بحوث

المرأة في مؤلفات توفيق الحكيم

سارة خيري

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين.

أما بعد، فإن بحثي هذا ( المرأة في مؤلفات توفيق الحكيم ) جاء بسبب شغفي بكتابة هذا الكاتب الذي عرف بأنه ( عدو المرأة ) وأردت من بحثي هذا أن أبين حقيقة المرأة في نظر هذا الكاتب وسبب هذه النظرة.

وقف الحكيم في شبابه موقفاً سلبياً ورجعياً تجاه المرأة وتحررها، إذ عدها رمزاً لكل ما هو مادي وأرضي في الحياة، ورأى فيها لهذا السبب عدواً خطيراً للفنان والعبقري وذلك لأنها تحول بين الفنان وبين الإنتاج الفني الرفيع ولعل هذا الموقف من المرأة يعود إلى فشل تجاربه الأولى مع المرأة وقد جعل الحكيم هذا الموقف من المرأة محور سلسلة من المسرحيات والمؤلفات بدأها بمسرحية ( المرأة الجديدة ) في عام 1923م ففي هذه المسرحية يشن الحكيم هجوماً ضارياً على المرأة ويقلل من دورها في الحياة ومن نهضتها وتحررها ويرى في سفور المرأة خطراً على كيان الأسرة والمجتمع لأن السفور كما يرى يصرف الرجل عن الزواج ويؤدي إلى انهيار الحياة الزوجية وتزعزعها وإن مسرحية المرأة الجديدة تنطلق من فكرة ذهنية مفروضة فرضاً على أحداث المسرحية وشخصياتها وهي أن السفور يبعد الشبان عن الزواج وأن الإختلاط بين الجنسين يزعزع الحياة الزوجية ففي المسرحية نلتقي بسيدة متزوجة تدعى نعمت وفتاة تدعى ليلى وهما من المتحمسات لمبدأ السفور ونهضة المرأة ونرى الأولى تتخلى بسهولة عن زوجها وتصادق رجلاً آخر والثانية لاتعترف بالزواج وإنما تنشد الصداقة بين الرجل والمرأة وتمر الإثنتان بسلسلة من المواقف الكوميدية التي يسخر فيها الحكيم من سلوك وفلسفة هاتين المرأتين المعتنقتين لمبدأ التحرر للمرأة ويعلن بانفعال أن تحرر المرأة كارثة كبرى على الأسرة و المجتمع.

وفي مسرحية (جنسنا اللطيف) في عام 1935م نجد ثلاث نساء متحررات الأولى طيارة و الثانية محامية والثالثة صحفية يحملن قسراً زوج الطيارة على الطيران مع زوجته وواضح أن الحكيم يصور في المسرحية أيضاً النتائج الوخيمة التي تنجم عن تحرر المرأة كالعبث بمصير الرجل وحمله على ما يكره.

ولاأظن أننا بحاجة إلى مناقشة مثل هذه الأفكار الرجعية المتعلقة بالمرأة وحسبنا أن نقول بأن الأيام أثبتت بصورة جلية خطأ وبطلان مثل هذه الأفكار الإجتماعية وأصبح واضحاً أن المجتمع الذي لاتتحرر فيه المرأة لايمكن أن ينهض أو يرتقي سلم التقدم والحضارة هذا ومن ناحية أخرى نجد أن للحكيم موقفاً آخر من المرأة هو نقيض الموقف الأول أعني الموقف الذي يتجسد فيه الإعتراف بدور المرأة الإيجابي في الحياة وإعتبارها المصدر الأول للإلهام الفني بالنسبة للفنان غير أن الموقف يبدو شأنه شأن الموقف الأول موقفاً مثالياً لايستند إلى أسس واقعية وموضوعية فمسرحية (( الخروج من الجنة )) تدور حو ل إمرأة من طراز غريب جداً يكاد لايكون لها وجود في الواقع، امرأة تعيش بكل حب ووئام مع زوجها الفنان إلا أنها تلجأ إلى اسلوب غريب وشاذ لجعل زوجها يبدع في الفن إذ تكتم حبها لزوجها وتتظاهر أمامه بأنها لم تعد تحبه وذلك حتى يكتوي الزوج بنار الألم فيكون ذلك حافزاً له على الإبداع عملاً بالمقولة القائلة: (( لاشيئ يجعلنا عظماء غير ألم عظيم )). ثم لاتكتفي الزوجة بكتمان حبها عن زوجها وإنما يصل بها الأمر إلى مطالبته بالطلاق وفعلاً تحصل على ما تريد وانذاك يحزن الزوج حزنا عميقاً ثم يصبح فناناً تطبق شهرته الأفاق بفضل هذه المرأة لاعن طريق حضورها وإنما عن طريق غيابها.

وواضح ان مثل هذه الشخصية النسائية غير واقعية ومستحيلة الوجود اذ كيف يمكن ان تضحي المراة بالواقع الحي على الارض بفرح الحياة لحساب سماء تتصور به من اجل مطلق قد لايكون له وجود على الاطلاق وحتى الحكيم يعترف بهذه الحقيقة قائلا: (هذه المراة العجيبة بطلة هذه القصة من صنع خيالي ولكم اتمنى لو توجد حقيقة ولو القاها يوما وجه لوجه لاني واثق انها موجودة في الحياة على نحو ما).

ورب سائل يسال الم يغير الحكيم بمرور الزمن شي من افكاره ومواقفه هذه والجواب نجده عند الحكيم نفسه، فعندما وجه اليه في مقابلة صحفية عام 1957 هذا السؤال : ما مدي ارتباطك اليوم بالاراء التي سبق وان وافقت عنها في مسرحياتك ومقالاتك حول المراة والفن والحياة وغيرها من القضايا الفنية والاجتماعية؟

كان جوابه : ) لم يطرا تغيير يذكر على ارائي السابقة في المراة والفن والحياة والقضايا الاجتماعية لان الظروف والاحداث لم تناقض تلك الاراء الا في القليل) .

ثمة مسرحيات كتبها الحكيم بعد 23 يوليو تبدو فيها مواقف ايجابية وتقدمية حول المراة مثل مسرحية ايزيس وشمس النهار وغيرها غير اننا لا نستطيع ان نعد هذه المسرحيات مسرحيات صادقة تمثل حقيقة مواقف الحكيم وذلك لان الحكيم حسب اعترافه لم يكتب هذه المسرحيات الا ليرضي ضميره الانساني ويساهم بنصيبه في ضريبة المجتمع ويمكن ان نقول ايضا بان الحكيم كتب هذه المسرحيات ليجاري التيار بعد ثورة 23 يوليو اعني انه كتب مثل هذه المسرحيات في عهد سادت فيه نظرية الادب الملتزم وادب الواقعية الاشتراكية .

وبعد فانني اذكر في ختام مقدمتي قولا قاله (العماد الاصفهاني):

(اني رأيت انه لا يكتب انسان كتابا في يومه الا قال في غده؛ لو غير هذا لكان هذا احسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان افضل ولو ترك هذا لكان اجمل؛ وهو من اعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر).

وقد جاء هذا البحث بعد جهود مضنية في البحث عن المصادر هنا وهناك وذلك لافتقار المكتبة الجامعية وغيرها الى المصادر المهمة ولصعوبة التنقلات في الاوضاع الراهنة للفتيات امثالنا، على التصنيف التالي:

الفصل الاول:

العلاقات الزوجية المقدسة في منظور توفيق الحكيم

الفصل الثاني:

تنقضات الرؤى عند توفيق الحكيم في مسرحية بيجماليون

الفصل الثالث:

صورة المراة عند توفيق الحكيم من خلال مسرحية شهرزاد

 

تمهيد:

نبذة عن حياة توفيق الحكيم

ولد في الإسكندرية سنة 1898 لاب كان يعمل في السلك القضائي وورث هذا الاب عن امه ضيعة كبيرة فهو يعد من اثرياء الفلاحين وقد تعلم وانتظم في وظائف القضاء واقترن بسيدة تركية انجب منها توفيق.

وكانت صارمة الطباع تعتز بعنصرها التركي امام زوجها المصري وتشعر بكبرياء لا حدود له امام الفلاحين من اهله وأقربائه .

