بحوث

مينورسكي .. من الدبلوماسية الى الكوردولوجيا

جودت هوشيار

 jawhoshyar@yahoo.com

 مقدمة

من الظواهر الايجابية البارزة في حياتنا الثقافية المعاصرة، تلك النظرة الموضوعية التي يعالج معظم الباحثين الكرد من خلالها، قضايا الكردولوجيا والاسهامات العلمية لأبرز روادها في دراسة تأريخ الكرد ولغتهم وتراثهم وثقافتهم وشتى جوانب حياتهم. ومع ان الكردولوجيا قد استأثرت باهتمام المثقفين الكرد منذ ظهور الصحافة الكردية والى يومنا هذا، الا ان ما كتب عن المستشرقين الروسي الكبير (فلاديمير مينورسكي)، ضئيل بالقياس الى ما حققه من انجازات علمية في حقل الكردولوجيا وبخاصة في مجال دراسة التاريخ المبكر للكرد والدور الفعال الذي لعبه الكرد في العلاقات الروسية - الكوردية وفي موقف بلاده من القضية الكردية في العقدين الاول والثاني من القرن العشرين، وأذا كانت كتابات الباحثين الكرد عن (فلاديمير مينورسكي) قليلة، الا ان تأثيره في المؤرخين الكرد الرواد في النصف الاول من القرن العشرين كان قويا وواضحا، فحين شرع المؤرخون الكرد الأوائل بتدوين تاريخ امتهم وبلادهم في اواخر العشرينات – بعد انقطاع طويل اي منذ ان كتب البدليسي كتابه الشهير " الشرفنامة " –كانوا يعرفون حق المعرفة المكانة الرفيعة لفلاديمير مينورسكي في عالم الاستشراق ويقدرون عاليا" دراساته القيمة عن الكرد. ويكفي للدلالة على الاهمية البالغة لتلك الدراسات ان نقول : لو لم تكن هناك نظرية مينورسكي عن اصل الكرد ولغتهم لكان تصورنا عن هذا الموضوع مختلفا" تماما"، فقد كان أول مستشرق أثبت بالشواهد التاريخية والدلائل اللغوية وبالتحليل العلمي والمنطقي : ان الكرد من اصل آري وانهم احفاد الماد وان لغتهم ليست لغة فارسية محورة، بل لغة مستقلة وتنتمي الى عائلة اللغات الهندو – اوروبية. وتشكل هذه النظرية اليوم حجر الزاوية في دراسة التاريخ الكردي القديم وتراجعت أمامها محاولات عدد من المستشرقين الاوروبيين مثل المستشرق الروسي (نيكولاي مار) والمستشرق الانجليزي (د. ن. مكنزي) للبحث عن اصول اخرى للشعب الكردي (1). ولمينورسكي اعمال علمية كثيرة عن الكرد وكردستان تتسم حميعها بالعمق والشمولية والموضوعية وتعد نماذج رفيعة المستوى للبحوث الاستشراقية الأصيلة، ويعتقد العلامة (ميخائيل لازاريف) ان مينورسكي كان اهم عالم كردولوجي وافضل خبير في الشؤون الكردية في القرن العشرين.

 

نبذة عن حياته وآثاره العلمية

ولد مينورسكي في بلدة (كورجيفا) شمال غرب مدينة موسكو على ساحل نهر الفولغا في الخامس من شباط عام 1877 في عائلة مثقفة وميسورة واكمل المراحل الدراسية في مدارس موسكو، ثم التحق بكلية الحقوق في جامعة موسكو وتخرج فيها بتفوق عام 1900 ولكنه لم يمارس مهنة المحاماة بل التحق في العام نفسه بمعهد لازاريف للغات الشرقية (معهد الاستشراق حاليا) وكان من ضمن المهام الموكولة الى هذا المعهد، اعداد الدبلوماسيين الشباب الاكفاء للعمل في القسم الشرقي في وزارة الخارجية الروسية او الممثليات الدبلوماسية الروسية في بلدان الشرق. وكان مينورسكي احد المرشحين للعمل الدبلوماسي. ولم يكن الالتحاق بالسلك الدبلوماسي امرا" هينا"، فقد كان انتقاء المرشحين يتم وفق شروط صارمة، كما ان مناهج الدراسة في المعهد تشمل تعلم المباديء الاساسية للغات تلك البلدان التي سوف يعمل فيها الخريجون ودراسة تأريخ وثقافة شعوبها والاحوال العامة فيها وعلاقاتها الخارجية وبخاصة مع روسيا، وبعد التحاق الخريجين بوظائفهم يقيمون علاقات واسعة مع المسؤولين المحليين ووجوه المجتمع المتنفذين في تلك البلدان. ويبذلون قصارى جهودهم لتعزيز النفوذ الروسي في مناطق عملهم. ولكن معظم الخريجين - على الرغم من اعدادهم اعداد مهنيا" صارما" – وربما بسبب ذلك – كانوا مجرد موظفين بيروقراطيين تتسم وجهات نظرهم بالانتهازية السياسية ومشبعين بالروح الأمبريالية وبمشاعر الاستعلاء القومي تجاه شعوب الشرق. ما عدا قلة قليلة كانت تحاول التعرف عن كثب على الجوانب المختلفة للحياة في بلدان الشرق وتأريخ وحضارة شعوبها والذين اصبحوا فيما بعد مستشرقين بارزين مثل (فاسيلي نيكيتين) و (فلاديمير مينورسكي).

عمل مينورسكي بعد تخرجه في معهد الاستشراق عام 1903 لمدة عامين في مقر وزارة الخارجية الروسية ثم نقل في عام 1905 الى القنصلية الروسية في مدينة تبريز (اذربيجان الايرانية) للعمل بصفة مترجم رسمي فقضى فيهما سنتين وتنقل في الممثليات الدبلوماسية الروسية في كل من تركيا وايران وعمل لسنوات طويلة في المدن الكردية المهمة وقام بجولات كثيرة في ارجاء كردستان وفي ظروف محفوظة بالمخاطر وعبر طرق وعرة ولمسافات طويلة وعلى الرغم من قساوة الطبيعة والمتاعب الكثيرة التي واجهها فأنه أحب كردستان وشعبها وكرس جانبا" كبيرا" من نشاطه لدراسة المجتمع الكردي. وكان مشاركا" فعالا" في كافة الأحداث والتطورات التي شهدتها المنطقة خلال اثنى عشر عاما" من عمله الدبلوماسي فيها (1905 -1917) وكان نشاطه يتسم دائما"بالتعقل والاعتدال، كما ان نظرته الى شعوب المنطقة كانت نظرة إنسانية ويتحسس بعمق معاناة الانسان الكردي الكادح ويتعاطف معه بكل جوارحه ويدرك مدى الظلم الذي لحق به وما يعانيه من جور السلطات المحلية وتعسف الاقطاعيين الكرد الذين لم يكن يهمهم سوى مصالحهم الذاتية ويتفهم بعمق الطموحات القومية لابناء الشعب الكردي. ولقد خرج من تعايشه مع هذا الشعب المضطهد بتجارب ومؤلفات عديدة.

ففي عام 1905 قام مينورسكي برحلة الى خانية (امارة) ماكو القريبة من الحدود الجنوبية لروسيا القيصرية حيث درس التركيب الديموغرافي والانتماء الديني والمذهبي لسكانها (2).

وخلال رحلته الى محافظة (كردستان) عام 1906 قا باعداد لائحة تتضمن معلومات عن العشائر الكردية فيها. كما درس النظام الآداري والنشاط التجاري وطرق المواصلاتفي المحافظة المذكورة.

وخلال الفترة (1907 – 1909) نشر عدة دراسات حول الموضوعات المذكورة وذلك في الدوريات الرسمية ذات التداول المحدود والمخصصة للأغراض الرسمية. كما نشر فيما بعد في الدوريات ذاتها دراسة عن تأريخ ماكو القديم، ويبدو ان الطائفة الدينية المسماة (اهل الحق) او الطائفة (العلي الهية) في محافظة كردستان قد اثارت اهتمامه الشديد وتركت في نفسه انطباعا" قويا" حيث كتب عنها دراسة نشرت عام 1911، ربما بتأثير استاذه المستشرق الروسي المعروف كريمسكي الذي ألف كتابا" عن (تأريخ الاسلام). ولقد عاد مينورسكي للكتابة عن هذه الطائفة في الاعوام اللاحقة.

وبعد احتلال تركيا للمناطق الحدودية في كردستان ايران عام 1905 تم تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق وترسيم الحدود بين البلدين في عام 1906 ولجنة اخرى في عام 1911 وقد مثل مينورسكي بلاده في اعمال اللجنتين. وقد اتاحت له هذه المشاركة القيام بمسح ميداني للمناطق الكردية المتنازع عليها والتعامل اليومي المباشر مع سكانها الكرد لاعوام عديدة. وتجعت لديه معلومات غزيرة عن الكرد وكوردستان نشرها ضمن عدة دراسات علمية جادة خلال عامي 191,1915 استنادا" الى كم هائل من الاحصاءات والوثائق والخرائط الرسمية والحقائق التاريخية وهي دراسلت وان كانت تتعلق باعمال اللجنتين المذكورتين وسياسة الدول الكبرى في المنطقة والنزاع الايراني – التركي الحدودي، الا ان نظرة مينورسكي كانت اوسع واشمل من هذه القضايا وليس ادل على ذلك من دراسته المشهورة " الكرد " التي نشرها في بطرسبورغ عام 1915. وكانت هذه الدراسة عملا" رائدا" بالنسبة الى تلك الفترة ولم تفقد اهميتها حتى اليوم وهي مترجمة الى لغات عديدة بضمنها اللغة الكردية، وتتضمن المعلومات الأساسية عن اصل الكرد ولغتهم وتاريخهم وثقافتهم وشتى جوانب حياتهم وخصائصهم القومية وعن المرأة الكردية و مكانتها في المجتمع وعن علاقة الكرد بجيرانهم والعلاقات الكردية – الروسية واخيرا" القضية الكردية. وقد أثارت الآثار القديمة الموجودة في المناطق الكردية القريبة من بحيرة اورمية (ورمي) إهتمامه فكتب عنها دراسة علمية نشرت عام 1917 في بطرسبورغ.

وجاءت ثورة اكتوبر 1917 في روسيا وما اعقبها من احداث عاصفة وتطورات سياسية، لتقلب الاوضاع في روسيا رأسا على عقب وتهز المنطقة والعالم. ولم تكن هذه الثورة تحولا في مصير روسيا وحدها، بل في مصائر شعوب اخرى وفي مصير مينورسكي نفسه.

وكان مينورسكي يشغل في ذلك الوقت منصب القائم بالاعمال الروسي في طهران. ووقف موقف المعارضة من ثورة اكتوبر البلشفية وظل على ولائه للحكومة المؤقتة التي كانت تحكم روسيا بعد ثورة شباط 1917 واستمرت في الحكم حتى اندلاع ثورة اكتوبر في العام نفسه.

كانت السفارة الروسية في طهران – شانها في ذلك شأن معظم السفارات الروسية في الخارج – قد احتفظت بولائها للحكومة المؤقته كما قلنا انفا ولقد ظل مينورسكي في طهران حتى عام 1919 ثم انتقل الى باريس ليبدأ فترة من اخصب الفترات في حياته، حيث كرس حياته ونشاطه العلمي للعمل الاستشراقي واعتزل السياسة نهائيا".

عمل مينورسكي استاذا" للأدب والتأريخ الاسلاميين في أشهر المدارس والكليات الاستشراقية في باريس، ومن اهم الدراسات التي نشرها بعد استقراره في فرنسا، دراستان عن اهل الحق وبحث قيم عن قضية الموصل والذي لم يترجم الى اللغة الكردية لحد الان على الرغم من احتوائه على معلومات وحقائق تاريخية بالغة الاهمية عن الكرد في ولاية الموصل والأنتفاضة الكردية بقيادة الشيخ سعيد، والى هذه الفترة من حياة ونشاط مينورسكي، تعود مقالاته الشهيرة في دائرة المعارف الاسلامية عن شعوب الشرق الاوسط وبالاخص عن الشعب الكردي، وتحنوي موسوعة الاسلام على ثلاث مقالات تخص الكرد وكردستان وتحت العناوين التالية (الكرد وكردستان، واللور واللور الكبرى واللور الصغرى)، صدر الجزء الاول من هذه الموسوعة في عام 1927 باللغات الفرنسية والانجليزية والالمانية في باريس ولندن وليدين (لايبزك) في وقت واحد تقريبا". كما صدرت الترجمة العربية لهذا الجزء في القاهرة عام 1929. واطلع المثقفون الكرد لأول مرة على الحقائق التاريخية التي تخص امتهم ووطنهم.

وفي عام 1932 انتقل مينورسكي الى لندن وعمل محاضرا" في مدرسة الاستشراق ورئيسا" للقسم الايراني في جامعة كامبرج. ويبدو انه كان يتابع باهتمام كل ما ينشر عن الكرد و كردستان في اوروبا ويعلق على ما يعتبره مهما" في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشر مينورسكي مقالا حول الالفباء الكردية اللاتينية في وقت نشط فيه المثقفون الكرد الرواد (عرب شمو، توفيق وهبي، كامران بدرخان) في وضع الفباء كردية لاتينيةفي اواخر العشرينات واوائل الثلاثينات. كما كتب تعليقات وملاحظات ذكية عن عدد من الكتب التي صدرت في تلك الفترة في اوروبا حول الكرد وبلادهم، منها كتاب (طريق عبر كردستان) للمهندس البريطاني (اي. هاملتون) الذي صدر في لندن عام 1937 وكتاب (القضايا الاجتماعية والاقتصادية لكرد رواندوز) تأليف (ت. ر. ليج) الذي صدر في لندن عام 1934 وكتاب (الكرد وكردستان) لـ (اي. سافراستيان) الذي صدر في لندن عام 1948 وكتب أخرى.

بيد ان ذروة اعمال مينورسكي العلمية هي البحث الموسوم (اصل الكرد) الذي القاه في المؤتمر الاستشراقي العالمي المنعقد في بروكسل عام 1938 وقد نشر البحث ضمن كتاب يضم بحوث المؤتمر وذلك في عام 1940، ومن أعماله المهمة في فترة الاربعينات، دراسة عنوانها (كوران) نشرت عام 1943 واخرى عن (عشائر غرب أيران) نشرت عام 1945.

كما اولى مينورسكي اهتماما" واضحا" بالتراث الكردي ومن أعماله في هذا المجال، نشر مجموعة ثمينة من (النصوص الكردية القديمة) في باريس عام 1950.

 بيد ان اهتمامات مينورسكي الاستشراقية كانت متعددة فقد الف عددا" من الكتب عن تأريخ شعوب ايران والقفقاس، تحدث في مواضع عديدة منها عن الكرد ايضا"، كما قام بتحقيق ونشر عدد من المخطوطات الشرقية القديمة، ولقد ترجمت هذه الاعمال الى اللغات الاوروبية الاساسية ومنها اللغة الروسية حيث ان كافة اعماله بعد استقراره في باريس كانت باللغة الفرنسية وبعد انتقاله الى لندن شرع يكتب باللغة الانجليزية، والحق ان مينورسكي كان يتقن عدة لغات عالمية (الروسية، الفرنسية، الانجليزية، الالمانية) وكان له المام جيد باللغات الكردية والفارسة والتركية والعربية والارمنية و الاذرية، وليس ادل على ذلك من قيامه بتحقيق العديد من المخطوطات القديمة المدونة باللغات الفارسية والعربية واستخدامه للمخطوطات التركية والارمنية كمصادر لبعض اعماله، ويتضح مما تقدم ان مينورسكي كان مثقفا" موسوعا" حقيقيا"، وكان دائم الحنين الى وطنه الام، ولم يكن بوسعه العودة اليه في ظل حكم ستالين، ثم ان مينورسكي كان يعمل في الغرب بحرية مطلقة وفي اجواء طبيعية ويحظى باعتراف عالمي كواحد من ابرز مستشرقي القرن العشرين، ولمينورسكي مواقف مجيدة في الدفاع عن وطنه بقلمه وعطائه العلمي. وخلال الهجوم الهتلري ضد وطنه، وقف مينورسكي – شأنه في ذلك شأن الآلاف من العلماء والكتاب والفنانين والمفكرين الروس المغتربين – الى جانب شعبه في محنته ونضاله البطولي ضد المعتدي وكان يتحرق شوقا" لمعرفة آخر أخبار المعارك ويكتب الرسائل الى زملائه المستشرقين الروس داخل روسيا والذين كانوا يمرون بأوقات عصيبة وبخاصة في اثناء حصار لينينغراد الذي دام حوالي ثلاثة أعوام، ولم يتوقف خلالها العلماء المستشرقون عن عطائهم العلمي وهذه مأثرة قل نظيرها في تأريخ الاستشراق.

كما كان مينورسكي دائم الاتصال باقاربه واصدقائه في روسيا، وقد اهدى كتبه التي صدرت في لندن خلال سنوات الحرب العصيبة الى زملائه، العلماء الروس داخل الوطن، وكم كانت فرحته طاغيةحين تكللت بطولات شعبه بالنصر المؤزر – على الرغم من ستالين وليس بفضله كما اثبت المؤرخون الروس ذلك – بالقضاء على الهتلرية، ولكن كان على مينورسكي ان ينتظر طويلا" قبل السماح له بزيارة روسيا، ولقد سنحت له هذه الفرصة بعد وفاة ستالين ومجيء خروشوف والذي تميزت فترة حكمه بهامش واسع من الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، حتى اطلق الكاتب العالمي (ايليا اهرنبورغ) على هذه الفترة اسم فترة (ذوبان الجليد) ففي عام 1960 انعقد المؤتمر الاستشراقي العالمي الخامس والعشرين في موسكو، وكان مينورسكي احد ابرز المدعوين لحضوره، وكان محل تقدير بالغ وحفاوة كبيرة داخل أروقة المؤتمر وخارجه وقام بجولة في بعض المدن المحببة الى قلبه (ليننغراد، باكو، تبليس).

 في اوائل الستينات اولى المستشرقون الروس اهتماما" كبيرا" بمؤلفاته التي كانت ممنوعة من التداول في عهد ستالين، حيث قام كبار المستشرقين الروس بترجمتها الى اللغة الروسية ونشرها على نطاق واسع.

توفي مينورسكي في لندن في الخامس من شباط عام 1966 ودفن فيها عن عمر ناهز التاسعة والثمانين، وكان قد اوصى بأهداء ارشفه ومخطوطاته ومكتبته الى معهد الاستشراق في ليننغراد (بطرسبورغ حاليا") ويحتوي ارشيفه على مخطوطات قيمة من تأليفه ومخطوطاته شرقية قديمة كان قد اقتناها خلال عمله في ايران وتركيا ورسائل متبادلة مع كبار المستشرقين في العالم ومع العلماء والشخصيات الكوردية البارزة، ووثائق على جانب كبير من الاهمية تتعلق بالقضية الكوردية والقضايا الاخرى في المنطقة في العقدين الاول والثاني من القرن العشرين، ويقول تلميذه الروحي – المؤرخ الشهير العلامة (ميخائيل لازاريف) انه استفاد كثيرا" من مخطوطة ثمينة بقلم مينورسكي عن الكرد و كردستان لم تنشر لحد الآن، ولم يتسن للباحثين الكرد الاطلاع على محتويات أرشيف مينورسكي، ربما بسبب كون معظم مؤلفاته المخطوطة وأوراقه ورسائله مدونة باللغتين الفرنسية والانجليزية.

كان مينورسكي في العهد القيصري عضوا" في العديد من الجمعيات العلمية الروسية ومنها الجمعية الجغرافية الروسية وقد كتب العديد من المقدمات للكتب التي اصدرتها الجمعية عن بلدان الشرق الاوسط، اما بعد انتقاله للعمل في باريس ولندن وتفرغه التام للعمل العلمي الاستشراقي فأنه وبفضل عطائه العلمي الاصيل نال منزلة رفيعة في الاوساط الفكرية في الغرب وذاعت شهرته كعالم بارز متخصص في الدراسلت الايرانية والكردية.

حصل مينورسكي على العديد من الجوائز والميداليات التقديرية من المؤسسات الأكاديمية الاستشراقية، وكان يحمل الدكتوراه الفخرية من جامعة كمبرج وجامعة بلجيكا وكان عضوا" عاملا" في أكاديمية العلوم الفرنسية وأكاديمية العلوم البريطانية و ينبغي التنويه هنا الى ان شرف العضوية في هاتين المؤسستين العلميتين العريقتين لا تناله الا نخبة صغيرة من صفوة العلماء في شتى مجالات المعرفة الانسانية.

إن الاتجاه او الفرع التأريخي في الكوردولوجيا الذي أسسه (بيوتر ليرخ) قد تطور واتسع بفضل مستشرقين روس مبدعين مثل (نيكيتين ومينورسكي)، والحق ان مصير نيكيتين يشابه مصير مينورسكي وهو ايضا" كردولوجي رفيع المستوى، وكلما جرى الحديث عن احدهما لابد للمتبع المنصف ان يشير الى جهود الآخر، فان جهود أحدهما ونتاجاته مكملة للآخر، وعلى أية حال فان مدرسة مينورسكي – نيكيتين التأريخية الكردولوجية قد أزدهرت وقدمت عطاءات علمية متميزة وقيمة، وهذه المدرسة تتطور اليوم على أيدي نخبة من المؤرخين الروس وفي مقدمتهم العلامة ميخائيل لازاريف، صاحب العديد من الكتب والدراسات العلمية القيمة عن التأريخ الكردي والقضية الكردية على وجه الخصوص وكنا أول من ترجم كتاب لازاريف (القضية الكردية) من اللغة الروسية مباشرة الى اللغة العربية ونشر الكتاب على شكل حلقات متتالية على صفحات مجلة (شمس كردستان) عام 1976 والتي كانت تصدر عن جمعية الثقافة الكردية في بغداد. أما الترجمات اللاحقة لهذه الكتاب فهي ترجمات تجارية مبتورة أو تلخيص مخل لا يمكن الأعتماد عليه لأغراض البحث العلمي. والحق أن كتاب لازاريف عن القضية الكردية وهو من الأصل بحث علمي نال عنه البروفيسور لازاريف درجة) دكتوراه علوم (وهي مرتبة علمية أعلى من درجة (P.H.D) كثيرا"ولا تمنح الا لقاء انجازات علمية بارزة. وقد نشر على شكل كتاب لأول مرة في عام 1964 ثم صدرت طبعة موسعه ومنقحة من الكتاب عام 1971 وهذه الطبعة تكاد أن تكون كتابا" جديدا" حيث اضيفت الى الطبعة الأولى معلومات غزيرة و وثائق أصيلة حصل عليها المؤلف من الأرشيفات التأريخية والسياسية والدبلوماسية الروسية. إننا نشير الى أهمية نتاجات لازاريف لأنها مكملة لمسيرة مينورسكي – نيكيتين العلمية في حقل الكوردولوجيا وهؤلاء الثلاثة هم الرواد الحقيقيون للكوردولوجيا وانجازاتهم العلمية هي الذروة في هذا المجال.

 

مينورسكي والقضية الكردية

لم يكن مينورسكي – في بداية عمله الدبلوماسي – يبدي آراء صريحة مخالفة لسياسة حكومته حول الشؤون الكردية، لكن اختلاطه بأبناء الشعب رالكردي في اعماق الريف الكردستاني وتعرفه عن كثب على احوالهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والظلم المزدوج الذي كان يتعرض له الانسان الكردي على ايدي الاقطاعيين الكرد من جهة والسلطات المحلية الايرانية والتركية من جهة أخرى، كل ذلك ادى تدريجيا" وبمضي الزمن الى تغيير كبير في موقف مينورسكي من الكرد، فقد ادرك بحسه الانساني مدى عمق معاناة هذا الانسان المضطهد، ولم يكن يخفي ازدرائه للاقطاعيين الذين حولوا ابناء جلدتهم الى رعايا مستعبدين، وفي الوقت ذاته كان يعبر دائما" عن تعاطفه مع هذا الشعب الذكي والقدير – على حد تعبيره في احدى دراساته – وطالب بمعالجة عقلانية وحضارية للقضية الكردية، وكان اول دبلوماسي روسي أدرك في وقت مبكر أهمية هذه القضية وضرورة حلها ليس لتأمين مصالح روسيا فحسب، بل شعوب المنطقة ايضا"، لان هذه القضية اصبحت على مدى عدة قرون السبب الرئيس للصراع التركي – الايراني على مناطق الحدود الفاصلة بينهما ومحاولة كل طرف استغلال الكرد ضد الطرف الآخر.

كتب مينورسكي في عام 1905 يقول:(سوف تستقطب القضية الكردية الاهتمام الشامل ان عاجلا" ام آجلا") وبعد عدة اعوام كتب في احدى دراساته : (ان الحل الجوهري للمشكلة يكمن في تنفيذ اصلاحات اقتصادية واجتماعية (في كوردستان ج، هـ) وليس في تشكيل مجاميع متناحرة وتأليب الاقطاعيين الكرد الواحد ضد الآخر، كما يكمن في التخفيف من معاناة الرعايا المستعبدين وحث حكومته على الاسهام في اجراء هذه الاصلاحات قائلا" : (هذه الاصلاحات هي التي ستؤدي الى تعاطف الكرد معنا وليس حماية بعض الاقطاعيين).

ويقول مينورسكي، في دراسته النشورة في عام 1915 تحت عنوان : (الكرد : ملاحظات وانطباعات) (ان القضية الكردية هي احدىالقضايا المستقبلية الكبرى في الشرق الاوسط).

بعد ثورة شباط عام 1917 في روسيا (التي سبقت ثورة اكتوبر في العام ذاته) – وكان مينورسكي يشغل في ذلك الوقت منصب القائم بالاعمال الروسي في طهران – طرأت بعض التحولات الديمقراطية على الحياة السياسية في روسيا ذاتها، وقد اشار مينورسكي في تقاريره المرفوعة الى وزارة الخارجية الروسية، الى ضرورة تأييد حركة الشيخ محمود الحفيد والوعد بضمان الاستقلال او الحكم الذاتي للكرد).

 ويقول ميخائيل لازاريف : (بعد فترة وجيزة من التقرير الذي رفعه مينورسكي الى المسؤولين في بلاده، طلب الكرد انفسهم، مساعدة روسيا لهم في تحقيق امانيهم القومية، حيث وجه السيد عبدالله (الذي تزعم في تلك الفترة، انتفاضة معادية للحكم التركي في الجبال الواقعة شمال الموصل) رسالة الى نائب القنصل الروسي في أورمية (فاسيلي نيكيتين)، يخبره فيها أنه قد قام وهو في استانبول بتشكيل لجنة تحرير كردستان التي تستهدف تحرير الكرد من النير التركي، وعلى الرغم من الاقتراح الذي تقدم تقدم به العرب للاقتداء بهم – اي بالعرب – وطلب الحماية من الانجليز، الا ان اللجنة قررت طلب المساعدة من روسيا وهي تنتظر الرد الروسي للشروع بطرد العثمانيين.

 وقد رحبت السفارة الروسية في طهران برسالة اللجنة وكتب مينورسكي الى وزارة الخارجية الروسية يقول : (أرى من المهم كسب ود الكرد وبخاصة من وجهة النظر الحربية نظرا" لتأثير ذلك على خطة الهجوم المرتقب على الموصل، وليس اليوم وقت اخذ الخرافات القديمة (عن الكرد ج، هـ) بنظر الاعتبار، ولا يمكن حرمان الكرد من حق تقرير المصير، انني اؤمن ايمانا" عميقا" بان الشعب الكردي، شعب قدير يتميز بخصائص قومية واضحة ومتفردة).

 وقد رحبت قيادة الجيش القفقاسي باقتراح مينورسكي (وكلفت نيكيتين باجراء اتصالات مع السيد عبدالله–ودون تقديم اية وعود ملزمة او معونة مادية,مالم يدخل السيد عبدالله على رأس انصاره في عمليات فعالةضدالعثمانيين).

 وقد عارض مينورسكي سياسة بلاده التقليدية في استغلال القدرات القتالية العالية للعشائر الكردية وتوجيهها ضد الاطراف الاخرى، لان تلك السياسة لم تسفر عن فائدة تذكر وطالب بمد يد العون الى الكرد ومساعدتهم في التخلص من النير العثماني، وكتب الى وزارة خاجية بلاده يقول : (يجب ايلاء اهمية قصوى لمسألة كسب صداقة الكرد وليس تحريض العشائر الكردية على التحرك المسلح، لان جميع التحركات المماثلة لم تثمر في السابق سوى عن بعض الفوائد الضئيلة) ولا ننسى ان مينورسكي كتب ذلك في تقرير رسمي وفي اثناء الحرب العالمية الاولى حيث تعرض الشعب الكردي الى أهوالها بعد ان اصبحت كردستان احدى جبهاتها الرئيسية، وفي الوقت الذي كانت فيه الدول الامبريالية الكبرى مهتمة اساسا" بتحقيق اهدافها الاستعمارية.

 ومضى مينورسكي يقول في التقرير ذاته : (ينبغي ضمان السلام في البلاد (يقصد كردستان، ج، هـ) وتقديم العون الضروري وبضمنها المواد الغذائية الى الكرد، والاهم من ذلك الاعتراف بحق الكرد في تقرير مصيرهم) وفي تقاريره اللاحقة واصل مينورسكي حث حكومة بلاده على الاسهام في حل القضية الكردية لضمان الامن والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

 وفي الفترة ذاتها تقريبا" وجه الشيخ محمود الحفيد رسالة الى الحكومة الروسية يطلب فيها تقديم العون الى الحركة التحررية الكردية لقاء قيامه بمنع العشائر الكردية المعادية لروسيا من القيام بأي عمل ضد روسيا، كما وعد بتزويد القوات الروسية بالمواد الغذائية واقترح توحيد جهود الجانبين، الروسي والكردي من اجل تحرير الكرد من النير العثماني.

 وكان لجهود مينورسكي دور فعال في ايصال النداءات الكردية الى اعلى المستويات الرسمية في بطرسبورغ وفي استجابتها هذه المرة لمقترح مينورسكي في اجراء مفاوضات مع ممثلي الشعب الكردي، وقد أوعزت الحكومة الروسية الى نائب القنصل الروسي العام في مدينة اورمية، فاسيلي نيكيتين (المستشرق المعروف فيما بعد) بأجراء مفاوضات مع المندوبين الكرد، وقد تم ذلك فعلا"، حيث عقد الجانبان عدة اجتماعات في كردستان ايران، وربما كانت نتائج هذه المفاوضات ستغير مصير المنطقة، لكنها توقفت، اذ سرعان ما اندلعت الثورة البلشفية في روسيا والتي تبعتها انسحاب القوات الروسية من جبهات القتال في الشرق الاوسط، ولكن مينورسكي ظل طوال حياته صديقا" مخلصا" للشعب الكردي ونصيرا" لقضيته العادلة.

 

 

الملاحظات :

 (1) كان العلامة توفيق وهبي من أشد انصار نظرية مينورسكي عن أصل الشعب الكردي وقد كرس للدفاع عن هذه النظرية دراسة ممتازة نشرها في مجلة المجتمع العلمي الكردي تحت عنوان (اصل الكرد ولغتهم) فند فيها بشكل رئيس الاعتراضات التي وجهها الى تلك النظرية، المستشرق (ن. مكنزي) أنظر : مجلة المجمع المجلد الثاني الجزء الاول بغداد 1974.

 (2) أشرنا في سياق مقالنا هذا، الى معظم مؤلفات مينورسكي الكوردولوجية ومن يهمه معرفة المزيد عنها يمكنه الرجوع الى كتاب بيبلوكرافيا الكوردولوجيا لموسيليان الذي صدر في موسكو باللغة الروسية عام 1963. أو طبعته الموسعة الذي صدر عام (1996) في موسكو ايضا" في مجلدين والذي يتضمن أكثر من ثمانية آلاف عنوان.

 

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com