3- عودة ومصائب وعواصف / 11
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)
محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com
الآمال والمطامح
الشعوب العربية كلها ترتوي من منهل مصر الثقافي والسياسي، منذ برز فيها شخصيات عظيمة، مصطفى كامل، وسعد زغلول، ومحمد عبده، ومنذ اتخذ منها جمال الدين الأفغاني فترة من حياته، مسكنا ومنطلقا لجهاده. فتوقدت في نفوس كثيرين من علمائها وأدبائها الروح الوطنية. لكن قبضة الاستعمار البريطاني ظلت تضغط عليها بقوة. وأيضا كنا نعلم أن تحت الرماد وميض نار.
فوجئ العالم في 25/7/1952 بإقصاء فاروق عن العرش، وأخذ الزمام ضباط أحرار على رأسهم جمال عبد الناصر، وكأن رعدة سرت في أوصال العراقيين، فهبوا يحيوا الثورة المباركة، متحدين سياط نوري السعيد -وكيل الاستعمار الأوحد- ولكن الشباب أنتفض بمظاهرات صاخبة. ذكرت نوري بانتفاضتنا في 1948 و1952 والصحف الوطنية والتقدمية لم تحجم عن إعلان استبشارها، ومساندتها، وتحذيرها أيضا خشية أن تحبطها تدخلات ووعود. لكنهم لاحظوا أيضا أن قائد الثورة كان يبدي في تصريحاته ما ينم عن غزل مع أمريكة ليضمن مساندتها في مشاريعه الوطنية الاقتصادية. وعنوان هذا الغزل كان آراؤه في الشيوعية عدو الاستعمار الأول. كقوله إن أي اعتداء موجه إلى الشرق الأوسط سيكون مصدره الجانب الشيوعي!؟. هو بحاجة إلى السلاح وما هو أهم أيضا "مشروع السد العالي" فتوجه إليها مغازلا. لا أيها القائد، أمريكة اليوم ليست أمريكة "أبراهام نيلكون" ولا أيضا أمريكة "ولسن" إنها أمريكة رأس المال وملوك الصناعات من اليهود الصهاينة!؟ فراح يلمح لها "إنه ليس ثمة ما يقف في علاقاتنا الطيبة مع الغرب -بعد مشكلة قناة السويس-. وإن الإسراع في عقد المحالفات قد يؤدي إلى نتائج غير حسنة خصوصا من جانب الشيوعيين، الذين يعلمون جيدا كيفية استغلال شكوك العرب اتجاه الغرب"
ثم يرسل رسوله وزير الإرشاد في لقاءات تمت بينه وبين "الوكيل الأوحد نوري السعيد" وتحيط تلك الاجتماعات السرية التامة والغموض. وتروي وكالات الأنباء قولا لقائد الثورة في "أن مصر والعراق عزمتا على تعويض ميثاق الدفاع كحلف دفاعي يكون أوسع نطاقا عندما تنظم إليه تركيا والباكستان فيما بعد!".
وتوقفت بعد زيارة رسول "القائد" إذاعة صوت العرب عن مهاجمة المساعدات الأمريكية، والحكومة العراقية التي قبلت تلك المساعدات. لا ندري، ربما في سره غير ما يشير إليه هذا الذي سمعناه وقرأناه. ولكنا نعلم أن أية ثورة في هذا الزمان إن لم تكن جذرية، وبعيدة عن مصالح -البرجوازية- فإن الاستعمار لا يفسح لها المجال إن لم تنضوِ تحت جناحيه، وتوقع صك التبعية والولاء.
وكان ما كان من أمر فشل الغزل ورفض أمريكة لمدّه بالمساعدة في السلاح وإقامة السد العالي. فولى وجهه شطر الاتحاد السوفيتي بعد أن أعلن تأميم القناة في 26/7/1956.
وجاء رد الاستعمار على تأميم القناة سريعا أيضا فشن على مصر عدوانه الثلاثي في 29/10/1956. وأبلى الشعب المصري بلاء فاق التصور، ولم ترتد قوى الشر ولم تعبأ ببيان مجلس الأمن وهيأة الأمم، والشروط الأربعة رفضها جمال، واشتدت المعارك في بور سعيد، بينما أنذرت إذاعة الشرق الأدنى في 30/10/1956 المصريين بالابتعاد عن محطتي مصر والإسكندرية لقصفها.
وأنذرت موسكو في 6/11/1956 حكومتي بريطانيا وفرنسا بالتدخل والتطوع في صفوف الجيش المصري. فأوقف القتال. أي موقف نبيل هذا؟ في وقت كانت تسمع من قائد الثورة المصرية آراءه في الشيوعية ودولة الشيوعية.
وسرعان ما وزع الاستعمار الأدوار على وكلائه من حكام الدول العربية. لتطويق مصر لكي لا تسري العدوى إلى بقية البلدان العربية. تشيع أمريكة أن سورية أصبحت مبعث ذعر لجيرانها، وتحشد تركيا جيوشها على حدود سورية. وملك الأردن يذيع من راديو بغداد رسالة إلى رئيس الوزراء "النابلسي" إنهما يختلفان في الاتجاه! ويشير إلى أن الشيوعية تساوي بين الشيوعي العربي والشيوعي الصهيوني!؟ ذلك لأن الأردن برئاسة النابلسي فاتح الصين والاتحاد السوفيتي في 31/11/1956 برغبة الأردن في إيجاد علاقات دبلوماسية معهما. ثم أقال النابلسي. وصارت الوزارة كرة يرميها صاحب الجلالة "القزم" على رجال رفضوها لأنهم في واقع الأمر يعرفون جيدا من هو المفضل عنده لها -المفتي، ألخالدي والحيالي-؟ ولماذا؟ وهم يعلمون أيضا أن تلك الأحداث كانت مؤامرة القصر!.
صحافة العراق الوطنية، وقفت تساند مصر، وتحذر عبد الناصر من الانزلاق في مهاوي الاستعمار الانتقامية. والشباب يواصل التظاهرات الصاخبة العارمة في مدن العراق، ويتلقى رصاص شرطة نوري السعيد، الذي يعلن بغباء محذرا البلدان العربية "أن لا تنخدع بما تظهره موسكو من عطف على قضيتها فإن لها -موسكو- مقاصد خطرة على سيادتها واستقلالها!؟". هؤلاء العملاء يفقدون صوابهم حين يهب الشعب فينسون ماذا قالوا أمس حين حدث العدوان الثلاثي. قالت إذاعة بغداد: إن موسكو تقف موقف المهرج فلم تتجاوز نصرتها الأقوال. أما وقد أصدرت موسكو إنذارها إلى حكومات "العدوان الثلاثي" فقد علقت إذاعة بغداد هذه المرة "إن إنذار السوفيت تعكير لصفو السلام ، بدلا من أن تشجع موسكو التعاون والحلول السلمية تشجع الحرب" ربما هي تفهم السلم بمنطق الهجوم الثلاثي لاحتلال مصر!؟
ثم صفى نوري الصحافة الوطنية، وحكم على بعض قادة الأحزاب بعد ما أغلقها. وراحت شرطته تحصد الشباب، وتزج الكثير منهم في المعتقلات والسجون، وأغلقت الكليات، وعطلت المدارس في كل مدينة شبت فيها المظاهرات.
وشمر عن ساعديه لتحويل الحلف التركي الباكستاني بعد أن حقق بديلا لمعاهدة 1930 فأصبح الحلف يحمل اسم ميثاق أو حلف بغداد وانضمت إليه بريطانيا.
وخلا الميدان من الصحافة الوطنية العلنية. فشدد الحزب الشيوعي من فضح ألاعيب الاستعمار التي ينفذها العميل الأول، وكذا منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي -السرية أيضا-. من يطالع كتاب السفير الأمريكي -ولد مارغلمن- بعنوان "عراق نوري السعيد" يعرف أن نوري عميل متفان في خدمة الاستعمار. وقد عاش هذا السفير بين الأعوام 1954-1958 أي أنه شهد نهاية نوري السعيد. ولكنه قال: سيأتي يوم ينصب فيه العراقيون له تمثالا وسط العاصمة بغداد!
