|
خواطــر خريف 2003 أمير عبد الحسين الخفاجي العراق / ذي قار / قضاء الرفاعي ameeer00kafaji@yahoo.co.uk
أيتها الشجرة المسكينة .. لقد ذهبت بك المذاهب .. وفتنك الغرور .. فاتك أن كل شيء إلى أفول وزوال .. صحيح أن مفاتنك طالما أغرت الرسامين والشعراء والعاشقين .. وشعرك طالما كان وطنا للعصافير.. وعينيك الجميلتين اللتين ترقبان السماء ؛ لتبعث قطرات الندى يغسل شعرك المتدلي على كتفيك كانتا مدعاة للأمل .. ما جعل العاشقين يجلسان تحت ظلك الرحيم .. مذ يلوح وجه الشمس في الأفق ، حتى يودعانها عند الغروب .. وما زالا كذلك ، حتى تلتف عليهما اذرع النعاس ، ويأسرهما ملك النوم .. فيروحان في سبات عميق .. صحيح ان تلك الوجنتين الصافيتين ، قد اضفى عليهما التفاح الاحمر لون الخجل الانثوي المفترش على خدك الاسيل ، المنحني كنصف قوس متكامل ، مفرط في التأثير.. وهذا ما دفع الربيع ليكتوي بنارك اللاهبة ، وصار همه الوحيد ان يعلق اضوية العيد على شعرك الذي اخفى وراءه كتفا عاجيا ممتلئا بالذكريات الوردية .. لتتوجي سيدة جمال العام 2003 .. لكنه لم يلق منك الا الصد المتواصل من حين الى حين .. فاخذ يجوب الشوارع ، في تلك الازقة القديمة .. وعيونه مشدودة الى تلك الشناشيل المعلقة في اعالي المنازل المتداعية الى السقوط .. ؛ عسى ان يلمح ذلك الجمال الملكوتي الرائع ، واقفا على احد النوافذ .. يوزع ابتساماته على اولئك العشاق البؤساء ، والمعذبين في الارض ؛ اللذين تُحييهم نظرة ، وتقتلهم نظرات ، وهو يستعطف الدموع ، ويستجدي الحنين ، فعاد محملا باليأس المتلاطم الامواج ، ليخاطب دموعه قائلا: (( ان العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا )) ولكنه لا يسمع غير صدى صوته المرتد ، المتقطع ، حتى اصبح لا يقوى على الاستمرار في هذه المأساة الكلاسيكية .. فجلس ليستريح على رمال الشاطي ، ولم يعطف عليه سوى انشد الشعر الذي كانت له مقدرة الطبيب على العلاج ، والسحر على الخداع ، والفيلسوف على الاقناع ، وقوة اصف بن برخيا على جلب عرش بلقيس.. فينشد دونما وعي : عيناك غابتا نخيل ساعة السحر او شرفتان راح يناى عنهما القمر ولا يجيبه احد ، فضلا عن ان يسمعه احد .. وهذا اصدق تعبير عن الاحساس الداخلي المرهف ، لصبٍ ولهانٍ .. فعلم الجميع بحاله وان ذلك بسبب الشجرة المغرورة بجمال منظرها ، وسمتري جسمها الثلاثي الابعاد .. وما لها من تناسق دونما فطور ، وتوازن دونما تفاوت ؛ حتى لو كررنا البصر مرات ومرات .. فتمرست على اذلال العاشقين ، فكم كانت تتنهد احيانا وتقول : ايتها العيون المحدقة نحوي ، والنفوس المشحونة لمسكي ، والغائصين لصيدي .. هل يكون الربيع كفؤا لي ؟!! ذلك الفصل الربيع الانتقالي القصير .. هل له فضل عليَّ انا ؟ لا ، والف لا ، فليس هو ، بل السماء من وهبني الجمال ، ليس هو ، بل هي من اعطتني قطرات الندى المتجمع على اوراق شعري .. انها هي ، من يهبني هذا اللون الاخضر المتلاليء ..انها هي ، من خالط ماؤها رحم امي - الارض - لتودع فيه البذرة التي منها اتيت الى عالم الزمكان .. فان فكرت يوما ان اقابل الاحسان بالاحسان ، فمالي والربيع .. انها امي الحنونة ، التي مازالت وشائجي غائرة في احشائها ، لتعطيني ما شاءت السماء.. بعد ان انتهت من حديثها ، كان على الضمير الاخضر المودع في قلب البساتين ان يتحدث .. وتحدث أخيرا قائلا : (( اسمعي .. ما دام في المعادلة (الاجتماعية) عنصر مجهول ، فان الغرور نذير شؤم يهدد حديقة الازهار كلها .. وقد يؤدي إلى إتلاف البستان بأكمله ، فتهلك حشائش