شعر

إفادة في محكمة الشعر


...نزار قباني
 

مرحباً يا عراقُ ، جئتُ أغنّيكَ ------------ وبعـضٌ من الغنـاءِ بكـاءُ
مرحباً، مرحباً.. أتعرفُ وجهاً------------- حفـرتهُ الأيّـامُ والأنـواءُ؟
أكلَ الحبُّ من حشـاشـةِ قلبي------------------ والبقايا تقاسمتـها النسـاءُ
كلُّ أحبابي القدامى نسَــوني------------- لا نُوارَ تجيـبُ أو عفـراءُ
فالشـفاهُ المـطيّبـاتُ رمـادٌ------------ وخيامُ الهوى رماها الـهواءُ
سـكنَ الحزنُ كالعصافيرِ قلبي ----------------- فالأسى خمرةٌ وقلبي الإنـاءُ
أنا جـرحٌ يمشـي على قدميهِ ----------- وخيـولي قد هدَّها الإعياءُ
فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي --------- وبصدري من الأسى كربلاءُ
وأنا الحزنُ من زمانٍ صديقي ---------- وقليـلٌ في عصرنا الأصدقاءُ
مرحباً يا عراقُ، كيفَ العباءاتُ ------------------ وكيفَ المها.. وكيفَ الظباءُ؟
مرحباً يا عراقُ ... هل نسيَتني ------------ بعدَ طولِ السنينِ سامـرّاءُ؟
مرحباً يا جسورُ يا نخلُ يا نهرُ ------------- وأهلاً يا عشـبُ... يا أفياءُ
كيفَ أحبابُنا على ضفةِ النهـرِ -------- وكيفَ البسـاطُ والنـدماءُ؟
كان عنـدي هـنا أميرةُ حـبٍّ ----------- ثم ضاعت أميرتي الحسـناءُ
أينَ وجـهٌ في الأعظميّةِ حلـوٌ ------ -----لو رأتهُ تغارُ منهُ السـماءُ؟
إنني السـندباد.ُ.. مزّقهُ البحـرُ --------- و عـينا حـبيبتي المـيناءُ
مضغَ الموجُ مركبي ... و جبيني --------- ثقبتهُ العواصـفُ الهـوجاءُ
إنَّ في داخلي عصوراً من الحزنِ ---------------- فهـل لي إلى العـراقِ التجاءُ؟
و أنا العاشـقُ الكبيرُ... ولكـن --------------- ليس تكفي دفاتـري الزرقـاءُ
يا حزيرانُ.ما الذي فعلَ الشعرُ؟ -------- وما الذي أعطـى لنا الشعراءُ؟
الدواويـنُ في يدينا طـروحٌ ----------- والتعـابيرُ كـلُّها إنـشاءُ
كـلُّ عامٍ نأتي لسـوقِ عُـكاظٍ ---------------- وعـلينا العمائمُ الخضـراءُ
ونهـزُّ الرؤوسَ مثل الدراويشِ --------- ...و بالنار تكتـوي سـيناءُ
كـلُّ عامٍ نأتي ... فهذا جريـرٌ ---------- يتغنّـى.. وهـذهِ الخـنساءُ
لم نزَل ، لم نزَل نمصمصُ قشراً ----------- وفلسطـينُ خضّبتها الـدماءُ
يا حزيـرانُ... أنـتَ أكـبرُ منّا ------------- وأبٌ أنـتَ مـا لـهُ أبـناءُ
لـو مـلكـنا بقيّـةً مـن إبـاءٍ -------------------- لانتخـينا.. لكـننا جـبناءُ
يا عصـورَ المعلّقـاتِ مـلَلنا... ------------- ومن الجسـمِ قد يملُّ الرداءُ
نصـفُ أشـعارنا نقوشٌ ومـاذا -------- --ينفعُ النقشُ حين يهوي البناءُ؟
المـقاماتُ لعبةٌ ... والحريـريُّ ---------------- حشيشٌ.. والغولُ والعـنقاءُ
ذبحتنا الفسـيفسـاءُ عصـوراً ---------- والدُّمى والزخارفُ البلـهاءُ
نرفـضُ الشعرَ كيمياءً وسحراً ---------- قتلتنا القصيـدةُ الكيـمياءُ
نرفـضُ الشعرَ مسـرحاً ملكياً ---------- من كراسيهِ يحرمُ البسـطاءُ
نرفـضُ الشعرَ أن يكونَ حصاناً ----- يمتطـيهِ الطـغاةُ والأقـوياءُ
نرفـضُ الشعرَ عتمـةً ورموزاً --------- كيف تستطيعُ أن ترى الظلماءُ؟
نرفـضُ الشعرَ أرنبـاً خشـبيّاً ------------- لا طمـوحَ لـهُ ولا أهـواءُ
نرفضُ الشعرَ في قهوةِ الشـعر.. --------- دخـانٌ أيّامـهم.. وارتخـاءُ
شعرُنا اليومَ يحفرُ الشمسَ حفراً --------- بيديهِ.. فكلُّ شـيءٍ مُـضاءُ
شـعرنا اليومَ هجمةٌ واكتشـافٌ ----------- لا خطوطَ كوفيّـةً ، وحِداءُ
كلُّ شعـرٍ معاصـرٍ ليـسَ فيهِ ----------- غصبُ العصرِ نملةٌ عـرجاءُ
ما هوَ الشعـرُ... إن غدا بهلواناً--------- يتسـلّى برقصـهِ الخُـلفاءُ
ما هو الشعرُ... حينَ يصبحُ فأراً -------- كِسـرةُ الخبزِ –هَمُّهُ- والغِذاءُ
و إذا أصـبحَ المفكِّـرُ بُـوقـاً -------------- يستوي الفكرُ عندها والحذاءُ
يُصلبُ الأنبياءُ مـن أجـل رأيٍ --------- فلماذا لا يصلبَ الشعـراءُ؟
الفدائيُّ وحـدهُ.. يكتـبُ الشـعرَ -------- و كـلُّ الذي كتبناهُ هـراءُ
إنّهُ الكاتـبُ الحقيقـيُّ للعصـرِ ------------ ونـحنُ الحُـجَّابُ والأجـراءُ
عنـدما تبـدأُ البنـادقُ بالعـزفِ ------------- تمـوتُ القصـائدُ العصـماءُ
مـا لنا ؟ ما لنا نلـومُ حزيـرانَ ----------- و في الإثمِ كـلُّنا شـركاءُ؟
من هـم الأبرياءُ ؟ نحنُ جميـعاً ------- حامـلو عارهِ ولا اسـتثناءُ
عقلُنا ، فكـرُنا ، هـزالُ أغانينا -------- رؤانا، أقوالُـنا الجـوفـاءُ
نثرُنا، شعرُنا، جرائدُنا الصـفراءُ ------------- والحـبرُ والحـروفُ الإمـاءُ
البطــولاتُ موقـفٌ مسـرحيٌّ ---------- ووجـوهُ الممثلـينَ طـلاءُ
و فلسـطينُ بينهـم كـمـزادٍ ----------- كلُّ شـارٍ يزيدُ حين يشـاءُ
وحـدويّون! و البـلادُ شـظايا ------------- كـلُّ جزءٍ من لحمها أجزاءُ
ماركسـيّونَ! والجماهـيرُ تشقى---------- فلماذا لا يشبـعُ الفقـراءُ؟
قرشـيّونَ! لـو رأتهـم قريـشٌ ------------------ لاستجارت من رملِها البيداءُ
لا يمـينٌ يجيـرُنا أو يســارٌ --------------- تحتَ حدِّ السكينِ نحنُ سواءُ
لو قرأنا التاريخَ ما ضاعتِ القدسُ ------------ وضاعت من قبـلها "الحمـراءُ"..
يا فلسـطينُ ، لا تزالينَ عطشى ---------- وعلى الزيتِ نامتِ الصحـراءُ
العباءاتُ.. كـلُّها مـن حـريـرٍ -------------- واللـيالي رخيصـةٌ حمـراءُ
يا فلسـطينُ، لا تنـادي عـليهم------ قد تساوى الأمواتُ والأحياءُ
قتلَ النفـطُ ما بهم مـن سـجايا -------- ولقد يقتـلُ الثـريَّ الثراءُ
يا فلسـطينُ ، لا تنادي قريشـاً -------- فقريشٌ ماتـت بها الخيَـلاءُ
لا تنادي الرجالَ من عبدِ شمسٍ------ لا تنادي.. لم يبـقَ إلا النساءُ
ذروةُ الموتِ أن تموتَ المروءاتُ ------- ويمشـي إلى الـوراءِ الـوراءُ
مرَّ عامـانِ والغـزاةُ مقيمـونَ ------------ و تاريـخُ أمـتي... أشـلاءُ
مـرَّ عامانِ.. والمسـيحُ أسـيرٌ --------- في يديهم.. و مـريمُ العـذراءُ
مـرَّ عامـانِ... والمآذنُ تبكـي ---------------- و النواقيـسُ كلُّها خرسـاءُ
أيُّها الراكعونَ في معبدِ الحـرفِ ---------- كـفانا الـدوارُ والإغـماءُ
مزِّقوا جُبَّـةَ الدراويـشِ عـنكم --------- واخلعوا الصوفَ أيُّها الأتقياءُ
اتـركـوا أولياءَنـا بـسـلامٍ ------------- أيُّ أرضٍ أعادها الأولياءُ؟
في فمي يا عراقُ.. مـاءٌ كـثيرٌ ----------كيفَ يشكو من كانَ في فيهِ ماءُ؟
زعمـوا أنني طـعنتُ بـلادي ---------- وأنا الحـبُّ كـلُّهُ والـوفاءُ
أيريدونَ أن أمُـصَّ نـزيفـي؟ ----------- لا جـدارٌ أنا و لا ببـغاءُ!