وفي كربلاء اعتقل عدد من الشباب بتهمة اشتراكهم في المظاهرات، وأغلقت إعدادية كربلاء. ثم ابتكر أسلوب جديد عندما أوفد مدير معارف أربيل عبد الوهاب الركابي ليشغل مهام مدير معارف كربلاء بدلا من رشاد شمسه، إن على كل ولي أمر طالب أن يأتي بابنه فيتعهد حسن سلوكه لغرض تسجيله، ويعتبر تسجيل الطالب وقبوله اعتبارا من كفالة والده.
قبل عودة الطلبة بهذا الأسلوب مرّ معاون الشرطة ".... السلومي" ومعه الطلبة المعتقلون، هاج الطلبة وتعرضوا لمدرسهم محمد حسين حلمي لاتهامهم إياه بالتجسس. وكان معاون الشرطة قد مرّ بالطلبة ليثيرهم. وقيل: أنه ممن لا يؤيد إجراءات الحكم، وقد علمنا إن الطلبة أرسلوا إلى معسكر -سكرين-. ومحمد حسين حلمي من أصل إيراني، أقاموا في كربلاء واتخذوها سكنا لهم وتحولوا إلى الجنسية العراقية، ولهم مصاهرات مع كربلائيين عرب ومع نجفيين أيضا.
أما في النجف فترد الأنباء أن الوضع مقلق للغاية.
الأحزاب السرية لا تكف حملتها ضد حكم نوري، وتعلن رفض الشعب العراقي لمشروع أيزنهاور، وميثاق بغداد، وتطالب بتشكيل وزارة من جميع الأحزاب. ويقول العارفون ببواطن الأمور أنه قد توصلت الأحزاب الوطنية إلى تشكيل جبهة الاتحاد الوطني.
هذا أمنية كل وطني مخلص. ولكن أمن الممكن أن يتم هذا ويتحقق حكم وطني خالص بعد القضاء على النظام الملكي صنيعة الاستعمار البريطاني؟. وبدون أن تنهار الجبهة من جديد، فقد علمنا أن بعض أركان الجبهة من كان يرفض بالأمس أن يكون الحزب الشيوعي ركنا من أركانها. ثم وهذا في رأيي أهم، هل تم تأليف الجبهة وفق مخطط وبرنامج يتم تطبيقه قبل الإطاحة بالعهد الملكي وبعده إلى أمد طويل أم اكتفى في المسألة بالإطاحة!؟ لقد دعا حزب التحرر الوطني لعقد الجبهة. وقد رفض رئيس الحزب الوطني الديمقراطي باعتباره حزبا غير مجاز. أما حزب الاستقلال فكانت المادة "7" من ميثاقه تنص بصراحة بمقاومة الشيوعية.
هذا سيخلق مشاكل كبيرة للحركة الوطنية. والشعب الذي ضحى كثيرا، وسيجد الاستعمار منفذا جديدا للعودة
حتى ولو ببقاء الحكم جمهوريا. فليس العبرة بالأسماء. إن تهدمت وحدة الشعب، وأكلت الأحزاب الوطنية بعضها، عند هذا ستكون حريات الشعب في خبر كان كما يقولون.
وفاضل الجمالي
الرجل من القدامى الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه. فشغل وظيفة مدير عام المعارف. واشتهر بعدئذ انه حريص كل الحرص أن لا يكون له ثان في مثل هذه الشهادة! فهو يُسهل أمر طالب البعثة في أي تخصص آخر عدا فلسفة التربية. بحجة الاهتمام في تخريج أعداد في مجالات علمية! وتقدم شاب يدعى "عبد المجيد الحكاك" بطلب، فلم يحصل على نتيجة. كان الشاب ذا قوة جسدية، ومتهورا نوعا ما. فقرر أن يواجهه ويستفسر منه عن أسباب حرمانه. وهناك، بعد أن أغلق الباب من الداخل أنتقم منه شر انتقام بالضرب المبرح واللكمات الشديدة. فلم يستطع أحد إنقاذه. والحكاك هو الذي قص عليّ حكايته مع الجمالي. وحين ألف الأستاذ ذو النون أيوب قصة "الدكتور إبراهيم" شاع أمرها أن المقصود بها الجمالي. وانضم الجمالي إلى جمعية "الرابطة الأدبية" في النجف ، طبعا من باب إسنادها كشيعي. والطائفية إذ يعتنقها شيعي أو سني، إنما هي رمز الرجعية المقيتة، ومعتنقوا الأفكار الطائفية -في رأيي- هم أقرب من يكون إلى جانب الاستعمار.
