خواطـر

شتاء آخر يلبسنا

 

ماجدولين الرفاعي

مازلتُ أحنُّ إلى رائحة حنانك الممتزجة بعطر أسطوريٍّ، يأسرني، يرفعني نجما، يلقيني في أحداق الشمس غماماً من نور وضياءً..

أهطل مطرا من بللور وزمرد .. أهطل عطراً وحكايا، أغرقها المطر في ليل كان رسولَ سلامٍ لمباهج صدفتنا..

نرقصُ تحت سماءٍ من رحمة، رسمت وعداً بالطبشور فوق أرصفة الفقراء واليتامى، أهطلُ حزناً، أهطلُ فرحاً، أهطل عتباً .. وشظايا خيبات الأمس تلاحق أفراحي، أغلقُ باباً، افتح باباً، أهرب من كسرى الواقف مع حرّاسه في خندق هزائمنا، يعلن أنا خنا العهدَ، وصار لزاما أن نرحلَ، أهاجرُ صوبكَ.. صوبَ مدنك المرصوفة خزفاً.. أفتّش عن وجهك بين الأقمار، بين النسّاك، بين الأبرار.. أقطفُ عنباً أسودَ من كرمة أيام بيض، كي نشربَ نخب محبتّنا، ألقي في اليّم همومي، فأصير فراشةَ صيف تغدو حمراءَ، زرقاءَ، صفراءَ، في ضوء قناديل الحيِّ، وأطير أطيرُ، أسابقُ رفَّ حمامٍ يعلو برجَ مدينتا، ويقيم قدّاس نهايتنا، ويوزّع قرباناً وكؤوساً من مطرٍ نشربها، نخب سلامٍ لن يحصل..

اسكب حزني في أنهار تنبع من بين أصابع نيسان، وتصير بحاراً في تشرين، فتسقي وجدانَ الأيام.. احمِ ارقي من شيطان الفكر ووسوسة الأحلام، احمِ شجني من شيطانٍ لبسَ عباءةَ سلطان..

كنْ لي بيتاً.. سنداً.. صدراً.. عمراً.. ورسولَ سلامٍ مابين كفري وإيماني..إيماني ببقايا أشرعة في البحر مازالت تصارعُ عاصفةَ النوّ في منتصف كانون...

كنْ لي جسراً كي أعبرَ نحو الأمس، فالقي بوصلتي ومرساتيْ فما عاد السفرُ بين الكحل وريف العين يغريني، وماعدت أناجي طيفاً غادر منذ زمنٍ شطاني، صار سراباً.. صار يباباً.. وبقايا حطبٍ يشتعل في مدفأة الجيران ..

فلتعلم يارجلَ الأمس أني ملكةٌ أطاولُ في حزمي زنوبيا..

فلتعلم يارجلَ الأمس أني ربيبةُ بلقيس، ونقائي موروث من سومر.. أنا لستُ بشاعرةٍ، ويكفيني فخراً أني امرأة عربية...

ارحل أنت امضي غرباً... امضي شرقاً... ابحث عن عُلَبٍ من صبري دفنت في صحراء النسيان

هذا آخر شتاءٍ يلبسنا .. يغسلنا .. يمحو آثار أصابعنا المنقعوعة في شريان الزمن الأغبر .. فلتعبر يارجلَ الأمسِ نحو ضفاف الخيبة والشجن، واترك لي دفة عمري، كي أتوجه نحو المعبر نحو الشمس .. نحو الفجر.. نحو أكاليل الغار..

هذا آخر شتاء يلبسنا من قمة حلم حتى أخمص خيبتنا، فاتركني أعبرَ قدري، وأمارسَ فنَّ الحرية، نذرٌ.. سأجوبٌ دمشقَ حافيةً .. ألبسُ ثوباً بدوياً .. أقطفُ ورداً جورياً .. أكتب شعراً .. أصرخ فرحاً .. وأدق جدارَ الصمت الأحمق، معلنةً فجر الحرية، أبني أقواسَ النصر من أطلال الأمس، وأعمدة اليأس المبنية فوق رمال زائفة، فأنا قبل الثورة كنت امرأةً عادية.. تجلسُ في شرفات القصر، وتعدُّ أساورها الذهبية.. لم تدرك أنها بضع امرأة يسمونها بالعربية (سبيّة).

هذا شتاء آخر يلبسنا، فاغسل نفسكَ... طهّر قلبكَ.. اطرق باب الأنس وباب الجان، وابحث عن حلِّ سحريِّ كي يجعلَ في قلبك نبضاً.

هذا شتاء آخرَ يلبسنا، يغسلنا مثل دروب منسيةٍ، فابحث عن اسمك بين سطور الأمس سطور الغد والحاضر .. كن فعلاً مبنّياً .. كن حاضراً .. كن كما كنتَ يوماً رفيقاً، صديقاً .. حبيبا، وجزءا من قلبي.. كنْ فارساً، واغرز خنجرك في قلب الماضي..

كنْ لي أرجوحةَ عشقٍ.. هدهدني.. غنّي لي لحناً غجرياً، كي أغفوَ بدلالٍ فوق سريرٍ من بللور اللهفة..

ارسمني قلبا فوق جدار الحب، اكتبني سّراً أو علناً، اكتبني معلّقةً جذلى، وانشرها حول حدائق غربتنا..

هذا شتاءٌ آخرُ يلبسناً.. حباً.. عشقاً.. صدقاً.. وعداً.. كن لي بيتا، أو فأرحل.
 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com