قضت ايامها الاولى مع الطفل بين هؤلاء الفلاحين لكنها عزلته في دائرة مغلقة دفعته الى الانغلاق على عالمه العقلي الداخلي اذا كانت تغلق في وجهه كل الابواب التي تصله بالعالم الخارجي ولما بلغ السابعة من عمره الحقه ابوه بمدرسه دمنهور الابتدائية وظل بها ردحا من الزمن حاول فيه ان يحرر نفسه من وثاق امه وحياة الانفراد التي اخذته بها ولكنها لم يستطع ذلك الا في حدود ضيقة .

لما اتم تعليمه الابتدائي راي ابوه ان يرسله الى القاهرة ليلتحق باحدى المدارس الثانويه وكان له بها عمان يشتغل احدهما مدرسا باحدى المدارس الابتدائية اما الثاني فكان طالبا بمدرسة الهندسة وكانت تقيم معهما اخت لهما، فرأي ابوه ان يسكن مع عميه وعمته ليساعدوه على التفرغ الى الدرس واتاح له بعده عن امه شيئا من الحرية فاخذ يعتني بالموسيقى والتمثيل وفي هذه الاثناء اتم تعليمة الثانوي والتحق بمدرسه الحقوق .

ولم يلبث ان الف في سنة 1922 مجموعة مسرحيات مثلت بعضها فرقة عكاشة على مسرح الازبكية منها (المراة الجديدة) (الضيف الثقيل) (علي بابا) وهي في مجملها محاولات ناقصة .

تخرج توفيق الحيكم عام 1924 من الحقوق وزين لابيه سفره الى باريس لاكمال دراسته في القانون ووافق على رغبته وهناك امضى اربعة سنوات لم يعكف فيها على دراسة القانون وانما عكف على قراءة القصص وروائع الادب المسرحي في فرنسا وغير فرنسا. وشغف بالموسيقى الغربية شغفا كبيرا واستطاع لما لابيه من ثراء ان يعيش في باريس عيشة فنية خالصة. فوقته كله موزع بين المسارح والموسيقى والتمثيل وهو في اثناء ذلك يقرا ويفهم ويتشبع ثقافات العصور الغابرة. واستقر في ضميره انه اعد ليكون اديب وطنه القصصي والمسرحي.

وراي اوربا تأسس مسرحها على اصول المسرح الاغريقي فتحول الى هذا المسرح يدرسه ويتقن درسه وما انتهى اليه من تطور على ايدي الغربيين المحدثين كما اخذ يدرس القصة الاوروبية ومدى تمثيلها لروح اقوامها واحوالهم النفسية والاجتماعية .

اخذ يحاول كتابة قصة تصور كفاح الشعب المصري في سبيل الحرية فكتب قصة (عودة الروح) بجزئين وحاول ان يكتبها بالفرنسية ثم حولها الى العربية ونشرها عام 1937 وفيها يعرض المحيط الاجتماعي في بلاده قبل ثورة عام 1919. واختار لذلك اسرة متباينة الامزجة هي نفس الاسرة التي كان يعيش معها في القاهرة.

اسرة عميه وعمته وما اضطربوا فيها من علاقات وهو نفسه محسن الفتى المراهق الذي وقع في حب جارة له هي ابنة ضابط متقاعد لكنها لم تجاريه في حبه اشواط بعيدة بل انصرفت عنه الى شاب كانت تعر جب به ويتعكر صفو السلام بين اسرته واسرتها.

وفي الجزء الثاني نرى محسنا في الريف ونسمع خلال الحوار الذي ورد في الجزء الثاني دفاع عن الفلاح المصري وعراقة روحه. ويعود الى القاهرة ليرى حبه يتحطم وتنشب الثورة المصرية ويضطرب افراد ويتحدون في مثل اعلى سام هو الجهاد في سبيل الحرية وقد كتب هذه القصة في كثير من جوانبها باللغة العامية .

اهم مؤلفاته:

شهرزاد، ايزيس، بيجماليون، مشكلة الحكم، محمد، عودة الروح، تحت شمس الفكر، اشعب، عهد الشيطان، راقصة المعبد، نشيد الانشاد، حمار الحكيم، سلطان الظلام ، من البرج العاجي، تحت المصباح الاخضر، تاملات في السياسة، الايدي الناعمة، لعبة الموت، حماري قال لي، اشواك السلام، رحلة الى الغد، رحلة الربيع و الخريف، يوميات نائب في الارياف، عصفور من المشرق، سليمان الحكيم، زهرة العمر، الرباط المقدس، شجرة الحكم، الملك اوديب .

 

الفصل الأول

العلاقة الزوجية المقدسة من منظور توفيق الحكيم

الزواج من الأمور التي حثت عليها جميع الاديان السماوية والتي منها الدين الاسلامي الحنيف حيث يصف الزواج بانه مودة ورحمة بين الزوجين كما يصفه بانه سكن.

ولو عرفنا معنى هذه الكلمة لوجدناها تدل على الاستقرار.

الاستقرار النفسي والجسدي والاجتماعي، وقد جعل الاسلام بل كل الاديان السماوية قدسية كبيرة للزواج ولكن نجد ان توفيق الحكيم قد انتهك هذه القدسية وذلك في مجموعته القصصية مدرسة المغفلين. وهو يقصد بالمغفلين (المتزوجين) الذين بحثوا عن الاستقرار في حياتهم وقرروا ان يتقاسموا حياتهم مع شريك الا وهو الزوجة.

فنراه في القصة الاولى من مجموعته القصصية يتحدث عن شاب يبحث عن زوجة فيذهب الى حفلة تكثر فيها النساء والفتيات حتى يختار منهن واحدة.

ومن خلال وصف اجواء الحفلة، نرى الحكيم يعطي صورة سيئة عن المراة بشكل عام وعن الزوجة بشكل خاص، حيث جاء على لسان توفيق الحكيم: (فارسل نظرة شاملة على تلك النحور العارية والصدور المكشوفة والبسمات الفاتنة والنظرات المفتونة وقال في نفسه: اين ذلك العهد الذي كانت تسمى فيه المراة السيدة المصونة والجوهرة المكنونة، ترى ماذا يجب ان تسمى اليوم؟) .

واللطيف الغريب في هذه المسرحية ان توفيق الحكيم يصف المراة على لسان المراة فنراه يقول على لسان احدى نساء قصته: (هذا جيلك الجديد وهذا عصرك، خذ الامور كما هي ولا تخدع نفسك، واعلم ان اكثر النساء هنا لكل واحدة منهن على الاقل عشيقان او ثلاثة... وان تلك التي يقال انها نظيفة السمعة ولم يسمع عنها احد شيئا هي التي لها عشيق واحد... فاذا اردت منى ان اغللطك واشجعك على مغالطة نفسك فهذا امر اخر... ولكني انصحك ان تنظر الى الواقع بعين الواقع).

وفي نهاية القصة يذعن الشاب الى امر الله ويقرر الزواج قائلا: (امرنا الى الله، ابحثي لنا عن واحدة شريفة، عفيفة، سمعتها طيبة ليس لها غير عشيق واحد!!) .

ويكرر الحكيم موقفه من المراة الزوجة في قصة اخرى من نفس المجموعة القصصية وكأن الدنيا خلت من المراة الشريفة والزوجة الصالحة فلا نجد لها ريحا او اثرا او ذكرا في مجموعته القصصية التي انفردت معظمها لقصص الزواج والعلاقات الاسرية، فنراه في قصته (موقف حرج) يكرر المفهوم ذاته حيث جاء فيها قصة رجل جالس في احدى المقاهى بجوار صديق له وهو حسن بيك واذا برجل ثالث يظهر لنا يجلس الى جانب راوي القصة ويدنو منه ودار الحديث التالي بينهما: ـ من حضرتك

- اسمي مرقص

- طلباتك

فمال على اذني هامسا:

- هل تقبل ان تكسب خمسين قرشا باليوم وانت جالس في مكانك هذا بدون ان تصنع شيئا.

- بالطبع لا موجب للرفض.

قلتها على البديهية كانها من وحي الشعراء فبادر الرجل يقول اذن اتفقنا... وهذه دفعة على الحساب) .

وبعد ذلك يتبين ان المهمة التي كان على الرجل القيام بها مقابل بعض النقود ما هي الا مراقبة سيدة تتردد الى عمارة مقابل المقهى الذي يجلسون فيه. ولما ساله عن اوصافها اظهر له مرقص صورتها وطلب منه مراقبتها ثم استفسر منه عن سبب المراقبة هل هي لطلب زوجها؟ فاخبره بان هذا الطلب من خليلها الذي يشك فيها.

وبعد ان طلب الرواي زيادة على اجره خمسة وسبعين قرشا وافق على المراقبة، ولكنه في قرارة نفسه لم تعجبه الفكرة، لذلك طلب من صديقه حسن بيك الذي يتردد دائما على المقهى ويجالسه الطاولة والحديث، ان يقوم بهذه المهمة مقابل ان يستضيفه على فنجان قهوة.

وبعد ان يعرض الامر على حسن بيك، يطالبه الاخير بصورة المراة حتى يتسنى له التعرف عليها، وهنا تكمن رؤية الحكيم ونظرته للمراة، تلك النظرة القاسية التي جردتها من كل مفاهيم الشرف والعفة والحياء، حيث يتحدث الحكيم على لسان راوي القصة فيقول:

( فوضعتها في كفه... فرفعها الى عينيه بغير اكتراث ولكن... لم يكد بصره يقع عليها حتى امتقع لونه وارتجفت يداه وارتعشت شفتاه... وهالني امره، فقلت له: حسن بك مالك؟

فلم يعنى بالرد على سؤالي وبقى جالسا في مكانه، غائبا عن الوجود، يلقى نظرة على الصورة وتصبب العرق من جبينه... فهززته بيدي قائلا: ماذا حدث؟ فلم يجب وخيل الي ان اذنه لم تعد تسمع وجمدت عيناه، مالك يا حسن بيك، هل تعرفها؟!

فقال بصوت ميت ينشر من قبر: كيف لا اعرفها وهي ... زوجتي.

وانتفض الرجل انتفاضة خلت روحه قد خرجت معها ووثب من مقعده وانطلق في الشارع يعدو كالمجنون ولم يلبث ان غاب عن نظري الشارد وفكري الذاهل وكدت اصيح في اثره الصورة الصورة ولكني تذكرت فجاة كارثته وادركت انها له وانه احق اهل الارض بحملها والاحتفاظ بها فملكت نفسي).

ويستعرض الحكيم في نهاية القصة البعد النفسي والاجتماعي ازاء هكذا قضايا تعد جوهرية في العلاقات الاسرية والنظم الاجتماعية، ولكنه يصورها تصويرا دقيقا من اللامبالاة وانعدام الاحساس بالمسؤولية او اي تأنيب للضمير او محاولة لاصلاح ما افسده الراوي، فنراه يتحدث عن هذا الخلل الجسيم في تركيبة المجتمع والبشر على لسان الراوي الذي يختم قصته بالقول: (وثاب الي رشدي قليلا قليلا فلعنت يومي ولعنت مرقص افندي ولعنت الخمس والسبعين قرشا التي خسرت من اجلها صديقي وخسر الصديقة زوجته وخسرت الزوجة خليلها، ولو كنت اعلم ان المهمة ستؤدي الى هذه الفواجع كلها لطالبت مرقص افندي بما لا يقل عن خمسة جنيهات!!) .

ومن خلال هاتين القصتين يتضح لنا كيفية تصوير المراة في مؤلفات توفيق الحكيم ولاسيما المراة الزوجة.

 

الفصل الثاني

تناقضات الرؤى عند توفيق الحكيم في مسرحية بيجماليون

لقد تأثر الأستاذ توفيق الحكيم بالاسطورة اليونانية واول ما لفت نظره اليها – كما يحكي هو – لوحة شاهدها في متحف اللوفر بباريس ثم اعاد تذكيره بها (فيلم) عرض في القاهرة عن بجماليون ولكن اصالة الاستاذ توفيق الحكيم تتجلى الى جانب تأثره ففي مسرحية بيجماليون ما يجعل الصراع يدور بين المثال الفني في نظر الفنان المعتد بخلقة وبين واقع الحياة ثم ينتصر الحكيم للفن ضد واقع الحياة الذي ينفر منه الفنان المخلص وذلك ان (جالارتا) وهي رمز للخلق الفني الذي يهيم به خالقه.

