مدير المعارف. فعارض المفتش "محمد علي هادي"!؟ واقترح المتصرف "حسين السعد" طرد التلميذ خمسة عشر يوما.
وربما كان دفاع المفتش عنه بتأثير أخيه شاكر هادي الموظف في بلدية كربلاء ووالد هذا التلميذ أيضا من موظفيها. ربما أيضا كانت زيارته لي ذات علاقة بما بدا من المعلم موسى توفيق -خطأ- بأني الذي أعطاه القصيدة للحفظ. كما إني لم أعط الطلبة من شعر شوقي. بينما أعطيت الصف أهم من هذه قصيدة "نامي جياع الشعب نامي" لشاعر العراق محمد مهدي ألجواهري، لنغمها الموسيقي في وزنها حفظها حتى طلاب الصف الثاني من ترديد من قرأها من طلاب السادس.
وبعد هذا مباشرة قام المفتش بزيارة المدرسة. بالنسبة لي، وقف بباب الصف السادس وكان الدرس حل تمارين درس التمييز، دعوته للدخول، فرفض وقال: تفضل استمروا. فسألته -جادا- ما المقصود بـ "قصبة" فيما يخص مثقال الذهب أنه يساوي كذا قصبة وبعض قصبة؟ أعتذر وودعني!.
وزارني في الصف الثاني. في نفسي قلت: إنه دائما يهتم بهذا الصف. لقد بدا هنا نشطا في توجيه الأسئلة للطلبة لتفسير آيات "سورة الإخلاص" فكانت الحال مضحكة من الأجوبة ومن إيضاحات المفتش لتبسيط سؤاله: ما معنى "كفوا أحد"؟ قال أسمعوا: أنا معلم، أكو مثلي معلمين؟ أجاب بعضهم. لا سيدي أنت كبير المعلمين. كان حضرته يريد أن يفهمهم أن له شبيه وكفؤ ولكن الله "لم يكن له كفوا ..." وعبثا حاولت أن أفهمه أن هذه السور للحفظ فقط، وإن هذه السورة بالذات، في الكتاب المقرر للدروس الدينية في الصف السادس.
وبعد مدة وصلتنا تقارير -جناب المفتش- فيما يخصني: "في الصف السادس لا يهتم بالواجب ألبيتي. في التدريس يطوي الدرس طيا. في درس الدين لا يهتم بتفسير الآيات الخاصة بالوحدانية." ولم يشير إلى الصف الذي خصه بالملاحظة الأخيرة.
كان الرد عليه واجبا للدفاع عن كرامتي وحقيقتي في العمل التعليمي الذي اخترته في وقت كان لدي ممكنا ولوج باب أرحب وأوقع في نفوس الناس، لكني آثرته حبا بالتربية والتوجيه. حين طلبت من الشيخ الشبيبي مساعدتي في أمر تعييني معلما عام 1934 ، رفض ورجح لي التريث لمدة عينها، فأعين في منصب "قاضي شرع" لكني آثرت التعليم، لمزالق أخشاها في تلك الوظيفة.
إن ما سجله -جناب المفتش- كذب محض وافتراء لئيم. وعنونت ردي إلى مديرية التفتيش العامة، في مناقشة ما جاء في التقرير عني بـ -جناب المفتش-. كان لدي عادة، إني ألزم التلاميذ بتخصيص دفتر للواجبات البيتية، وأشترط وضع تأريخ اليوم للتمارين المطلوب حلها. وبعد إجراء التصحيح أضع التأريخ مع التوقيع.
دفتر آخر لحل التمارين الصفية، ودفتر ثالث للامتحانات الشهرية، وهذا أحتفظ به عندي، بعد أن يطلع التلاميذ على الصواب. وعند حلول امتحان آخر الصق على صفحات الدفتر للامتحان السابق شريطا، كيلا يحاول الطالب أن يشغل نفسه بالاستفادة من أسئلة الامتحان السابق.
كان ردي مسهبا أوضحت فيه كل الجوانب التي تعرض لها تقريره عني، وبالطبع كانت الدفاتر موجودة لدى التلاميذ، مضافا إلى هذا هم أيضا وثائق تفشل إدعاءه.
وكانت مناجزة -وتدخلات من الذين دفعهم- لصلات لهم بي، وقد اطلعوا على وثائقي، فلاموه، ثم انتصرت عليه. بعد تدخل مدير المعارف وإعدام تقريره من الملفة الخاصة بي لكي أسحب ردي!؟
لي الحق أن أقول: إن في نفسه حقدا علي يوم أشرت للخطأ في خطابه الذي اتسم بالفصاحة والعمق في المعلومات باللغة العربية، وقد تطرقت إلى هذا في موضوعتي "إشراف المفتشين". ولست أعلم ماذا يبيت لي في المستقبل. الظروف طبعا إلى جانبه، مادمت أحمل علامة خاصة كما يتوهمون.