خواطـر

ذكرى

بقلم: خالد استوتي

لأول مرة اشرب فيها فنجان قهوة من دون سكر.. ولا حتى قطعة سكر، فنجان قهوة صغير يكفي لأن يقلب كل الأشياء.

"ما أجمل التغير " عبارة بسيطة جميلة وأيضا مستفزة، الكل يريد التغيير، تغيير سيارة لمن لديه أو تغيير أثاث المنزل وربما ألوان الجدار وواجهة المنزل..

الكل يريد التغيير، تغيير لون الشعر وعدسات العيون، تغيير كل شيء وأي شيء..

لكن الذكريات وحدها لاتتغير بحلوها ومرها تبقى جميلة لذيذة

شريط الذكريات والأحداث الماضية لا لون له، نتذكر الأحداث والأشخاص دون أن نهتم بألوانهم ولا حتى أسمائهم..أغمض عيني وأحاول أتذكر بعض الأشخاص، لكن أتذكرهم بلا ألوان ، فربما للذاكرة عين غير التي نرى بها.

التغيير شيء جميل .

كل الشوارع تعرفنا ، كل الأزقة التي مررنا منها، لم نترك مكانا إلا وتركنا فيه بعض آثارنا.أفراحنا وأحزاننا

- رجاء ابتعدي قليلا ولا تمسكي ذراعي.

دون رد تكتفين بالنظر في عيوني،

لاتحضني ذراعي أمام الناس

فتضحكين

"ما أجمل التغيير"

ما أجمل هذه المقهى خارج المدينة، كأنها معرض أو متحف

لا أعرف أين نجلس، اختاري أنت المكان، أي طاولة بعيدة عن أفعال العشاق.وعن عيون الناس..

يتقدم النادل بأدب ولطف مشيرا إلى طاول شاغرة لمن يريد الاختلاء.نأخذ مكاننا ببساطة دون تكلف

ماذا تشربي؟

قهوة بحليب

فنجاني قهوة بالحليب وقطعتي حلوى من اختيارك

يضرب النادل كعب حذاءه بالآخر وينصرف

- مار أيك في المكان؟ جيد أليس كذلك؟

- -اشتقت إليك،

- ماذا؟

- اشتقت إليك، وأنت؟

- تقولين اشتقت إلي بعد حولين،ألا تدرين؟ أجل لاتدرين أني اشتاق إليك.اشتاق إليك بعد رمش العين. اشتاق إليك وأنت معي وبالأحرى لما تغيبين

تنظرين في عيوني وتضحكين

- مجنون

- لن أرد عليك

يتقدم النادل بخفة محترف ويحط الفناجين والأطباق بانتظام وهدوء يغادر وكلمات الترحيب بالفرنسية..ودون اهتمام لما يقول انظر إلى اللوحات من حولي وألوان الجدران والأعمدة والنقوش

- ألم يكن من الأجدر أن يكون هذا المقهى متحفا أو معرضا، أم إن مقاهي العشاق أصبحت تنافس تلك الأماكن. أم أن الفن والجمال أضحى سلعة يعرض لمن يدفع أكثر وفي متناول أي كان.

- ماذا بك؟

- كنت أفكر في هذا المقهى وهذه اللوحات والرسوم.هل يبالي بها العشاق، أم أنهم منشغلون بمواضيعهم

- هل أنت بخير؟أراك على غير عادتك

- أنا بخير،لا شيء تغير.

- اشعر انك بعيد عني.. وميض عينيك قد انطفأ

- ماذا تقصدين؟

- هل كل شيء على مايرام؟

- ماذا هناك؟هل يبدو علي شيء ليس طبيعي؟

- هكذا اشعر

- وهل أنت مرتاحة في هذا المكان؟

- صراحة، لا.

- ولا أنا، هذه الرسوم والألوان وهذه الوجوه والمجاملات، أشعر أني في مسرحية لم أحفظ الدور فيها

- هل سنذهب؟

- لا ليس إلى هذا الحد، تناولي قهوتك أولا.

- كم قطعة سكر أضع لك؟ هل نسيت؟

- كي أتأكد فقط.

- إذن ولا قطعة

- ولما ؟

- حلاوة حبك تكفي. أقصد يكفي حلاوة الحلوى.

- مجنون.