نرى في مسرحية بيجماليون تناقضا في رؤية الحكيم فتارة يرى المراة مصدر للالهام الفنان فهي تدعوه الى الابداع وهي التي تخلق الحب وهذا ما نجده واضحا في حوار الالهة فينوس الهة الحب والحياة واله الفن ابولون...

فينوس: لست اذكر شيئا عن هذا الرجل .

ابولون: بيجماليون هو من عبادي انا

فينوس: فهمت... لهذا لم التفت اليه، لقد حرمته هباتي فعاش كما ترى بعيدا عن حب المراة

ابولون: لقد حرمته ولكنه ها هوذا قد صنع بيديه امراة وخلق بنفسه لنفسه الحب.

وتارة يراها مفسدة للجمال الكائن على الارض وهذا ما كان يحز في قلب الفنان بيجماليون فبعدما كان يزهد بعبقريته التي خلقت ذلك التمثال العاجي بدا يمقته عندما دبت في ثناياه الروح وتحول الى امراة بفعل الاله فينوس الهة الحب والحياة.

ايسمين: حسبك يا بيجماليون... لا تهن الالهة .

بيجماليون: دعيني اقل لهم ما اريد، دعيني اصارح هؤلاء الالهة بالحقيقة!! لقد صنعت انا الجمال فاهانوه هم بهذا الحمق الذي نفخوه فيه... كل ما في (جالايتا) من روعة وبهاء هومني انا وكل ما فيها من سخف وهراء هو منكم انتم يا سكان (اولمب).

ومن الغريب نجده يراها عنصرا من عناصر النقص والسخف اذ انها امتدت كل شيء حتى الفن.

ابولون: لن تنكري على الاقل اننا نستطيع ان ترى الشي الجميل

فينوس:وماذا تريد مني الان؟

ابولون: اولا اعترفي ان عبقريته قد انتصرت ثم اسحبي بعد ذلك ما وضعت في عمله من عناصر النقص والسخف باسم الحياة ردعي عليه كما – طلب – تمثاله ساكتا كما كان – نابضا كما كان بحياة الفن وحدها.

وحينا يراها مخلوقا تافها لا يعرف الا الحب وهذا ما جاء على لسان ترسيس صديق بيجماليون الحميم.

بيجماليون: انها امراة ذكية وفطنة... الا ترى هذا؟!

ترسيس: ليس هذا سببا يكفي، لان نسرف في تقديرها.

بيجماليون: وهي تحيك اجمل الحب!

ترسيس: ليس للنساء عمل في الحياة غير الحب!

وفي النهاية يصف الحكيم المرأة (ايزيس) وفية مخلصة حتى بعد مقتل زوجها فان ذلك لم يثن عضدها بل جعلها اشد صلابة واصرارا في اخذ ثأر زوجها من اخيه واتباعه.

ايزيس: وانا التي اعدك بهذا وانت تعرف ايزيس اذا قالت فعلت... هل تثق بي؟

شيخ البلد: كل الثقة... امراة وفت لزوجها لا يمكن ان تخدع من يخدمها.

ايزيس: اتفقنا اذن

شيخ البلد: اني في خدمتك.

ايزيس: ابني حوريس يصر على ان يثار لابيه ويريد ان ينازل (طيفون) بالرمح .

 

الفصل الثالث

صورة المرأة عند توفيق الحكيم من خلال مسرحية شهرزاد

استلهم توفيق الحكيم في كتابة هذه المسرحية الأسطورة الفارسية التي تزعم أن كتاب ألف ليلة وليلة قصص قصتها شهرزاد على زوجها شهريارو ذلك أنه فاجأ زوجته الأولى بين ذراعي عبد خسيس فقتلهما ثم أقسم أن تكون له كل ليلة عذراء يبيت معها ثم يقتلها في الصباح انتقاماً لنفسه من غدر النساء وحدث أن تزوج بنت أحد وزرائه (شهرزاد) وكانت ذات عقل ودراية فلما اجتمعت به أخذت تحدثه بقصصها الساحرة التي لا ينضب لها معين وكانت تقطع حديثها بما يحمل الملك على استبقائها في الليلة التالية لتتم له الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة رزقت في نهايتها بطفل منه فأرته إياه اعلمته حيلتها فاستعقلها وأبقاها .

