خواطــر

رسولٌ .. أو كادَ أنْ يكون

 

 أمير عبد الحسين الخفاجي

 العراق / ذي قار / قضاء الرفاعي

 

 لطالما بكيتُ منهم .. وخفتُ منهم .. ولما فارقتُهم ، بكيتُ عليهم .. وفات الأوان أنْ أخافَ عليهم ..

رايته في أحد الأيام ، قاصدا محلا لبيع الأدوية في قضاء الرفاعي .. بيده وصفة طبية يطلب بها علاجا لما حل به من داء..

كانت شرايين اليد الدقيقة واضحة جدا ، وكانت الورقة تناغم رجفة يده الهزيلة .. أما الأصابع فكانت نحيفة جدا تشبه سيقان النباتات الجافة .. وقد لف قدميه بذلك الحذاء الممزق الذي بانت مقدمة اصابعه من خلال التمزق الموجود في مقدمتة ، غطتهما خيوط اطراف ذيل بنطاله ، والتي انتشرت بالتساوي على جميع اطراف الحذاء .. فبدات ارع نظري شيئا فشيئا ، حتى وقع بصري على وجه كان غاية في الذبول .. حتى لفني الخوف وأعياني الذهول .. أصابتني قشعريرة لما رأيت من ضعف هذا الرجل العجوز .. لم يبق في العينين سوى لون السماء .. واخذ لجحوظ يدكهما دكا .. وهاجر ماؤهما إلى الأبد .. الوجنتان تشرحان مآرب الزمن .. أما الجبين ، فقد شققته مخالب الجفاف لتحدث فيه تقاسيم كبيرة تعرق حتى في الشتاء القارص .. وانفه المطعج الملتوي جعل الشعر النابت في منخريه يتعدى حدوده ليمازج شاربه الطويل ..

الشفتان الذابتان مزقتهما رياح السموم .. فجعلت طبقاتهما تتقشر حتى النهاية .. والصيهود قد نفى الرطوبة فيهما عن بكرة ابيها ، ليستبدل الجفاف بالطراوة ، واللون لرمادي المصفر باللون الوردي المحمر ..

وكانتا ترتجفان كالسنابل وسط ريح هوجاء .. والشعر الكثيف تدلى على سترته التي فقدت لونها بفعل هجير الصيف وحرارة الشمس اللاهبة ..

كثافة الشعر واللحية الكثة تخبران السائل عنهما ، بان صاحبهما قد أودى البين بحاله .. وفر ق بينه وبين عياله وسلط الدهر ما شاء على أمواله .. وكان مهمة الدهر ان يذله ويخضعه يوما بعد يوم .. فتلاشت فيه الحواس التي تميز انقائض عن بعضها البعض .. فاستوى عنده الجمال وعدمه .. والاناقة وعدمها .. ولا فرق عنده بين برد الشتاء وحر الصيف .. الحلاوة والمرارة .. والطعام الجديد والقديم ..

لكن اغريب في هذا الغريب .. ان ادهر قد استنفذ دمه الشريف وابى هذا الشريف ان يستنزف دم غيره كالبعوضة الهائجة .. ابى الا ان يكون هو ، لا غيرَهُ .. ورفض ان يكون غيرُه هو ..

هذا الكبرياء الذي اكتنزه تحته سنين طويلة .. جعله يدفع ثمنه غاليا ، نقدا ، وبالعملة الصعبة أيضا..

لم يعتد ان يخفي كبرياءه تحته .. بل اعتاد أن لا يشرحه للآخرين ، بموقف وبآخر .. عرفت ذلك حينما مر ّمن خلفه شحاذا يسال العطاء .. فاخذ يردد :

لا تسقني كاس الحياة بذلة بل اسقني بالعز كاس الحنظل

ولما سمع شخصا يجادل آخر ويفاخره قائلا له :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المفاخر

فانتفض عليه هما وقال لهما تتفاخران بأصليكما وتنسيان نفسيكما !!؟ .. فأين أنتما عن متنبي الدهر ، حيث يقول :

فاطلب العز في لظى وذر الذلّ ولو كان في جنان الخلود

ما شرفت بقومي بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي

اقسم صادقا ، لقد شدني المنطق الرهيب ، الذي خرج بأنفاس مقطعة امتزجت بالسعال المتكرر .. أحسست عن بعد بحشرجة صدره الملآن ألما وحسرة .. ومرضا وقسرة ..