أنـا حريَّتي... فإن سـرقـوها------------ تسقطِ الأرضُ كلُّها والسماءُ
ما احترفتُ النِّفاقَ يوماً وشعري ------- مـا اشتـراهُ الملـوكُ والأمراءُ
كـلُّ حـرفٍ كتبتهُ كانَ سـيفاً ---------- عـربيّاً يشـعُّ منهُ الضـياءُ
و قـليـلٌ مِنَ الكـلامِ نَـقِـيٌّ ------------- وكـثيرٌ من الكـلامِ بغـاءُ
كم أُعـاني مِمَّا كَتَبْـتُ عـذاباً -------------- ويعاني في شـرقنا الشـرفاءُ
وجعُ الحرفِ رائـعٌ.. أوَتشـكو -------------- للـبسـاتينِ وردةٌ حمـراءُ؟
كلُّ من قاتلوا بحرفٍ شـجاعٍ ------------- ثم ماتـوا.. فإنـهم شهداءُ
لا تعاقب يا ربِّ من رجموني --------- واعفُ عنهم لأنّـهم جهلاءُ
إن حبّي للأرضِ حـبٌّ بصيرٌ ------------- وهواهم عواطـفٌ عمياءُ
إن أكُن قد كَوَيْـتُ لحمَ بلادي -------- فمن الكيِّ قد يجـيءُ الشفاءُ
من بحارِ الأسى ، وليلِ اليتامى --------- تطلـعُ الآنَ زهـرةٌ بيضاءُ
و يطلُّ الفـداءُ شـمساً عـلينا ----------- ما عسانا نكونُ.. لولا الفداءُ
من جـراحِ المناضلينَ... وُلدنا ----------- ومنَ الجرحِ تولدُ الكـبرياءُ
قبلَهُم ، لم يكـن هـناكَ قبـلٌ ----------- ابتداءُ التاريخِ من يومِ جاؤوا
هبطـوا فـوقَ أرضـنا أنبياءً ------------- بعد أن ماتَ عندنا الأنبياءُ
أنقذوا ماءَ وجهنا يـومَ لاحوا ---------- فأضاءت وجوهُنا السوداءُ
منحـونا إلى الحـياةِ جـوازاً ------------ لم تكُـن قبلَهم لنا أسمـاءُ
أصـدقاءُ الحروفِ لا تعذلوني -------------- إن تفجّرتُ أيُّها الأصـدقاءُ
إنني أخزنُ الرعودَ بصـدري--------------- مثلما يخزنُ الرعودَ الشتاءُ
أنا ما جئتُ كي أكـونَ خطيباً ---------- فبلادي أضاعَـها الخُـطباءُ
إنني رافضٌ زماني وعصـري--------- -----------ومن الـرفضِ تولدُ الأشـياءُ
أصدقائي، حكيتُ ما ليسَ يُحكى ---------- و شـفيعي... طـفولتي والنـقاءُ
إنني قـادمٌ إليكـم ... و قلبـي -------- فـوقَ كـفّي حمامـةٌ بيضـاءُ
إفهموني... فما أنا غـيرُ طـفلٍ ---------- فـوقَ عينيهِ يسـتحمُّ المـساءُ
أنا لا أعـرفُ ازدواجيّةَ الفكـرِ ---------------- فنفسـي.. بحـيرةٌ زرقـاءُ
لبلادي شـعري.. ولسـتُ أبالي---------- رفصتهُ أم باركتـهُ السـماء

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com