بحوث

تلازم الحرية والاختلاف والتعددية لا تتعارض مع مفهوم الأمّة

 نضير الخزرجي

إعلامي وباحث عراقي

 

 أينما دار الانسان ببصره في هذا الكون، وجد التعدد والاختلاف والتنوع في كل شيء ما خلا خالق الكون المتوحد في وحدانيته، الصمد في تفرده، فهو الواحد الأحد المتعالي الذي ليس له شريك، لم يلد ولم يولد، ولو كان له شريك في الملك، لفسدت السماوات والأرض، فكما ان لكل صاحب مصنع او معمل الحق الكامل في التصرف فيما تحت حيازته، فان لصاحب المصنع والمعمل الثاني كامل الحق في التصرف بما يملك، ولو اتحدت الملكية لوجدنا الاختلاف والتشرذم إذ يرى كل واحد منهم الحق في التصرف بما تهوى نفسه فيصبح المعمل عرضة للخراب، من هنا قرر تعالى انه: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}(سورة الأنبياء: 22)، فالله سبحانه هو الأحد الذي ليس له ثان.

 فالوحدة البسيطة هي لله الواحد الأحد بإطلاق، وكل ما عدا الله هو متعدد، وابتغاء توحيده لن يكون إلا في إطار القبول بالتعدد، أما محاولة صب الناس جميعا في قالب واحد، فهذه وحدة مصطنعة تجافي فطرة الإنسان التي فطر الله عليها وهي فطرة الاختلاف والتعدد، وإذا كانت الرؤية الإسلامية قد قصرت "الوحدة" التي لا تركّب فيها ولا تعدد لها على الذات الإلهية وحدها، دون كل المخلوقات والمحدثات والموجودات، في كل ميادين الخلق المادية والحيوانية والإنسانية وتلك التي قامت جميعها على التعدد والتزاوج والتركب والإرتقاق .. فإن هدى الرؤى الإسلامية تكون، بهذا الموقف الثابت- ثبات الإعتقاد الديني- بل جوهر هذا الإعتقاد، قد جعلت من التعددية، في كل الظواهر المخلوقة, "سنّة" من سنن الله, سبحانه وتعالى، في الخلق والمخلوقات جميعا، و"آية" من الآيات التي لا تبديل لها ولا تحويل. إنها "القانون" الإلهي و "السنّة" الإلهية - الأزلية الأبدية- في ميادين الكون المادي والإجتماعي الإنساني، وشؤون العمران وميادينه .. وبها تتميز وتختص "الوحدانية" في ذات "الحق" .. كما تتميز وتختص "التعددية" بكل ظواهر "الخلق".(1)

 فالذي لا يمكن ان نتصور له شريكا في الألوهية، لا يمكن ان نتصور له مشابها او معادلا، لانعدام التشابه والشراكة في الأساس، وحتى في الانسان المخلوق الذي برأ الله نسمته فانه رغم تعدد الكائن البشري وعلى مر الأجيال، فإننا من الصعب ان نجد إنسانين متطابقين مئة في المئة، بل يستحيل ذلك وحتى وان تقارب الشبه بين اثنين، وحتى في التوأم، فانه ان تشابهت ملامح الوجه، فتبقى هناك أوصاف جسدية ونفسية يستحيل تطابقها، ولهذا عُدّت آية البنان: {أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه. بلى قادرين على أن نسوّي بنانه}(سورة القيامة:3 و4) واحدة من معاجز القرآن الكريم، لأنه يستحيل ان تتطابق خارطة بنان إنسانين على وجه البسيطة منذ خلق آدم (ع) وحتى يوم القيامة، فرغم التشابه الذي يوحي بالتوحد والذوبان بين التوأمين، فان لكل منهما مورثه الجيني الذي يختلف عن الآخر، ولو كان التوأمان يحملان المورثات الجينية نفسها ومتطابقة كليا لما اختلفت على سبيل المثال خارطة البنان، فهي على علاقة مباشرة بالمورثة الجينية التي تعطي لكل انسان صفته الخاصة به.

 

العلم يقر بالتعدد

 وحتى في مجال الاستنساخ او عملية الاستنسال الذي راجت في نهاية القرن العشرين بعد استنساخ النعجة دوللي العام 1996م, فانه يستحيل انتاج انسان يحمل جميع صفات الانسان التي اخذت منه الخلية(2)، وهذه المرة تأتي الاختلافات من اعتبارات اخرى، يقول الأكاديمي العراقي الاستاذ في جامعة بيرمنجهام البريطانية الدكتور محمد الربيعي: "انه من المستحيل استنساخ (أو الأصح استنسال) المتوفين من قبل مئات السنين لانه لا يمكن استعادة كل مادتهم الوراثية من دون عطب حتى وان تم ايجاد أجسامهم، ولا يمكن استنسال الاحياء بعقولهم وعبقريتهم، لان النسل الناتج سيكون شبيها جسميا فقط للاصل حيث لا يمكن اعادة مؤثرات بيئة الرحم أو البيئة العائلية والاجتماعية أو البيت أو المدرسة أو الأب أو الأم الأصل. كيف يمكن لنسلة المتوفى أن تمر بنفس تجربته الحياتية وأن تعيش نفس حياته في مرحلة زمنية مختلفة وتحت مؤثرات لا حصر لها. التنسيل بافتراض حدوثه لن يلغي التفرد والخصوصية والتميز عند الانسان لان النسل ستكون لها شخصياتها المستقلة كالتوائم فهي لا تختلف عنها من الناحية الوراثية والبيولوجية، والفرق الوحيد هو ان النسلة فرد يشابه اخاه الذي اخذت منه الخلايا لتزرع وتنقل الى رحم امرأة".(3)

 فالتشابه امر يستحيل حصوله في هذا الكون بين مختلف المخلوقات. من هنا، اعتمد رسم البنان منذ ان اكتشف الانسان ذلك في التمييز بين الأفراد، وبخاصة في مجال عمل السجلات والوثائق والشرطة وغير ذلك. فكما خلق جل وعلا الملائكة أصنافا متفاضلين، كذلك خلق الانسان، إنها سنة الله العامة الجارية في كافة مخلوقات الله، فهو لم يخلق خلقين متشابهين تمام التشابه، بل أبدع ونوّع حتى في (البنان) فكيف بالروح والجنان .. وذلك من اكبر الأدلة على قدرته المطلقة وخلاقيته الشاملة. بل ان العلم الحديث اخذ يعتمد على خارطة اذن الانسان في التعرف على الانسان المطلوب والتمييز بين انسان واخر.(4)

 توضح الاكتشافات العلمية في بدن الانسان وبجلاء، استحالة تطابق إنسانين في كل الصفات الجسدية والنفسية والعقلية، وإذا كان هناك من تطابق، فهو ما يطلق عليه بالشبه، بل ويذهب الباحث العراقي الشيخ القرشي الى ان المساواة التي أعلن عنها الاسلام، إنما هي من باب التجوز: "إذ يستحيل نشدان المساواة مائة في المائة، إذ ليس المقصود من المساواة التي أعلنها الاسلام هي المساواة الطبيعية بين الناس وهي تساويهم في اللون والشكل فإنها غير ملحوظة في نظر الاسلام ولا يعقل إرادتها ووجودها، فان الناس قد خلقوا غير متساوين في اللون والشكل والتكوين، والعقل والذكاء والأخلاق والميول والطبائع، ويستحيل التساوي بينهم من هذه الجهة".(5) فقد خلق الله تبارك وتعالى نفوس الناس على أنماط مختلفة، كما خلق الناس على أشكال مختلفة.(6)

 وهذه حقيقة لا يكابر أحد في وجودها، فعلى سبيل المثال، أقرّ الاسلام في التشريعات المساواة بين أبناء البشر من حيث الحكم، أما من حيث الموضوع وتوفر مفرداته وصولا الى تطبيق حيثيات الحكم فهي خارجة عن نطاق المساواة وخاضعة لاعتبارات عدة تمليها قدرة الانسان على توفير مستلزمات الموضوع، فعلى سبيل المثال فان الحج يتساوى في حكم وجوبه بين الذكر والأنثى، الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، العربي والأعجمي, وبين الحجازي والقوقازي، ولكن ربما توفرت ظروف الحج للقوقازي ولم تتوفر لدى الحجازي مع قرب المسافة للحجازي عن المشاعر المقدسة وبعدها للقوقازي، فالمساواة قائمة بين الاثنين من حيث الحكم وهو الوجوب، ولكن المساواة غير قائمة من حيث موضوع الحكم وهي الاستطاعة كما يفهم بوضوح من مدلول آية الحج {ولله على الناس حِج البيت من استطاع إليه سبيلا}(سورة آل عمران:97).

 

صنفا التنوع وخصائصه

 ويقرر بعض علماء الدين ان التنوع في الانسان على نوعين، تنوع جعلي تكويني ليس للإنسان دخل فيه وتنوع كسبي اختياري، خاضع لإرادة الانسان، فالصنف الاول تنوع طبيعي تكويني، وجد الناس أنفسهم ضمنه، من دون اختيار منهم، حيث لا يستشار أحد، ولا يخبّر قبل مجيئه الى هذه الدنيا في انتمائه العرقي أو القومي، ولا في ملامح شكله ومظهره ... وهذا التنوع الطبيعي تم بأمر الله ومشيئته، لذلك يُعبّر عنه تعالى بالجعل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل ..}(سورة الحجرات: 13) فالله تعالى هو الذي جعلنا متنوعين في أعراقنا وقومياتنا وشعوبنا.

 الثاني: تنوع اختياري كسبي، يرتبط بقناعات الانسان وأفكاره، ونمط سلوكه واتجاهه، فكل انسان هو الذي يقرر ما يعتنق من دين، وما يؤمن به من فكر، وما يرتضيه لنفسه من ثقافة وسلوك، وتبعا لذلك تتعدد الأديان بين الناس وتختلف المدارس الفكرية وتتنوع التوجهات السياسية.(7) ويرى كاتب آخر ان لكل انسان صنفين من الخصائص، ولهذه الخصائص علاقة كبيرة في إعطاء كل انسان شخصيته وذاته واستقلاله، وهي عبارة عن:

1- الخصائص الذاتية أو الأولية: وهي التي تدخل في ذات الشيء وطبيعته وحدوده، فتوجد مع الشيء وتنعدم بانعدامه فتستعمل فيها كلمة الخَلْق.

2- الخصائص العرضية أو الثانوية: وهي التي لا ترتبط بذات الشيء وطبيعته فلا يكون انعدامها سببا لانعدام الشيء، وهذه تكون:

أ- إما خصائص فطرية كحب الخير ومجانبة الشر والميل الى الانقياد الى الله والدين.

ب- إما خصائص عارضة حيث تطرأ على الشيء بعد تحققه ووجوده كالميل الى بعض العلوم والفنون الجميلة فإنها إكتسابية تحصل من المراجعة والفهم ومناسبتها مع طموحات الانسان.(8)

 

حتمية الإختلاف والتنوع

 ما من شك أن الاختلاف والتعدد والتنوع: "ظاهرة طبيعية وظاهرة انسانية وجدت منذ بداية وجود الانسان وسوف تستمر هذه الظاهرة الى نهاية هذا الوجود، ظاهرة انسانية أريد منها ابتلاء هذا الانسان واختباره في حركته التكاملية".(9) يقول السيد اسحق فرحان أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي الأردني السابق: "نحن نؤمن بان الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين ومتفاوتين وجعلهم شعوبا وقبائل، يتكلمون لغات مختلفة رجالا ونساء، ولم يقصد بهذه الاختلافات التناحر والتقاتل بل التعارف والتعاون، ومن هنا فنحن نرى في التعددية في الأديان والأيديولوجيات والمذاهب الفلسفية أمرا يتناسب وطبيعة الخلق".(10)

 ويعاضده في الرؤية الكاتب سليم الهلالي في كتابه (مؤلفات سعيد حوى) مؤكدا: "ان الفرقة أمر قدري واقع لا محالة لقوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}(سورة هود:119)، وقوله (ص): سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة - أي القحط – فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها، وقوله عليه السلام: وان هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين".(11) فالإقرار بشرعية الاختلاف أمر لا بد منه. وعلى الإنسان ان يقر بشرعية الإختلاف بين الأفراد: "كاختلاف العقل والفطرة وغيرهما، باعتبار طبيعة الإنسان في الحياة وسنة شرعية أكدها القران الكريم".(12)

 وبضميمة الآية 119 من سورة هود الى الآية 99 من سورة يونس: {ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وإلحاق معهما الآية 31 من سورة الرعد: {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} باضافة الآية 24 من سورة سبأ: {وإنّا وإيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} وغيرها، لظهرت لنا الصورة جلية على حتمية التعددية، وإلا فحسب منطوق الآيات الشريفة كان بإمكان الباري تعالى وبمشيئته أن يهدي الناس جميعا، ولكن الهداية القسرية تتعارض مع قيم الحرية والإختيار، ومبدأ الثواب والعقاب.

 والتعدد ليس سمة عالم الدنيا فحسب: "بل هو سمة عالم الاخرة ايضا، فالفائزون بالجنان هم أيضا يعيشون حياة متنوعة، وليست رتيبة"(13) والى هذا اشار القران في اكثر من موضع، فقد وضع الناس يوم القيامة في ثلاثة منازل، طبقة في النار وطبقتان في الجنة، وبين الطبقتين تفاضل، قال تعالى:{وكنتم أزواجا ثلاثة. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة. والسابقون السابقون. أولئك المقربون}(سورة الواقعة: 7 الى 11) أو قوله تعالى: {فأما إن كان من المقربين. فروح وريحان وجنت نعيم. وأما ان كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب اليمين. وأما ان كان من المكذبين الضالين. فنزل من حميم}(سورة الواقعة:88 الى 93). ويذهب بعض المفسرين، ان هذه الآيات حاكية عن مراتب الناس عند الموت، والآيات من 7 الى 11 من السورة نفسها حاكية عن مراتبهم ومنازلهم يوم القيامة، وأما مراتبهم في الدنيا فتتحدث عنها آية 32 من سورة فاطر: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير}، فالظالم: إشارة الى أصحاب الشمال، والمقتصد: الى أصحاب اليمين، والسابق بالخيرات علامة على: "السابقون السابقون".

 ونقرأ هذه المراتب بوضوح في سور عدة من القران مثل سورة الانسان والمطففين(14) فالتعدد والاختلاف في كل جزئية من مكونات الحياة امر قدري وحتمي ليس للانسان حيلة فيما هو فيه ومايحيط به، فالتعدد سنة ليس له ان يبدلها او ان يغير من خارطتها، وانما يتحرك ضمن حدودها، قال تعالى في محكم كتابه الكريم: {ولن تجد لسنة الله تبديلا}(سورة الأحزاب: 62) {ولن تجد لسنة الله تحويلا}(سورة فاطر: 43).

 

التعددية ومفهوم الأمّة

 وفي خضم الحديث عن شرعية التعدد والتنوع، يتبادر للذهن امكانية قيام التعارض بين التعددية بأشكالها المختلفة مع دعوة الاسلام الى الامة الواحدة. ان مثل هذا التعارض يمكن توقعه لو أفضى الى التنازع والتشرذم لحرمة التنازع بلحاظ العقل والعرف وبنص القرآن الكريم: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم..}(سورة الأنفال: 46)، لكن التعدد يبقى في اطار التنوع والتخصص، المؤدي الى التكامل، وهو لا يتعارض اساسا مع نشدان الوحدة والامة الواحدة، ويرى العوا، ان: "قوله تعالى {ان هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} سورة الأنبياء:92، والمراد في هذه الآية، وفي جميع الآيات الأخرى الجارية مجراها، وحدة الدين المتمثل في اخلاص العبودية لله وحده وعدم اشراك أحد معه من دونه".(15)

بل ويمكن الذهاب الى قوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة}(سورة البقرة: 213) وما بعدها اشارة الى واقع التنوع والتعدد الذي حصل بعد المرحلة الاولى من وجود البشرية على وجه البسيطة، ويؤكد البروفيسور عبد العزيز ساجدينا استاذ الدراسات الدينية في جامعة فرجينيا الاميركية ان مفهوم الامة الواحدة رغم الاختلاف في الأديان والعقائد والمذاهب لازال قائما بلحاظ استمرار جميع أصحاب العقائد السماوية الإيمان: "والمشاركة بمبدأ الإنسانية"(16)، أي أن الإنسانية توحد بني البشر جميعهم في اطار الأمة الواحدة.

 ولا يرى الشيخ شمس الدين (1936-2001م) تعارضا بين مفهومي التعددية والوحدة وذلك انطلاقا من قاعدة (التعاون على البر والتقوى) التي أقرها الاسلام في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}(سورة المائدة: 2)، فهو في معرض التساؤل لاستنطاق الجواب يقول: "ان الوحدة – وحدة الأمة- وهي ضرورة فكرية – عقيدية وفقهية اسلامية- هل هي وحدة اندماجية كاملة تنحلّ فيها جميع التنوعات الداخلية في المجتمع الاسلامي لحساب التكوين المجتمعي الواحد؟ أو انها وحدة لا تلغي التنوعات الداخلية/قبائل-شعوب/ قوميات مدينية متحضرة.

ربما كانت الصيغة الثانية هي الظاهرة من النصوص وعلى رأسها الآية المشار اليها (سورة الحجرات/مدنية:49 الآية:13) {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر أو انثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير}، والواقع التاريخي للإسلام كما صنعه الخلفاء الأربعة الأولون. ولكن شرط ألاّ تكون التنوعات عبارة عن مجتمعات سياسية داخل المجتمع السياسي الواحد الذي تتشكل فيه الأمة، ولا تكون صيغة المجتمع الاسلامي السياسي صيغة تعددية على المستوى السياسي والتنظيمي الداخلي، وانما يكون كل تنوع اطارا للعلاقات (الانسانية) بين أعضائه كما يقضي بعد (التعارف) المفضي الى (التعاون)".(17)

 وأميل الى ما ذهب اليه الشيخ الحسيني (ت 2003) من ان: "التعددية ليست هي اتجاهات مبدئية يختلف بعضها عن البعض وكأن لكل منهم عقائدهم ونظمهم وتقاليدهم وطقوسهم الخاصة المميزة. ان هذا الفهم مرفوض في الشريعة الاسلامية حيث الكل ذو اصول مشتركة وهدف واحد، انما هي اجتهادات في الأسلوب واختيار الأنجح في العمل والأقرب لتحقيق الهدف. وبالتالي فهي أعمدة لبناء وحدة يرتكز عليها المجتمع في نهضته ومسيرته في الظروف العادية أو المضطربة".(18)

 واشتهر على ألسنة المفكرين المسلمين مقولة (التعددية في اطار الوحدة) و(التنوع في اطار الامة الواحدة) وهي مقولة مبنية على قاعدة التوالف بين فطرية التنوع والتعدد والوجوب الشرعي للوحدة والتوحد، من حيث ان وجوب الوحدة والتوحد في اطار الامة الواحدة لا يلغي فطرية التعدد والتنوع شريطة ان يكون مبتنى (التعددية في اطار الوحدة) هو التعاون على البر والتقوى في اطار مرجعية الاسلام، وكما يقول الدكتور عمارة: "فان التعددية الموزونة بميزانها، لابد وأن تكون تميزا لفرقاء يجمعهم جامع الاسلام، وتنوعا لمذاهب وتيارات تظلها مرجعية التصور الاسلامي الجامع، وخصوصيات متعددة في اطار ثوابت الوحدة الاسلامية، الأمر الذي يجعل هذه التعددية: نموا وتنمية للخصوصيات، مع احتفاظ كل فرقائها، وأطراف الخصوصيات، وأفراد التنوع بالروح الاسلامية، والمزاج الاسلامي، تواصل الفروع مع اصل الشجرة لكلمة الاسلام، التي هي بلاغ الله الى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان هذا الرسول الى العالمين.

بهذا المنظار والمنهاج يكون النظر الاسلامي الى قضية التعددية.. فيراها قانون التنوع الاسلامي في إطار الوحدة الاسلامية".(19)

 وبتقديري ان الإيمان بالتعددية والتنوع لا يتنافى مع طاعة الامام او التمحور حول المرجعية الدينية والسياسية الواحدة، لان المرجعية الواحدة هي معقد كل التنوعات وينبغي ان يكون الأمر كذلك والاّ انتفت الحاجة الى الامام او المرجعية التي تقود مختلف أصناف وطبقات الناس الى الصراط السوي، فمن أولى مهمات الإمام أو المرجعية السياسية او الدينية هي جمع المختلف وشد المؤتلف على قاعدتي (التعارف) و(التعاون)، لاستحالة صهر كل الناس بمختلف أطيافهم في بوتقة واحدة.

 

الهوامش:

(1) انظر: عمارة، د. محمد "التعددية .. الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية" مجلة الجامعة الإسلامية (لندن, الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، السنة 1، العدد 2، 1414هـ/1994م) ص68-69.

(2) راجع: الميلاني، د. فاضل "ماذا قال الفقهاء في الاستنساخ والهندسة الوراثية" مجلة الرأي الآخر (لندن، مركز التثقيف الإسلامي، السنة 1، العدد 56، 1421هـ/2001م) ص11.

(3) راجع: بحر العلوم، السيد حسن السيد عز الدين، الاستنساخ البشري وموقف الشريعة الإسلامية (الكويت، شركة مكتبة الألفين، الطبعة الثانية 1419هـ/1999م) ص16.

(4) انظر: الشيرازي، السيد مرتضى، شعاع من نور فاطمة (ع) (الكويت، هيئة خدام المهدي وجنان الغدير، الكويت، الطبعة 2، 1422هـ/2001م) ص114-115.

وانظر: دستغيب، السيد عبد الحسين، المظالم, ترجمة السيد هادي سليماني (الكويت، مكتبة الألفين، الطبعة 1، 1415هـ/1994م) ص124.

(5) القرشي، الشيخ باقر شريف، نظام الإسلام السياسي (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 2، 1398هـ/1978م) ص204.

(6) انظر: الشيرازي، السيد محمد، سقوط بعد سقوط (الكويت، لجنة الإمام المهدي للطباعة والنشر والترجمة، الطبعة 1، 1420هـ/1999م) ص40.

(7) للمزيد، راجع: الصفار، الشيخ حسن، التنوع والتعايش .. بحث في تأصيل الوحدة الإجتماعية والوطنية (بيروت، دار الساقي، الطبعة 1، 1999م) ص41-42.

(8) للمزيد, راجع: بحر العلوم، السيد حسن السيد عز الدين، الاستنساخ البشري وموقف الشريعة الإسلامية (مصدر سابق) ص31-32.

(9) انظر: الحكيم، السيد محمد باقر "العمل السياسي في الإسلام" صحيفة لواء الصدر (طهران, السنة 18, العدد 911، 1420هـ/1999م) ص5.

(10) فرحان، اسحق أحمد "الإسلاميون والمسيرة الديمقراطية في الأردن" مجلة النور (لندن، دار النور للنشر، العدد 34، 1414هـ/1994م) ص25.

(11) حيدر، خليل علي, الحركة الدينية حوار من الداخل (الكويت، شركة كاظمة للنشر والترجمة والتوزيع، الكويت, الطبعة 1، 1987م) ص56.

(12) البحراني الجمري، حسن الغسرة, التعصب وتدمير الذات (بيروت، مؤسسة البلاغ، الطبعة 1، 1421هـ/2000م) ص91.

(13) انظر: شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، من مقدمة لكتاب: التعددية والحرية في الاسلام للشيخ حسن الصفار (بيروت، دار المنهل، الطبعة 2، 1416 هـ/1996م) ص6-7.

(14) للمزيد, راجع: عبد الرحمن بن ابي بكر السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج7 (بيروت، دار الفكر، 1993م) ص26.

(15) التميمي، د. عزام، مشاركة الاسلاميين في السلطة، بحث لـ (محمد سليم العوا) بعنوان: التعددية السياسية من منظور اسلامي، (لندن، منظمة ليبرتي- الحرية للعالم الاسلامي- 1994) ص33-34.

(16) Pro Abdulaziz Sachedina, THE ISLAMIC ROOTS OF DEMOCRATIC PLURALISIM, Oxford University Press, New York, First Published 2001,p22.

(17) شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، في الإجتماع السياسي الاسلامي، (قم ايران، دار الثقافة للطباعة والنشر، ط1، 1414هـ/1994م) ص161.

(18) الحسيني، الشيخ محسن، نظرات في الوحدة الاسلامية، (طهران، مكتب الشيخ الحسيني، مطبعة مظاهري) ص49.

(19) عمارة، د. محمد، "الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية"، فصلية الجامعة الاسلامية (مصدر سابق) ص69.

 

الرأي الآخر للدراسات - لندن

 alrayalakhar@yahoo.co.uk

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com