فقلت في نفسي : أي والله لقد صدقت قولا وقلت عدلا .. فالإنسان لا يساوي شيئا بلا كرامة وما اتعس الواقفين على أبواب الناس يستجلبونهم فتات العطاء .. فرجعت إلى عينيه ادقق جيدا ؛ فان العينين اصدق الحواس تعبيرا ن الداخل .. فيما اذا خرس السان او اعيي عن البيان ..

نظرت بعينين بصيرتين .. فانتابني شيء غريب .. فقبضت على لحيتي ، احدث نفسي قائلا :

** هذا الوجه .. كأني اعرفه !! نعم ، هذا الوجه ، كاني اعرفه!!.. اعرفه!! .. اعرفه !!

لكن .. أين؟؟ .. متى ؟؟ لا ادري .. لا ادري ..

بقيت أتأمل بعينيه ، واقلب صفحات ذاكرتي باهتمام شديد ، وكأن الأمر يخصني بالذات .. ويتعلق بي في الصميم ، وفجأة ، بينما أنا كذلك ، أصابتني هزة عجيبة , وحالة غريبة , نهضت لاقف على قدمي بلا شعور ، وبدأت أحدق به بصورة ، ملفتتة للنظر ومثيرة للاهتمام ، أحسست أن عيني ستخرجان من مكانهما لتهرعان إليه وتلتصقان به .. وقد أنشدت أعصابي ، وبدأت يدي اليمنى تقترب من صدري منقبضة الأصابع ما عدا إصبعي الذي اخذ يشير إلى ذلك الوجه ..

** هذا الوجه!! .. نعم ، انه هو!!.. هو بعينه ، ذاك الوجه ، الذي لم يفارق مخيلتي ابدا .. انه هو ، انا اعرفه .. نعم ، انا اعرفه ، اعرفه ، عرفه ..

اتعدت رائصي ، ولم تحملني قدماي ، فهويت على لكرسي وكاني سقطت من شاهق مرتفع جدا الى اسفل نقطة في الارض .. ولم تفارق عيناي عينيه اثناء سقوطي على الكرسي ..

اطرقت برأسي الى الارض ، وهمهمت في نفسي ، أهملت عيناي بهدوء وانقباض نفسي كبيرين .. الخجل المسيطر، والدمع الدافي الحزين ، لم يتركا لي فرصة للنظر اليه .. فأخذت اغلق عيني بين الحين والاخر، فلم أستطع مسحهما باليدين اللتين أصبحتُ لا اشعر بهما وكأنهما لم يخلقا لي صلا أو انهما شلتا بالمرة ، وحتى عندما انجح في إزالة الدمع عن عيوني فلم اعد أرى سوى أرضية محل الأدوية ، وحذاءه الممزق.. لم اعرف طريقا للسيطرة على رعشة جسمي ، ولا ما ألم بي في تلك اللحظة ، ، لقد دارت ي لدنيا بأقصى سرعة لترعني إلى أيام الطفولة .. حينما كان ياتي الى المدرسة قبل موعده المقرر .. لم يتأخر لحظة يوما أبدا .. ولم نلق عليه الحجة يوما ، بل كان يسبلق الزمن وكانه كان ياتي على بساط الريح .. وما ان نلمحه يدخل من ياب المدرسة حتى نفر من امام عينيه فرارنا من الليث ، حتى يستقر إلى غرفة الإدارة ، اتي كانت كعرين الاسد ، لا يمر من امامها احد منا ، فضلا عن ان يدخلها احد منا ..

ومع اننا كنا نلهو ونلعب في الساحة – وهذه سجية الطفولة الطبيعية والمنشودة اصلا – الا ان جرس الاصطفاف كان اشبه ببوق او صور ينفخ فيه ليبعث من في الساحة او الصفوف .. الى مكان اصطفافهم ينسلون .. وفي اماكنهم يقفون .. فجاء المعلم والطلبة صفا صفا .. لا يتكلمون الا من اذن له المعلم وقال صوابا .. ذلك يوم الخميس .. يوم الحساب .. يوم ثواب الطلبة الجيدين ، وعقاب الكسالى والسيئين .. فيشق الصفوف الجامدة كالجدران الواقفة وكان على رؤوسهم الطير .. لا تتحرك منه سوى العينين ، وقد لا تتحركان احيانا ..

لحظات وجيزة ، تسفر عن بدء مراسيم رعة العلم العراقي الاصيل ليعرج الى عنان اسماء .. يسلم على الجميع ، ويسلم الجميع عليه .. يدعون له ان يعيش هكذا في علو دائم بالكبرياء والزهو والبهاء .. بغض النظر عن معرفة جميع الواقفين امامه بقيمته او مدلوله الوطني الاصيل ..

لسنا الوحيدين الذين نراه او نراقب لحظة ارتفاعه .. كلا .. فلقد كان الناس خارج المدرسة ينظرون اليه .. وهو يرتفع شيئا فشيئا .. حتى يتجاوز سياج المدرسة ليحييهم تحية الوطن الحيب الغالي ونحييه نحن ايضا تحية خاصة تليق به وترفع من مقامه .. وان كانت مسامعنا لتسطك من سماع الاطلاقات النارية اتي تخرج تحية للعلم حال قلوعة من الارض ..

كل ذلك كان بحظورك سيدي .. لقد كنت ماضيا بكامله ، فكيف لا تكون حاضرا بكامله ومستقبلا بكامله .. إذن ، فأنت تاريخ بكامله ..

حاولت عبثا أن اكتم نشيج صبابتي بداخلي فلم استطع شيئا حيال ذلك ، وجاهدت نفسي أن لا تنزل مني دمعة لتفضحني أمامه ، لكنها لم تستجب لي ، ونزلت رغما عني ، أحس بذلك .. فبادلني بشعور مماثل ، ولعله اعتاد على مماثلة مثل هذا الشعور ..

لقد زاد في يقيني ان الدنيا تدور باهلها ، ولا تبقيهم على حال ابدا .. فخرجت من المحل ، غضبان اسفا .. اريد ان اكسر الالواح .. التي نصنعها بايدينا ، وهي لا تضر ولا تنفع ، نزيد في رفع شانها ، وهي تزيد من تقليل شاننا بين ارباب العقول وذوي النهى ..

رمقت السماء بطرفي والدمع يلاعبه الهواء ، حملا قطراته إلى الوراء . وخاطبتها قائلا :

أيتها السماء .. أنت تعلمين أن الماثل أمام محل الأدوية صنع التاريخ بأنامل من تراب ، وأحرف من نور ..

أليس هو الذي قيل فيه :" كاد المعلم أن يكون رسولا " .. فيا للسماء !! مثلكَ يشيب ؟!! .. أم مثلكَ يغرق في يبحر الفقر .. وتيارات اللامواصلة الاجتماعية ؟!! .. قالت : " وهل يخفى القمر!!؟ " أجبتها : " نعَمٌ ، فقد خفِيَ القمر".

ما اقساك أيها القدر ؟! .. أما بقي فيك برعم لم ينمو بعد . من براعم الحب الإنساني ؟! ..

وأنت أيتها الأرض .. أما بقي في ضرعك قطرة اسقيها لهذا الرسول كي يبعث من جديد ، ويمارس عمله المتجدد كل حين ؛ (يبني ونشا انفسا وعقولا )؟!!

وأنت أيتها الشمس . أما كان بالإمكان أن يتعطل قانون الإحراق ؛ لكي لا تفعلي بِبَشَرَتِهِ ما فعلْتِ ؟!

أما والله .. اني لاقسم بالقلم ، وقطعة الطباشير ، والسبورة ، والرحلة .. أن الأقلام لن توفيك حقك مهما كتبت ، وأنها لن تنقص من شانك ، مهما كتبت ، أنت المسيطر على القلوب ، والأذهان .. فسلام عليك وعلى أمم من قبلك ومن بعدك .. مخلصة لهدفها الحقيقي .. وهنيئا لكم الجنة .. ادخلوها بسلام آمنين .. وما زال عملكم يؤتي أكله كل حين بإذن ربه .. له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم واليه ترجعون ..

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com