- بحبك

- أحقا لا تضع السكر

- نعم، اقصد لا

- منذ متى؟ منذ عرفتك

- أنا أتحدث بجد، لكن لم تكن هكذا.

- نعم وكيف وجدتها؟من؟

- القهوة

- ظننتك تقصدين فتاة ما

- هل تفعلها؟

- ولما لا. وأنت

- أنا....

وتشربين شربة من فنجانك دون سكر

- أتدري أن الأيام تغير الإنسان، حتى أنا اشرب القهوة بدون سكر، كل هذه المدة كان بإمكاني أن افعلها، ربما لكنت الآن أما..لكني أحبك.

- مازلت بارعة في انتقاء التعابير ، يبدو أن الغربة علمتك الكثير

- بل تعليمك

- أنا ؟

- نعم أنت.أتصدق انك لم تفارق مخيلتي يوما واحدا.

- أحاول أن أصدق

- مازلت عنيدا كما كنت، لم تتغير

- وأنت صرت هادئة

- أتعرف ، أحن إلى الأيام الماضية

- نعم أنا أيضا.. أحداث مضت وذكريات باقية

- كأنها حدثت بالأمس

- لكنها سنة كاملة.. أصبحت أكثر هدوءا وتركيزا. كنت لاتتوقفين عن التهام الحلوى، أما عدت تحبينها أم أن الأيام كرهتك في كل الأشياء الحلوة

- ليس كذلك ، لكن انتظر أن تفعل كما كنت قبل سنة

- لازلت تذكرين، تشتين الحلوى وتنتظرين أن أطعمك. الا تشتهين شيئا آخر

- نعم. المشي تحت المطر، كما فعلنا أول مرة

- عندما صارحتك الهوى

- بل عندما حاصرتك بحبي

- الأمر سيان ،والموت واحد

- ماذا قلت؟ أتعتبر حبي موت

- لا تغضبي فالموت هو آخر شيء يختاره الإنسان، مثلما هو من الصعب أن يموت الإنسان، كذلك الحب.لايمكن أن نموت مرتين ولايمكن للقلب أن يحب مرتين، قد يغفو الإنسان قد ينام قد يغمى عيه وقد يسقط في غيبوبة قد تطول قد تقصر. لكن الموت هو الموت بعذابه وآلامه وحتى نشوته...

- صرت متشائما

- ربما صرت أكثر تعقلا

- كنت دائما أقول عنك أعقل الناس

- أنا

- نعم أنت ومن غيرك

- تبالغين، كيف كانت إقامتك في الغربة

- ليس الآن، سنتحدث عن ذلك فيما بعد

- هل كانت قاسية إلى هذه الدرجة

- وتتغرغر عيناك كما كانت قبل عام

- هذا معك فقط

- مثل هندي يقول : لاتكف المرأة عن الكلام إلا لتبكي

- ليس دائما. وان فعلت فمع من تحب

- ألم تكوني تبكين من قبل؟

- كنت افعل كثيرا قبل أن اخلد للنوم، انظر إلى صورتك، أتذكر كلامك وكل الذكريات، لم تفارق صورتك مخيلتي.وأنت

- كلما تذكرتك اشعر بغصة وألم . جاهدا حاولت أن أنساك، أن افر من الذكريات

- كنت اشعر بذلك في رسائلك، بين نقط الحذف التي تكثر منها، في أمثالك ونكتك وحتى أشعارك.كان حزنك باديا رغم عنادك

- إذن مازلت تفهمينني

- ربما أكثر من أي وقت مضى

- وبعدها

- بيدك القرار

- السماء تمطر في الخارج

- هذا أفضل

- لكنك ستتأخرين

- لايهم فأنا معك

- ستتبللين

- لايهم

- ستمرضين

- لأجلك

- مجنونة

- بحبك

- اشتقت لجنونك

- فقط

- ولحلاوة شفتيك

- لكن صرت اشرب القهوة من دون سكر

- إذن فلمرارة البن بين شفتيك. اشتقت إليك يا أعذب فتاة وأغرب فتاة

وتمدين يديك الدافئتين كحمامة بيضاء وتمسكين يدي وتهمسين

- حبيبي اخبرني ماذا هناك

انظر في عينيك كصبي أضاع أبويه فأشعر بشيء يتغرغر في عيوني أخاف أن ينفلت، أنا الذي في قمة حزني ابتسم لسخرية القدر، حتى يوم افترقنا وكنت أظنه الوداع الأخير ابتسمت. يومها كنت تتمنين أن احزن كي أمنحك فرصة تفجري فيها مخاوفك من مصير مجهول ومستقبل زاخر بالأحداث وعالم آخر بقدر ماتحلمين بولوجه تخافينه..وابتسم في وجهك كما كنت قبل عام

- لم تتغير

- ربما باستثناء شعري الذي يتساقط لاشيء تغير، نفس الجسد ونفس الجنون

- قصدت أن طبيعتك لم تتغير كتوم كعادتك، تجيد احتراف الصمت

- قولي الاحتراق في صمت

- نعم أنت كذلك

- لكل منا طريقته في الحياة، وللصمت أبعاد يحده الكلام..

- صرت تجعل الحدود بيننا

- كيف لا وقد أصبحت الحدود أكثر من ذي قبل

- وبعد

- تقولينها كمن ضاق صبرا من تصرفات شيخ عنيد مكابر

- لماذا تحاول استفزازي في الوقت الذي افعل فيه المستحيل لإرضائك

- اعرف ذلك، واعرف إنني سأكون عاجزا عن رد أفضالك، تعرفين أني أفضل التعامل دون تملك ولا رد للجميل

- صرت تتفلسف

- قولي صرت كثير الكلام

- بل تكابر

- بل ابقي للحب قيمته وعذريته ولذته

- لجنونك أحببتك، ولعنادك أكرهك حد الموت

- أمر طبيعي فالأشياء إذا زادت عن حدها انقلبت إلى ضدها

- وماذا عنك

وبصمت اكتفي بالنظر إلى عينيك كمن يراهما لأول مرة علك تفهمين حجم حبي وقدر حنيني إليك، اشعر وكان شيئا يهتز فيك رغما عنك رمش عينك اليمنى.لا تقولي سترين أحدا كما كنت تقولين، لأن شفتك تهتز هي الأخرى

- أمازلت تذكرين لغة العيون

- قليلا لكني أفضل أن اسمع، الم تقل مرة أن أحسن طريقة للتعلم هي السماع

- وقلت أيضا أننا في الحب لانتعلم، رغم كل شيء لا نتعلم.فلما الكلام

- كنت أظنك ستأخذني بالأحضان مجرد أن تراني

- كذلك ظننت إنا أيضا.. مجرد أن تريني ستركضين كما كنت تفعلين ترتمين بين ذراعاي كطفل صغير

- كنت أتمنى أن افعل

- لا عليك، فلكل غريب وحشة ولكل دخيل دهشة…

هكذا كان لقاؤنا، غريبا كمشاعرنا وحياتنا، لا نفعل ما نريد، ولا ندري حتى ما نريد 

كيف للحب أن يموت؟ أيموت الحب حقا؟

مضى زمن على لقائنا الأخير وانقطعت حتى رسائلنا التي كانت أجمل من رسائل الغرام التي يكتبها العشاق.. بل وأحلى من قصائد الشعراء

انقطع كل شيء، الماء والهواء

ظننتني أحسن التصرف ، وأحاول التأقلم في عوالم أخرى بأجوائها المتغيرة.ومناظرها وكل شيء جديد فيها..

لكني لم انس، فكرت كثيرا كيف آبارك لك عيد ميلادك الذي اقترب موعده. انتظرته أكثر من أي وقت مضى، كيف لا وتاريخ ميلادك هو الوحيد الذي يشفع لهذه الساعة المعطلة أن تبقى في معصمي الذي يرفض أي أنواع القيود

ماذا سأقول، وماذا اهدي إليك قارورة عطر ورسالة أم قصيدة شعر وساعة، أم باقة ورد وشرائط

ماذا أهديك؟ أخاتما أم سلسلة؟ فأنا لا أعرف اليوم عنوانك وحتى رقم هاتفك تغير .. ماذا سأقول وقصتنا أغرب من قصص الدنيا، هل أسال عنك؟

ومن أسأل؟ أختك أم أمك أم بنت الجيران التي كانت ترافقك..كيف هي ليلى؟ وإيمان ومنى.. أظنهن اليوم عرائس .

ماذا أقول ؟ ومجرد الشك يقتلني، أيموت الحب؟ أيموت؟

لم انس، فقد كنا بالأمس اثنين قلب وامرأة وصرنا اليوم ذكرى وانتهى.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com