وكان تعرفي عليه بحكم ترددي على عميد الأسرة "الشيخ محمد رضا الشبيبي" فأجده بعض الأحيان في مجلسه. وحين تقدمت إلى لجنة المقابلة لتعييني معلما عام 1934 كان هو أحد أعضاء اللجنة. وربما ساعدني في طلب النقل من بلد إلى آخر.
زار الجمعية الأدبية مرة هو والدكتور متي عقراوي بصحبة الشيخ باقر الشبيبي. وكنت في جدل مع رئيس الجمعية "عبد الوهاب الصافي" الذي عارض قصة لي بعنوان "وادي الأحلام" فرفض أن تُلقى أو تنشر. بحجة أنها فوق القيود. فانتهزت فرصة وجودهم وطرحت الموضوع عليهم. فعلق الجمالي بعد الإطلاع عليها -ردا على رئيس الجمعية- من أراد أن يقود المحيط إلى الأمام عليه أن يتقدم صفوفه لا أن يسير خلفه.
فأكبرته. واعتبرته رجل تجديد، ربما سيقود الشباب يوما ما. حتى إذا شاركت الشباب في نضالهم من أجل قضية الشعب والحكام الموالين للمستعمر، وجدته قد أنضم إلى صف ممثل الإنكليز "نوري السعيد" وكما أشار العلامة الشبيبي في كلمة له عن إستيزار الشباب في جلسة لمجلس النواب: (وأن كثير من هؤلاء إذا نجحوا موظفين فقد فشلوا وزراء). فقد تم هذا فعلا، واستوزر من الشباب ومنذ أول وصاية عبد الإله حين تولى الملك فيصل الثاني 51 وزيرا جديدا في 25 وزارة.
رأي الشيخ يبدو أنه أخذ جانبا من الموضوع فقط. هو كونهم شبابا وموظفين. ولكن المسألة في الواقع غير هذا. فالشباب يمكن أن يكون أكفاء للمنصب الوزاري أكثر بكثير من بعض النماذج الذين شغلوا مناصب وزارية، وهم ليسوا أكثر من شيوخ قبائل. والشباب الواعي الذي تثقف ثقافة عالية في مجالات السياسة، والأفكار الاجتماعية العلمية الحديثة، ثم مارسها عمليا في انتمائه إلى حزب سياسي وطني، وساهم في الدفاع عن المسألة الوطنية بقلمه، لا شك أنه خير من هؤلاء الشيوخ. لقد أبدى الشيخ رأيه هذا في جلسة لمجلس النواب. وربما يقصد بها الجمالي، خصوصا ونحن نتذكر نقدا له في مباحثات للجمالي مع وزير حزب العمال البريطاني المستر بيفن "إنما هو بيفن يفاوض بيفن!؟" وقد رأس الجمالي الوزارة لأول مرة عام 1954. ثم أشغل منصب وزير خارجية في آخر وزارة لنوري السعيد، فكان أهم ما يشغل باله، الشيوعية! لا يهمه الاستعمار. فهو قديم وفي طريقه للزوال!؟ ولا الصهيونية لأنها الفصل الأخير من كتاب الاستعمار القديم!؟ إنه يخشى الشيوعية فقط.
ومن آرائه المضحكة في مسألة التحالف مع دول الغرب الاستعمارية "إنهم أهل دين ونحن أهل دين. أما الدول الشيوعية فملحدة". وإنه لهذا يحسب كل متذمر إنما أصابته الشيوعية، واعتبر من يدافع عن السلام شيوعيا! حقا لقد أصيب بالهستيريا. وفي أوج معركة الثورة المصرية مع الاستعمار، غض الجمالي النظر عن رفع صوته في هيأة الأمم عن العدوان الثلاثي، وإنما رفع صوته محتجا عما سماه "أعمال العنف في هنغاريا؟"
وان أنس لا أنسَ موقفا له مع والده الشيخ (مرّ ذكر هذه الحكاية في القسم الأول "معلم في القرية" في موضوعة " الانتقال من المشخاب إلى الكوفة").
المعلمون والطلبة وصور من الحياة في كربلاء
مازلت معلما في مدرسة الفيصلية. مدير المدرسة له سلوك خاص، ما فيه على المعلمين ضير. ولهذا هم ماضون في واجبهم على الخطة المرسومة. غير أن بعضهم قليل الاهتمام بسبب سنه وإدمانه على الخمرة وهو أعزب. حدثني عنه أحد المعلمين، إنه ورث من أبيه ملكا كثيرا. بذره على موائد الشرب والميسر، فقد كان يهوى صحبة الموظفين ذوي الرتب، حتى أفلس ولم يبق إلا اليسر، اليسر جدا. وقد عقد هنا صداقة وثيقة مع المدير، فالمدير يتمتع بمائدته أيضا رغم أنه ميسور الحال أكثر منه حاليا.
معلم آخر كبير السن أيضا أختص بالصف الثاني، ومع هذا لم يسلم من تحرشات التلاميذ الكبار، وقد منحوه لقب "محقان"، اللعنة عليهم. ما يدريني، لعلهم يوزعون الألقاب على كل المعلمين.
في بداية مباشرتي في هذه المدرسة شخصت عددا من طلاب الصف السادس. كانوا يجلسون في الكراسي الأخيرة، طبعا لأنهم أطول أجساما مثلما هم أكبر أعمارا، ولكنهم أقصر باعا في تفهم الدروس. إنما هم مجيدون في لعب "الكرة" وحسب العادة المتبعة عند معلمي الرياضة، معلمهم هنا يداريهم في الحصول على درجات نجاح. وقد اشتركوا قبل مجيئي إلى مدرستهم في الامتحان العام فرسبوا. معلمهم فرح بهذه النتيجة، فهم ركائز للسباقات الرياضية. معلم الرياضة "حماده ختلان" من أهالي الديوانية، وكان مفوض شرطة سابقا، وبنفس الوقت يحمل شهادة تخرج من مدرسة الصناعة. لذا استطاع أن يحصل على تعيين في هذه المدرسة. الطلبة كلهم يحبونه، فهو ظريف جدا، مثلما هو مدمن جدا. ولاحظت أن أولئك الطلبة -الرياضيين- لا يهوون المعلم الجدي، فيُحدثون حركات مضحكة ليصرفوا الآخرين عن الاستفادة. حاولت كسبهم بالنصح واستعدادي لمساعدتهم إن هم بذلوا جهدا في الإصغاء ومحاولة الاستعانة بدراسة خارجية. ومن جانبي أنا على أتم استعداد لمساعدتهم فيما يحتاجون. وأخيرا وجدتني مضطرا، لإنذار المدير بلزوم نقلهم إلى مدرسة مسائية أو أية مدرسة يختارونها، أو أرفع الأمر إلى مديرية المعارف. وتكرر الطلب بسبب تعهد المدير لتحسين سلوكهم ثم انتهى الأمر أن نقل بعضهم. وتأدب اثنان احدهما أبن زميلنا "..." أما الثاني "..." فقد تكلفته أمه، وهي امرأة على كبر سنها مازالت في مظهر جمال، وكانت لها منزلة عند شخصيات من البلد، وكانوا يتنافسون في كسب ودها ... بنوها وبناتها أكثر شبها بها من أبيهم.
وسارت الدراسة بخير، والذين تم نقلهم هجروا الدراسة مطلقا، فدخل بعضهم في سلك الجيش وآخرون توجهوا للعمل الحر، ومن الغريب أنهم بعد هذا وثقوا علاقتهم بي. واستطاع الاثنان أن يجتازا الامتحان العام، ويدخل ابن زميلنا المتوسطة ويستمر، أما ابن المحترمة فبعد أن باشر عاما واحدا فقط في الأول متوسط، حصل على وظيفة لا بأس بها. إن أمه تستطيع أكثر من هذا!
حين اضطربت الأمور والأحوال السياسية في العراق على أثر أحداث الشقيقة مصر. وما كابدته من محن في عدوان بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. أشركوا إسرائيل ليثبتوا وجودها في ارض مصر، فيعزز بهذا احتلالها لفلسطين فيستولي عليها جميعا.