الاستبس الصغيرة وتتلوى معدة الارض ، ويصاب عباد الشمس بالعمى ، ولن يخلع مالك الحزين ثوبه الاسود الى الابد ، ويحترق التراب ، فتحترق معه ازهار الدفلى ، وتحزن طيور الحب ، ويتيه العاشقان ، فيغادروا بحثا عن المكان البديل ، فنار التوهان اشد من نار العشق نفسه ، وان كان الاخير توهان اخر .. آه عليك ايتها المغرورة المسكينة.. ليتك تعلمين .. ولسوف تندمين.. )) . وبينا هي على هذا الحال .. في سبات الخيال ، ، تفترش الجمال ارضا ، والغرور سقفا ، غاب عنها ما سيؤول بها المآل ، ولم تدر ان الدنيا تغير الخلق من حال الى حال .. حتى جاءها سهم خريفي لدود ، عابر للبساتين ، من وراء البحار البعيدة ، مثلث ذو ثلاث شعب ، صنعته احدث مصانع الاذلال الغربية بمساعدة البساتين العربية المتواطئة ، وخصصته ليحز ذلك العنق المتلاليء الطويل الجميل ، في ليل الدجى ، بعد غياب الاصيل ... كان ثلاثيا ؛ لانه يحمل ثلاث رسائل من تلك الفصول المتحالفة الثلاثة : الخريف ، وخادميه : الشتاء (الابن المدلل) ، والصيف (المنتن القاتل ) ، اللذين ما فتئا يمدان الخريف بالصقيع تارة ، والهجير اخرى .. لكنها كانت تمشي امامهم بدلع واستخفاف واستهتار، وتملا اذانهم اصوات الموسيقى الصادرة من خلخال رجليها الناصعتي البياض ، دون ان تلمس فيهم تلك الرغبة السادزمية العارمة ، التي تعتمد التعذيب اساسا للتلذذ .. ، فانقسم السهم الى ثلاثة محاور : الاول يغتصب الشجرة ، والثاني يستولي على البستان ، اما الثالث - الاشد خطرا - لانه سيكون بوابا للبستان ؛ ليتسنى له ادخال جميلاتهم ، وعشاقهم ، وكل اتباعهم ، وينقلوا آيكولوجيتهم - طبائع مجتمعهم - لتحلوا محل جميلات ، وعشاق ، وكل اتباع ، وايكولوجية هذا البستان . (( آه ، ايتها الشجرة .. ليتك لم تولدي .. فكل هذا بسببك انت .. لو لم تتعري امام الجميع ، لما جذبتهم الى ذلك البستان ، محملين بالعاهات والعلل التي لا مجال للخلاص منها في ظروف البستان الحالية.. لو انك قبلت بالربيع زوجا ، كان خيرا لك من هذه النهاية الفاضحة .. ولم يجري ما جرى ..)) فبعد ان اصابها ذلك السهم ، جاء الخريف بنفسه ، ولعابه يسيل على فكه السفلي ، كان وجهه يشبه دراكولا الذي يقتل الجميلات ويمص دماءها .. واللون القرمزي لعينيه ينذر برعب يصعب ان تصفه الكلمات .. (( من انتي امامه ؟ وما عساك تفعلين؟ لست سوى سندريلا بائسة ، اضاعت فرصة العمر لتخلصها من زوجة ابيها الشريرة وتصبح اميرة ، وما ان دخلت قصر الامير ، ذلك العالم الغريب ، حتى تلاشى شعورك لديها ولم تستفق الا حين شعرت بلمسة يده تمتد اليها ، قائلا : اقبلي ايتها اميرة ، فلما تلاقت الايادي اعتراها ذوبان جديد ، ولم تكد تصدق مايحدث ، فتنهدت لتبدي استعدادها للرقصة الملكية ، وتهاوت على اسطوانة الانغام الكلاسيكية المغرية ، تنقلها الى واقع غيبي اخر لتتلاشى لديها دائرة الشعور مرة اخرى واستفاقت ، وليتها لم تستفق هذه المرة ، فلقد اذن مؤذن القصر بحلول منتصف الليل .. وهل يجديك الركض والاسراع ؟ وهل تقوين على ذلك بعد تعبت ساقاك من الرقص الملكي المتواصل ؟ لكنها ركضت .. (( ما اضيق العيش لولا فسحة الامل )).. ليتك حافظت على ذلك الحذاء الاسطوري كي لا تنقلب الدنيا بخطا صغير واحد لا يرحم .. جعلك تخلعين لقب الاميرة ، لتعودي الى لقب الخادمة الفقيرة .. وقف خريف 2003 امامك .. وتامل طويلا وكانه في تنقيب اثري .. كي لا يشتبه فيك .. صمت الرهيب علا وجوه الساكنين في البستان ، رجع الخريف الى الوراء قليلا ، ليطلق ضحكات هستيرية قوية تهزه من الاعماق ، وهو يصرخ باعلى صوته قائلا : (( ليت الاجداد بعثوا الساعة من الاجداث.. وليت السلف يرى ما فعل الخلف .. انني اعتبرني ولدت اليوم .. فلقد تحقق الحلم .. لم يكن ماثيولوجيا - اسطويا - ولا من الفكشنات – القصص - الخيالية ، كما كنت اتصور ، ولم يخب ذلك النقش الموجود على قيراط الإله المعلق في أذني ، والذي اهداه راهب الدير الى جدنا الاكبر ، ليحتفظ به ، ولايفقده ابدا ؛كي لا يخر عليهم السقف من فوق ، لقد كتب عليه - مثلما كتب على باب كل بستان هناك: عرشك يا بنت الرب من هذا البستان الى المعابد النيل المطرزة بالكتابة الهيروغليفية ، وحينئذ ستفتح الفردوس ابوابها ؛ ليدخل فيها الخريف الذي اختارته من بين كل الفصول ؛ ليكون : (فصل السماء المختار) .. يا اشجار البستان المغلوب على امرها ، اقسم بكل الالهة المقدسة ، بعد ان اخلصكم من هذه الشجرة المغرورة ، ساجعل هذه التربة ذهبا ، بل ساجعل البستان كله قطعة من قطع الفردوس الاعلى ، ولن نفقده كما فقدها ابونا ادم ، بسبب هذه المغرورة ، انا اريد ان استعيد شرف امنا حواء ، حينما نزلت عارية من السماء ، لترقع جسمها العاري من اوراق هذه المغرورة)). صفق الجميع للخريف ، واخذت الازهار تقص من شعرها وترميه تحت اقدامه ، ودودة القز تنسج له بيتا من الحرير ، ويطعمه النحل عسلا مصفى ، فكيف لا ينتفخ ريش صدره ، ويستقوي على الشجرة ، لقد مسكها بذراعيه ورماها الى صدره بكل قوة وقسوة ، ليعصرها عصرة ، اقلعتها من رحم الارض ، فشهقت شهقة ارتعشت من هولها جذوع النخيل الضخمة ، شهقة تنبعث منها رائحة قدوم حياة جديدة .. ماؤها (( لا بارد ولا كريم )).. وبعد ان تعبت من العت المتكرر.. حتى مزق قطعة القماش التي كانت ترتديها .. أخذت أصابعه المتعجرفة تعبث بشعرها.. نزلت أصابعه شيئا فشيئا .. ولم يراع فيها إلّاً ولا ذمة .. وما زال كذلك ..حتى هجمت عليها عناكب الظلام ؛ لتكشر عن ليل داج لا فرار منه ، فاستسلمت لظلم القدر ، وغارت في نوم عميق.. وما إن نادى عليها ديك الصباح لترى حالها الجديد .. لم تكد السماء كما كانت .. والأرض كما كانت .. صرخت بكل ما بقى فيها من قوة .. صرخة التوديع والرحيل الى العالم السرمدي .. قائلة : (( لا تغب يا بدر .. لا تغوري يا نجوم .. لا تشرقي يا شمس .. ألا يا أيها الليل الطويل - لا تنجلي - ابقوا معي .. لا ترحلوا .. لكي لا ينقلب الكون .. ويفضحني وجه النهار..)) .. واستمرت تصرخ وتنادي .. ولكن صوتها يضعف في كل مرة ، حتى غاب بالمرة ، وانطفأ النور بعينيها .. حينما غابت عن هذا العالم .. لتعانق الأشجار البرزخية ، في ذلك البستان الأبدي .. لقد فضحك الليل قبل النهار .. ومحى اليوم ماكان بالأمس .. فلا شعر كالليل ، ولا خد أسيل ، ولا خصر جميل ، .. ولا ألوان ناصعة .. ولا ثمار يانعة .. تركك العاشقان ، فلا ظل يستظلون تحته .. وغادرت الطيور أعشاشها ، وغادر الشعراء – مثلما غادرت الطيور - ولم تعد السماء ترسل الندى.. ولم يبق قربك إلا ذلك الرسام .. فقد وجد فيك مادة للإبداع ، من خلال التقاسيم الفنية الرائعة للنحت والتخطيط .. هل تذكرين .. ماذا حل بآدم وبزوجته حواء ع ، عندما تناولا منك شيئا؟ لقد ((قيل - لهما - اهبطوا منها جميعا)) فنزلا حفاة عراة .. لكن الدنيا تدور.. فلقد وجداك وقد ملأ شعرك الدنيا ، وكسا الأرض حلة صفراء .. فاقتربا منك ، ( وأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة ). فليتهما فعلا بك ما فعل الخريف ، وليت الخريف فعل بك ما فعلا .
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |