خواطــر

 

الأم الدفينة

هبة الصافي / السماوة

2/7/2005

hiba2005sy@yahoo.com


الآن نفضتُ يدي من تراب قبركِ يا أُمي وعدتُ الى منزلي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب، لا أملك ألأّ دمعة لا أستطيع أرسالها، وزفرة لا أستطيع تصعيدها.
ذلك لأن الله الذي كتب لي في لوح مقاديره هذا الشقاء في أمركِ فرزقني بكِ قبل أن أسألهُ أياكِ، ثم أستلبنيك قبل أن أستعفيه منك، قد أراد أن يتمم قضاءهُ فيَّ، وأن يجرعني الكأس حتى ثمالتها، فحرمني حتى دمعة أرسلها أو زفرة أصعدها، حتى لا أجد في هذه و لا تلك ما أتفرج به مما أنا فيه، فلهُ الحمد راضياً وغاضباً، وله الثناء منعماً وسالباً، وله ما يشاء من الرضا بقضاءه والصبر على بلائهِ رأيتكِ يا أُمي في فراشُكِ عليلةً فجزعت ثم خفت عليك الموت ففزعت وكأنما كان يخيل اليَّ أن الموت والحياة شأن من شؤون الناس وعمل من الأعمال التي تملكها أيديهم.
فأستشرت الطبيب في أمرُكِ فكتب لي الدواء. ووعدني بالشفاء. فجلست بجانبك أصب في فمك ذلك السائل الأصفر قطرة قطرة، والقدر ينتزع من جنبيكِ الحياة قطعة قطعة، حتى نظرت فأذا أنت بين يدي جثة باردة لا حراك بها وإذا قارورة الدواء لا تزال في يدي فعلمت إني قد ثكلتكِ، وأن الأمر أمر القضاء. لا أمر الدواء.
سأنام يا أُمي بعد قليل على فراش مثل فراشك. وسيعالج مني المقدار ما عالج منك. وأحسب أن آخر ما سيبقى في ذاكرتي في تلك الساعة من شؤون الحياة وأطوارها. وخطوبها وأحداثها : هو الندم العظيم الذي لا أزال أُكابد ألمهُ على تلك الجرع المريرة التي كنت أُجرُعُكِ إياها بيدي وأنت تجودي بنفسك فيربد وجهك وتختلج أعضاؤكِ. وتدمع عيناكِ وما لكِ يد فتستطيعين أن تمديها اليَّ لتدفعيني عنك. و لا لسان فتستطيعين أن تشكين اليَّ مرارة ما تتذوقين لقد كان خيراً لي ولك يا أُمي أن أُكل الى الله أمرك في شفائك ومرضك. وحياتك وموتك. والا يكون آخر عهدك بي يوم وداعك لهذهِ الدنيا تلك الآلآم التي أجشمُكِ إياها.فلقد أصبحت أعتقد إنني كنت عوناً للقضاء عليكِ.
وأن كأس المنية التي كان يحملها لك القدر في يده لم تكن أمرُّ مذاقاً في فمك من قارورة الدواء التي كنت أحملها لك في يدي.
ما اسمج وجه الحياة من بعدُكِ يا أُمي.وما أقبح صورة هذه الكائنات في نظري. وما أشد ظلمة البيت الذي أسكنه بعد فُراقكِ أياه.
فلقد كنتِ تُطلعين في أرجائهِ شمساً مشرقة تُضيء لي كل شيء فيه. أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثر مما ترى عينك الأن في ظلمات قبرك.
بكى الباكون والباكيات عليك ما شاؤا. وتفجعوا ما تفجعوا حتى إذا أستنفدوا ماء شؤونهم.
وضعفت قواهم عن أحتمال أكثر مما أحتملوا. لجاؤا الى مضاجعهم فسكنوا اليها. ولم يبق ساهراً في ظلمة هذا الليل وسكونه غير عينين قريحتين.
عين أبنتُكِ الثاكلة المسكينة وعين أخرى أنت تعلميها. لقد طال عليَّ الليل حتى مللته.ولكنني لا أسأل الله أن ينفرج لي سواده عن بياض النهار، لأن الفجيعة التي فجعتها بفقدكِ لم تُبقِ بين جنبي بقية أقوى بها على رؤية أثر حياتك فليت الليل باقِ حتى لا أرى وجه النهار. بل ليت النهار يأتي. فقد مللت هذا الظلام.
دفنتكِ اليوم يا أُمي ودفنوا أباكِ وعمكِ من قبلك ودفنوا من قبلكما أختي فأنا في كل يوم أستقبل زائراً جديداً. وأُودع ضيفاً راحلاً فيا لله لقلب قد لاقى فوق ما تلاقي القلوب وأحتمل فوق ما تحتمل من فوادح الخطوب.
لقد أفتلذ كل منكم يا أُمي من كبدي فلذة فأصبحت هذه الكبد الخرقاء مزقاً مبعثرة في زوايا القبور. ولم يبقَ لي منها إلا دماء قليل لا أحسبه باقياً على الدهر. ولا أحسب الدهر تاركه دون أن يذهب بهِ كما ذهب بأخواته من قبل.
لماذا ذهبتم يا أُمي بعدما جئتم ؟ ولماذا جئتم أن كنتم تعلمون أنكم لا تقيمون ؟ لولا مجيئكم ما أسفت على خلو يدي منكم لأنني ما تعودت أن تمتدَّ عيني الى ما ليس في يدي، واو إنكم بقيتم بعد ما جئتم ما تجرعت هذه الكأس المريرة في سبيلكم.
لقد كنت أرضى من الدهر في أمركم أن يتزحزح لي عن طريقي التي اسير فيها. وأن يزوي وجهه عني فلا أراه ولا يراني ولا يحسن اليَّ ولا يسيء ولا يتقدم إليَّ بخير أو شر. ولا يتراءى لي مبتسماً. ولا مقطباً ولا ضاحكاً ولا باكياً. لو أنه رضي مني بذلك، ولكنه كان أذكى قلباً، وانفذ بصراً، من أن يفوته العلم بأنني ما كنت أبكي على النعمة لو لم تكوني في يدي. وما كنت أجد مرارة فقدانها لو لم أذق حلاوة وجدانها وكان لا بد له أن يجري في سنة الشقاء التي أخذ على نفسه أن يجريها في الناس جميعا فلما عجز عن أن يدخل ألي من باب الطمع، دخل ألي من باب الأمل فهو يمنحني المنحة فأغتبط بها حقبة من الدهر، حتى إذا علم بذرة الأمل التي غرسها في نفسي قد نمت وأزدهرت، وأنني قد أستعذبت طعمها وأستطبت مذاقها، كرَّعلي فأنتزعها من يدي أنعم ما أكون بها، كما تنتزع الكأس الباردة من يد الظاميء الهيمان ليعظم وقع السهم في كبدي، ويفدح سلب النعمة من يدي، ولولا ذلك ما نال مني منالاً، ولا وجد ألي سبيلاً.
يا أُمي أن قدر الله لكم أن تتلاقوا في روضة من رياض الجنة، او على شاطيء غدير من غدرانها، أو تحت ظلال قصر من قصورها، فأذكروني مثل ما اذكركم، وقفوا بين يدي ربكم صفاً واحداً كما يقف بين يديه المصلون ومدوا اليه أكفكم كما يمدها السائلون وقولوا له : اللهم أنك تعلم أن هذه البنت المسكينة كانت تحبنا وكنا نحبها، وقد فرقت الأيام بيننا وبينها، فهي لا تزال تلاقي بعدنا من شقاء الحياة وبأسائها ما لا طاقة لها بأحتماله، ولا نزال نجد بين جوانحنا من الوجد بها، والحنين اليها،ما ينغص علينا هناء هذه النعمة التي ننعم بها في جوارك بين سمعك وبصرك، وأنت أرحم بنا وبها من أن تعذبنا عذاباً كثيراً، فأما أن تأخذنا اليها أو تأتي بها الينا، لا،بل لا تطلبوا منه الا أن يأتي بي اليكم،فأن الحياة التي كرهتها لنفسي لا أرضاها لكم فعسى أن يستجيب الله من دعائكم ما لم يستجيب من دعائي فيرفع هذا الستار المسبل بيني وبينكم فنلتقي كما كنا.


 



 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com