وعمت المظاهرات معظم المدن العراقية. وتوقفت الكليات في بغداد وتراوح أمرها بين غلق وفتح مرات عديدة، مدارس كربلاء الإعدادية والابتدائيات أيضا شاركت في إعلان الاحتجاج والتمرد. ولما لم يستطع مدير المعارف السابق على كبح جماح الطلبة، انتدب في 26/1/1957 لأشغال المديرية مؤقتا السيد عبد الوهاب ألركابي مدير معارف أربيل. وبعد أن دبر أمر عودة طلبة الإعدادية للدراسة، قام بزيارة المدارس الابتدائية. وزار الصف الذي كنت فيه ساعة زيارته. رحبت به ورددت من أغنية فريد الأطرش "معاك معاك دوما وراك وراك دوما...!" فتبسم وقال: سل مدير المدرسة ماذا قلت له عنك. واستفسر مني عن أولادي، فحدثته أن الكبير قبل في كلية دار المعلمين العالية باعتباره -ابن معلم- ولم يقبل بالقسم الداخلي بسبب ضعف معدل الدرجات التي حصل عليها في الامتحان العام للإعدادية. فأبدى استعداده لمواجهة المسؤولين عن هذا وعسى أن ينجح في مسعاه. حين ودعناه، قال المدير: إنه أثنى عليك كثيرا وقال "معلم جيد احتفظ به وساعده".
هذا كلام. في كربلاء العلاقات بين أبناء البلد والغريب لا تتم إلا على أساس المصلحة. كأن تكون موظفا في وظيفة ذات مساس بأمورهم التجارية وغيرها. الكربلائيون يحملون حساسية شديدة من ألنجفي. أما أن تكون معلماً، وبالأخص إن كنت "نجفي"!؟ وهم يهمزون -النجفي- بما هو فيهم بشكل تجاوز الغرابة. وما كان وجهاء النجف من يحمل تلك التهمة الذميمة، بل السفلة والمغمورين، لكني هنا وجدتها في أعيان ووجهاء.
الواقع أن الناس في كل أنحاء العالم يعتزون بمواطنهم -حيث ولدوا ونشأوا- ويتباهون بأمجادها وأمجاد رجالها. والنجف وكربلاء كلاهما من المدن المقدسة عند العالم الإسلامي. ولكن الحساسية إنما تنشأ حين تتفوق بلد على آخر في مجال العلم والأدب. وعلى أن كربلاء لم تعدم من هذين فإن النجف تبزها لأنها سبقت كربلاء في نفض غبار الفترة المظلمة فبرز فيها أدباء عظام لهم وزنهم في ميدان الأدب والعلم والسياسة، مضافا إلى ما يتمتعون من جرأة وإقدام. ودرجة الكربلائيين في هذا لا تضارع النجفيين مطلقا. وبعض شعراء كربلاء وخز النجف ربما من باب المداعبة كما في الأبيات التالية للحاج بدكت:
تجــــاوز الحد في غوايته كأنه بعض ساكني النجف
وللسيد عبد الوهاب آل الوهاب:
أرى محنة المصطفى والوصي بعد الممــات حكت ما ســــــلف
فهذا يجـــاوره صــاحبــــــــــاه وهـذا يجـــاور أهـــــــل النجف
العتبات المقدسة وارداتها المالية تفوق ما يرد إلى الروضة الحيدرية، وبالأخص مرقد العباس. فالعامة وبالأخص القرويين يخشون بأسه. وعند هذا تلجأ المحاكم لتهديد المتهم بإحالته إلى مرقد العباس لأداء اليمين فيعترف تجنبا لما يمكن أن يصيبه من بلاء بالجنون -مثلا- وقد يقدم على هذا، فيصيبه فعلا شيء من هذا، ومع هذا فيجد كثير من اللصوص في أيام الزيارات مجالا هاما للنشل من جيوب زوار العباس!؟
