|
شعر
أغنية الروح شعر: رفيق صابر ترجمة وتقديم: صلاح برواري رفيق صابر عالمٌ غريب من الغموض والبساطة، والرقة والصلابة. يتسلل شعره إلى القلب بكل انسيابية وخفة، ممزقاً شَغافهُ دون ألم (1)، متوغلاً فيه بعمق، كي يحفر آثاره على جدرانه الداخلية!. (1) في منتصفِ الليل أنادمُ نهراً جامحاً أصيرُ أفقَ قافلةٍ وسط العواصفِ تائهة... أصيرُ سحابة مهاجرة أرضاً غارقة في الدماء. في عتمةِ الليل وفي غسق الفصول كالضبابِ ونُدَفِ الثلج تسيِّجُ روحي سفوحَ الجبال. روحي رياحٌ غاضبة تصطدمُ بالجنادل (2) وترجُّ الأنهارَ رجّاً. انتشرَ الليلُ وروحي الوَلهى حصانٌ ناريُّ الأجنحةِ، يجمحُ بي ويحط في عالم غريب. في هذه العتمة، أيا روحي الجامحة الخارجة عن المدار، ما أنتِ فاعلة بي؟ في ظلام أيّ فصلٍ أسير ستوقدينني؟!. في عتمةِ الليل، أين الرحيل؟ بماذا ستشبِّهينني؟. ضبابٌ كثيفٌ غطاني ورحَل، تلاشى في صحراءِ روحي أيها اليقينُ المُقنَّعُ بالوطن والذرى (3) آويني... كي أنساكَ في مَوَجان الروح - لحظة- أدفنُ رأسي بين الصقيع والجمر. (2) أيها الصقرُ المُتيَّمُ بالذرى أيها المُحلقُ عالياً، مئاتَ الليالي أمضيتها مُلفَّعاً ببردٍ قارس في كنفِ جبلٍ، كذئبٍ جريح وجائع، قتلتَ ليلكَ بالسهر و الحلم و الغناء. أدفأتَ روحَكَ المُرتعِدة، بتعطش احتضنتَ فصلَ التراب و المستقبلَ الضبابي والقِمَم. لكنَّ ذرى الأحلام، قاتلة عشاقِها، تجمّدَت في الصقيع كخِنجَرٍ انغرسَ في الروح. أيا ذرى الأحلام النيّئة! ذرى الظلال الخُضر! إلى متى نكونُ وَلهى بكِ؟ كم مرةً تشرِّديننا؟. (3) في هذا الليل، أيا روحي المائجة روحي المضطربة، أين تأخذينني؟ في أيِّ منحدرٍ، صوبَ أيِّ سَرابٍ تدفعينني؟ - في انسيابكِ- بأيةِ أحجارٍ مُشَظّاة، (4) تصطدمين؟ تحت أيّ ظلٍ و أمانيَ و أحراش تتفيّئين؟. ضبابٌ كثيفٌ غطاني ورحَل تلاشى في صحراءِ روحي، أمامَ انهيار هذه الفصول ضَع رأسَكَ المُغطى بالجمر، المُقشعِرّ والمُتفجِّر، على صدري... في غابةِ الجليدِ أوقِدني، كن صديقاً وشاهداً على موتي!. (4) انتصفَ الليلُ وروحي صقرٌ مُصطاف غارقٌ في العشق والجموح و الأغاني. روحي المصلوبة ألفَ مرّة، كردستانيّة متيّمة بالذرى النائية والسلام والأخوّةِ و المساواة. روحي المتمردة على مدارها، في خرائبِ الفصول زهرةُ المدَنيّة.
ليلة على قبر (وَلي ديوانه) (5) إيهٍ (ديوانه)... (6) قصَدْتكَ الليلة كي أبثَّ لكَ من الأعماق لواعجَ وهمومَ قلبي المحطم، وبشفتيَّ الممزَّقتين ألقي عليكَ قصيدةً موشّحة بالسواد. * * * إيهٍ (ديوانه)... تحتَ لهيبِ ووهَج الشمس وفي حَمأةِ (7) بركةٍ نحاسيّةٍ مكشوفة كنتُ أنفضُ أوراقَ شجرةِ عُمُري الخضراء، وبلا كلٍّ... مثل (فرهاد) (8) كنتُ أهوي بمِطرَقتي على سَحنةِ (بيستون) حياتي، (9) كي أنحتَ هيكلاً لقطعةِ خبز أنقِعُها لصِغاري في بِركةِ عرَقي. حينذاك... وعلى حين غِرّة، انهمرت سحابة على جسدِ بيتي وأحالت صغاري فِحاماً.(10) أواه... إني غريبٌ في بلدي!. * * * إيهٍ (ديوانه)... مدينتنا منبعُ البكاءِ والألم كلُّ زاويةٍ فيها، ساحة للموت. القومُ قد تشرّدوا وهاموا على وجوهِهم دونَ مَصايف، القومُ ساهونَ عن قامةِ (شَم) ويتضوَّرون لكِسرَةِ خُبز!. * * * إيهٍ (ديوانه)... لو صادفَ، ومررتَ بمدينتِنا يوماً ووقعَت عيناكَ على مُحيّا الأطلال المُضبَّبة فكلي ثقة، ستنسى (شَم)، ومِن رَمضاءِ آلام الناس (11) ستنصهرُ روحُكَ، مثل روحي المُتعَبة!. * * * إيهٍ (ديوانه)... كلُّ هذهِ الصخورُ والجبال، مع أرواح آلافِ الأبرياء غارقة في التيزابِ والبارود. (12) ألا بربِّكَ، لِمَ صوتُ اللهِ مخنوقٌ في مدينتِنا؟ ألا بربِّكَ, لِمَ صوتُ اللهِ مخنوقٌ في مدينتِنا؟. * * * إيهٍ (ديوانه)... كلُّ يوم تصبحُ كردستان، فجأةً أمامَ عيني، ضباباً تصبحُ ضباباً وترحلُ نحو علياءِ السماءِ السابعة. * * * إيهٍ (ديوانه)... من سواقي الدَّم ومن فوَّهاتِ بنادق بيشمركة (هندرين)، (13) متى تبزغ شمسٌ وهّاجة تمزقُ الستائرَ السميكة للجرائم الماثلةِ أمامَ عيني وتحرقُ جذورَ الآلام والجوع في مدينتنا، تعيدُ إليَّ عظامَ وبقايا وأرمِدَة (14) أطفالي وتنتزعُ روحي من براثن العذاب!. * * * إيهٍ (ديوانه)... ألا ليتكَ الليلة تقطفُ حفنة آلام من بَيدَر جروحي، ألا ليتكَ تمسحُ بكفنكَ المُدمّى قليلاً من الدمع عن وجنتي، عن وجنتي المُهشَّمة ألا يا... (ديوانه)!. -------------------- الشروح: 1- الشَّغاف: حجابُ القلب. 2- الجَنادل: جمعُ الجَندَل، وهو الصخر العظيم. 3- الذرى (بضم الذال): جمعُ ذروة، أي قِمّة. 4- مُشَظّاة: مدبّبة كرؤوس قطع الزجاج المكسور. 5- وَلي ديوانه: شاعر حلبجة المعروف (1826-1881)م، اسمه (وَلي) ولقبه (ديوانه)، أي الوالِه أو مجنون العشق، بسبب حبه الجنوني لفتاة جميلة اسمها (شَم)، حيث إنّ أغلب شعره يدور حول التغزّل بـ(شَم) وطلبِ وصالِها، حتى مات دون ذلك. 6- إيهٍ: طلب للاستزادة من حديث معهود. 7- حَمأة: الحَمَأ، وهو الطين الأسود المُنتِن. 8- الكلّ (بفتح الكاف وتشديد اللام): الكلال والكلالة، أي التعَب والإعياء. ويخطىء البعض حين يقول "بلا كلل"؛ لأنّ الكلل (بفتح الكاف واللام) والكِلة معناهما (الحالة)، كأن يُقال: باتَ فلان بكلل سوء، أو بكِلة سوء، أي: بحالةِ سوء. فرهاد: هو بطل ملحمة العشق الشعرية الكردية المعروفة ( شيرين وفرهاد) في منطقة (كرمنشاه) في شرق كردستان. وتقول الملحمة إنّ العاشق (فرهاد) كان ينحت تمثالاً على صفحة جبل (بيستون) الشهير، من أجل حبيبته (شيرين)، وبأمر من حاكم ظالم كان يود التفريق بينهما، للاستئثار بـ(شيرين). وقبل أن يتم (فرهاد) نحت التمثال، بلغه خبر كاذب عن موت معشوقته (شيرين)؛ فرمى القدوم الذي كان ينحت به في الهواء، وتلقاه برأسه ومات منتحراً. وحين علمت (شيرين) بموت حبيبها، زارت قبره وغرزت خنجراً في قلبها، وماتت منتحرة فوق القبر. ومعنى اسم (فرهاد) في العربية هو (مَهيب)، أي الذي يهابه الناس لقوّته أو شدة بأسه. 9- السَحنة: الهيئة واللون. 10- فِحام: جمع فحمة. 11- رَمْضاء: شدّة الحَرّ. 12- التيزاب: الأسيد، الحمض المُذيب. و(التيزاب) كلمة (كردية- فارسية) مُعرَّبة. 13- هندرين: جبل معروف في كردستان العراق، حقق فيه البيشمركة معجزات قتالية في ستينيات القرن الماضي. 14- أرمِدَة: جمع رَماد. ملاحظة: كتب الشاعر رفيق صابر هذه القصيدة في 20/12/1971، وكأنه تنبّأ بما سيحدث لـ(حلبجة)، مدينة الشاعر( ولي ديوانه)، من كارثة القصف الكيماوي في ربيع عام 1988، على يد الحكم البائد للدكتاتور صدام حسين. * رفيق صابر: شاعر كردي عراقي شهير، ينتمي إلى جيل السبعينيات، ويعتبر من أساطين الشعر الكردي المعاصر. من مواليد 1950، بدأ الكتابة في أواسط الستينيات، ونشر أولى قصائده في عام 1970، نال بكالوريوس اللغة الكردية من كلية الآداب- جامعة بغداد في عام 1974، ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، على أطروحته " دور الثقافة في تكوين الوعي القومي الكردي"، المقدمة إلى أكاديمية العلوم الاجتماعية البلغارية، في عام 1987. أصدر حتى الآن عدة مجاميع شعرية، ضمّنها ديوانه الذي صدر في عام 1993 في السويد.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |