بحوث

الصوفية ومخاطر المبالغات في التدين

 خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

  هناك وجد انساني جامح ، يحلّق باتجاه معرفة كنه الاشياء ، وهو لايقوى على وضع اليد على الحقيقة ، والبصر على طلعة السمو الأول ومكان الاسرار ومغاليق الحقائق .

 يجنح هذا الوجد الى التشبث بالحب والحنين والتعبد من اجل يقين ما ، فيشطح في رؤآه وربما يهلوس في تصوراته ، وهنا نشير الى ان الشاعرية تطغى في الكثير من نصوص المتصوفة على موجبات الحقيقة والواقع ، ودلالته ماقاله الحلاج عن ان الله يفتح باب الذكر على عباده ويوحدهم به ، وهو القائل أيضا :

 أنا أنت بلا شك ٍ فسبحانك سبحاني .

  ومع ذلك فهناك من يبرر مايذهب اليه بعض المتصوفة .. هذا هو الدكتور حسن الشرقاوي في كتابه ألفاظ الصوفية ومعانيها ، ينظر الى المسألة من زاوية اخرى فيقول :

  " اذا قال الصوفي في حالة شطح او وجد او سكر ، - انا انت وانت انا – فلا يقصد بذلك حلولا ولا اتحادا وانما يقصد انه لايرى في هذا الوجود الاّ الله سبحانه وتعالى ، وكما يقول أحد أئمة الصوفية وهو ذو النون المصري مناجيا ربه قائلا له :

 " الهي ... ما أصغيت الى صوت حيوان ، ولا الى حفيف شجر ولا خرير ماء ، ولا ترنم طائر ، ولا تنعم ظل ، ولا دوي ريح ولا قرقعة الا وجدتها شاهدة ، بوحدانيتك دالة على انه ليس كمثلك

 شئ . " .

  ويهتف صوفي آخر قائلا :

 ومن أنت ياربي أجبني فانني

رأيتك بين الحسن والزهر والماء ِ

 فلايقصد الصوفي القول بالحلول والاتحاد او الاندماج والوحدة بين الخالق والمخلوق او بين العبد وبين الرب ، ولكنهم في نفس الوقت يرون ان العالم الظاهر لا وجود له على الحقيقة ، وان الموجود الحق هو لا اله الاّ الله ، هذا هو منطقهم ودليلهم في العمل ... " ... ]

  وهنا- بادئ ذي بدء - تخريج اعتباطي من قبل الدكتور الشرقاوي فمقولة الحلاج واضحة وتعني ماتقول : " " اذا اراد الله أن يوالي عبدا في عباده ، فتح عليه باب الذكر ، ثم فتح عليه باب القرب ، ثم اجلسه على كرسي التوحيد ، ثم رفع عنه الحجب ، فيريه الفردانية بالمشاهدة ، ثم أدخله الفردانية ، ثم كشف عنه الكبرياء والجمال ، فاذا وقع بصره على الجمال بقي بلا هو ، فحينئذ ٍ صار العبد فانيا وبالحق باقيا ً " .

 وثانيا : ان القول " ان العالم الظاهر لا وجود له على الحقيقة ، ........" ، فهذا يشطب على كلمة الخلق والوجود والحضور الذي هو – من وجهة نظر مثالية - نتاج لفعل الخالق ! اننا موجودون بفعل ارادة مهما كان نوعها والعالم ملموس ومحسوس ومن البذاءة الغاء كينونتنا . ان وقع كلمة اننا لاشئ واننا غير موجودين واننا وهمٌ واشباح او غبار يسقطنا في مطب الدونية والعزلة والانكفاء والنوم الأبدي في الحياة الدنيا ويبعدنا عن ضرورة أي فعل ايجابي بينما الأديان جميعا تدعو الى العمل الروحاني والمادي ، وواقعنا يملي علينا الاشتراك في التضافر العلمي للامم .

 أما قصيدة ميخائيل نعيمة " يارفيقي "ففيها تجسيد للفضيلة العظمى ! ان الجميع يجلسون على مائدة الحياة :

 " قل هبطنا على الحياة ضيوفا

لا ولاة ندير منها خطاها

او قضاة نقضي لها وعليها

او غزاة نبتز منها حلاها

فجلسنا الى خوان ٍ أنيق ٍ

بسطت فوقه الحياة غناها

وأكلنا ولم نمس برجس ٍ

وشربنا ولم ندنس شفاها

ولعمري ما الرجس والكفر الاّ

أن نرى في جنى الحياة بلاها

وجناها يذيع فينا الإلها "

 اننا الضيوف حسب الشاعر ميخائيل نعيمة ، نغتني بغنى الحياة عبر جناها الالهي الذي يشيع فينا الطهر بعيدا عن الرجس والكفر الذي هو البلاء في الحياة . كل مايجتنى بطهر من الحياة انما يذيع فينا الجمال والنشوة والطاقة الالهية الهائلة الروعة . وهنا وعند حدود الايمان المترع بالنشوة اياها يجري وهج المحبة .

 لم يذهب شاعرنا ميخائيل نعيمه الى ماذهب اليه البعض فيما غالوا وادعوا بهذا الدافع او ذلك السبب . والمعروف ان بعض مذاهب الغلو قديمة وانها تنتقل من عصر الى عصر ، ويقال ان فرعون كان على مذهب الحلولية ، فلذلك ادعى انه رب العزة . وياترى كم من فرعون ادعى كونه ظلا لله على الأرض ، ان مبدأ حلول الطاقة الالهية في اجساد الحكام والرؤساء والخلفاء والامراء الخ خرافة وزيف وتدجيل . وما على المؤمن الأ ان ينزه كلمة الله عن هكذا هلوسات لأنها واقع الحال تعود على الشعوب بالاستغلال وسفك وامتصاص دمها وتمييزها وفق ارادة الفرد على سواها من المحيط اشخاصا اوجماعات ٍ او دولا .

 ان مايعوض ادعاء الحلول في الحياة او الظن بالرؤية او الاقتراب او ماشابه هو التعلل بالقرب بعد وداع الحياة ، من الملكوت . وهذا ماورد لدى الشاعر ايليا ابي ماضي في قصيدة " بين مد وجزر " وهي المعبرة عن حالة ايمانية مفادها ان الارواح في النهاية تفنى في الاله السامي . ان الاله خالد وهو مرجع الارواح ومسكنها الختامي ، والقصيدة موجهة الى جورج صيدح :

  " وسنلتقي وان افترقنا في غد ٍ

في حب لبنان ٍ وحب الشام

وستلتقي روحي وروحك بعدنا

تفنى الهياكل في الاله السامي . " .

  ان اللقاء في الجنان هنا ادعى لراحة البال الفلسفي ! فهناك امل يداعب الشاعر بالسعادة في انه سيعبر جسر الموت الى حديقة خضراء وهذا الأمل هو ادعى للطمأنينة منه الى الشعور بأن جثة الكائن المقبور ستستحيل الى بقعة ترباء تتلاشى مع الأزمان وتعود لتتطاير في فناء لامتناه ٍ .

ومع ذلك ففي ذاكرة الانسانية ومض احمر يقدم نفسه بصفته حزمة شك ويقين ، وللانسان الحق بالتفكر بكل شئ مادام يمتلك عقلا متحركا غير سكوني ومن يمنع الدماغ من التفكير كمن يغلف تفاحة ويمنعها من الهواء فتفسد دون سواها بأيام

وساعات قليلة . يقول الزهاوي :

 رأيت الهدى في الشك والشك لايهدي

كأني في الظلماء قد كنت استهدي

فطورا أقول الروح كالجسم هالك

وطورا أقول الهلك عنه على بعد

فيالك من شك ٍ يبرح بي ولا

يبارحني حتى اوسّد في لحدي

 الأ ان اليقين ، عدا التأملات الملتهبة بالوجود والخلق ، هو الخاتمة المفجعة التي جاءت على لسان ألزاهد أبي نؤآس :

  " وما المرء الأ هالك ٌ وابن هالك ٍ

وذو نسب ٍ في الهالكين عريق ِ ".

 فلا فرعون باق ٍ ولا كل من تبوء عرش السلطة المؤقتة او الدائمة ! او تحلى بمناصب يستحقها او لايستحقها :

 التفاتة واحدة الى الحياة في هدأة وجدانية نقية خالية مما يشوبها من غرضية ومصلحية تدعونا الى ضرورة حلولنا في الأرض مثل بذرة حالمة بالتفتح عطرا ووردا وثمرا للانسان والانسانية وتلك ارقى درجة اقتراب من الحق العظيم .

 ولو كانت الجهود الصوفية مبذولة من اجل تقدم الانسانية لشكلت اضافة مرموقة في ذاكرتنا فبذرة في الارض هي اكبار للسمو اياه ، لكن الامر اشتط كثيرا ولذا استحق تقييما قاسيا ً ضد كبار

المتصوفة .

 في كتاب خواطر الترحال ص117 للأديب الطيب صالح في مقالة بين الاكبريين في اكسفورد ، يقول : " الامام ابو حامد الغزالي رحمه الله ، قال في متنه الجامع – احياء علوم الدين – مامعناه ان الحلاج لم يكفر ولكنه أساء الأدب . والشيخ محيي الدين بن عربي أيضا ، لام الحلاج لأنه – عربد- وأساء الأدب " .

 ان البذار بين الناس افضل واجدى الف مرة من العربدة او مجرد ادعاء القرب من أي سمو كان أرضيا ام سماويا . فالأول مروج محبة والتالي مزالق دامسة ومهاو ٍ خطيرة تأخذ بالجيل الى الوهم والخرافة والى الكذب على الذات والى تخلف منطقتنا المتخلفة اصلا ! .

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com