أمي كف بصرها على أثر إعدام أخي. طلبت من ابني الصغير "محمد" أن يصحبها لزيارة العباس فتتشفع به عند الله ليرد إليها بصرها. وعندما عادت تفقدت في الطريق جيب ثوبها فوجدت أن جميع ما لديها من نقود قد سرق!؟ الصغير ردّ عليها مداعبا: "يا جدتي عجيب أمر طبيبك هذا. لم يفتح عينيك وإنما سلط عليك من ينهب نقودك. لقد أخذ الأجور ولم يعالجك!؟"
إن سلواي الوحيدة في البيت -المطالعة- ولكن مكتبتي فقيرة. ومما يؤنبني عليه أهلي أني أحب أيضا أن أشجع من أتعرف عليه على المطالعة فأعيره بعض ما لدي. وأحيانا أخسر ما أعيره، إذ يعتذر بفقده. وتعرفت على شاب موظف في دار العجزة فاستعار مني ديوان "ألجواهري" وانتقل من كربلاء إلى المدرسة الإصلاحية في سجن بغداد، دون أن يعيد إليّ الديوان. فكتبت إليه رسالة عتب. ضمنتها كل ما استطاع قلمي تحبيره من عتب، ومن نكد حظي في أموري وحبي للكتب وحرماني منها، ولا أدري كيف تطرقت أيضا فقارنت بحظ أبينا آدم إذ خرج من الجنة بسبب تفاحة، وبين حظي إذ خسرت أي ظل حتى البسيط وكأني وريث الوالد الطريد الوحيد!؟ وانتظرت الجواب مع الكتاب. واستلم بعد فترة غير قليلة رسالة جوابية. المدهش المضحك، إنها من قرية في -لواء الديوانية- لا بغداد من معلم في مدرسة في قرية "الصلاحية". الصلاحية أنست إدارة بريدنا المحترم "الإصلاحية" لا غرابة "الإصلاح" كله مفقود عندنا. ولكن كيف تغلب أسم "الديوانية" وحل محل "بغداد" عاصمة الرشيد، ومن الغريب أن يكون أسم هذا المعلم "عبد الجبار عبد الكريم" هو أيضا اسم الذي استعار الكتاب. يختلفان فقط باللقب فهذا ليس "الأصفر"واستلمت منه رسالة إعجاب ويعتبر إن هذا الخطأ من بريد كربلاء رحمة: (إذ دلني على إنسان كنت أسمع به وأود التعرف عليه، أنا أعتذر إليك من قراءتي للرسالة التي ملكني فيها أسلوبك وحسن دعابتك الأدبية ووفرة إطلاعك. وأرجو أن تتقبلني صديقا، واسمح لي أن أزورك في الأيام القابلة). وزارني فعلا، ولما تبدل الوضع السياسي بعد عبد الكريم قاسم قاطعني مقاطعة نهائية، جزاه الله خيرا.
إني أشعر بالإرهاق، ولا يجديني أن أتذمر، حاجة العيال فوق طاقة الراتب، والاستدانة ليست بالنسبة لي أمرا سهلا، خصوصا وإن ابني يعيش في الكلية على حسابي. والآخرون الذين هم مستمرون في الدراسة الابتدائية والثانوية، هم أيضا يكلفونني حقا. ولكن علمتهم الصبر مثلي، وقد وصلت أموري إلى حد لم نتمكن على أكثر من تقديم الشاي اداما للخبز لا غير. قالت إحدى الصغيرات مازحة وهي تمضغ الخبز مع جرعة الشاي: (الدجاج المشوي لذيذ يا بابا!؟ سآكل منه اليوم أكثر من كل لون آخر!). شكرت ربي أن يكون أطفالي مبتشرين إلى هذا الحد.
ومع كل هذا لم أتردد عن مشاركة المدرسة في سفرة إلى الأخيضر. الأماكن الأثرية والتعرف على كل بلد من موطني "العراق" إحدى هواياتي، ولكن ما باليد حيلة، إني أحرم نفسي من كثير من هواياتها وملذاتها من أجل تيسير العيش والدراسة لأبنائي وبناتي. وإني أحس بلوعة إذ أسمع أحد برامج الإذاعة، مذيع البرامج يردد: معامل، جسور، مدارس الخ فيعلق معلم الرياضة حمادة ختلان: مواقف، سجون، غلاء. لا بأس لكل شيء نهاية وحدود.