يبدأ توفيق الحكيم مسرحيته بنهاية الأسطورة فإن شهرزاد كشفت لشهريار عن معارف لا تحد لوأصبح ظامئاً للمعرفة ولم يعد يعنى بالجسد ولذاته فقد تحول عقلاً خالصاً يبحث عن الألغاز و الأسرارحتى ليريد أن ينطلق من قيود المكان لعله يطلع على مصادر الأشياء وغاياتها ويعرف كنهها وحقائقها والمسرحية في سبعة فصول حيث تلتقي في الفصل الأول بجلاد الملك وعبد أسود يحاوره في شأن الملك وما يقال عن خبله وكيف يغدو إلى كاهن يطلب منه حلاً لألغازه ونلتقي بوزيره قمر ويتراءى لنا العبد مثالاً للبوهيمية التي تقبع داخله أن يرى عذراء مع الجلاد فيتحول متسائلاً عن شهرزاد وننتقل إلى الفصل الثاني فنجد قمراً الوزير مع الملكة في قاعتها ونعرف من الحوار أنه يحبها محبة العابد لمعبوده لامحبة العاشق لمعشوقته فقد سما بعواطفه ازائها سمواً بعيداً وهي تعرف ذلك وتعبث به ويخشى أن تكشف سره فينقل إلى الملك .

يظهر الحديث على النحو التالي:

قمر ـ اني ـ أردت أن أقول إنك غيرته وأنه انقلب انساناً جديداً منذ عرفك.

شهرزاد ـ إنه لم يعرفني.

قمر ـ لقد قلت لك من قبل اليوم أن الملك بفضلك قد أمسى أيضا لغزاً مغلقاً أمامي وكأنما كشف لبصيرته عن أفق آخر لا نهاية له فهو دائما يسير مفكراً باحثاً عن شيء منقباً عن مجهول هازئاً بي كلما أردت اعتراض سبيله اشفاقاً على رأسه المكدور.

شهرزاد ـ أتسمي هذا فضلاً يا قمر؟

قمر ـ وأي فضل يا مولاتي، فضل من نقل الطفل من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير بالأشياء.

ويشيد قمر بحبها للملك فتعترضه قائلة ............ ما أبسط عقلك يا قمر! أتحسبني فعلت ما فعلت حباً للملك؟

قمر ـ لمن غيره إذن؟

شهرزاد ـ لنفسي.

قمر ـ لنفسك ماذا تعنين؟

شهرزاد ـ اعني إني فعلت غير أني احتلت لأحيا.

أما شهريار فيمضي متحدثاً عن حقيقة شهرزاد وكيف تحولت في نفسه إلى لغز عقلي هائل ويقول موجهاً الخطاب اليها عنها: (( قد لاتكون إمرأة من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي

في خدرها طول حياتها تعلم ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ماغادرت خميلتها قط تعرف مصر والهند والصين هي البكر تعرف الرجال كإمرأة عاشت ألف عام بين الرجال! وتدرك طبائع الإنسان من سامية وسالقة هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض فصعدت إلى السماء تحدث عن تدبيرها كأنها مربية الملائكة وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها و ممالكها السفلى العجيبة كأنها بنت الجن من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين عاماً، أم ليس لها عمر! أكانت محبوسة في مكان أم وجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة)) .

تلك صورة شهرزاد في عين شهريار بالمسرحية فهي لغز عميق ينطوي على أسرار الوجود أما في عين قمر الوزير فملاك سماوي بينما هي في عين العبد الأسود القبيح بنت الأرض بغريزتها الجسدية وكأنها المرأة المعقولة.

شهريار بحيرته وتنقيبه عن المجهول وأسراره........ والوزير بطهارة روحه وسمو نفسه و العبد بغريزته الحيوانية التي ستكشف لنا عما قليل لاعنده بل عند شهرزاد أيضاً التي تخضع كغيرها من النساء لمطالب المرأة الجسدية .

في الفصل الثالث تتصاعد أزمة شهريار وتشتد فنجده مع الساحروقمر مصمماً على الرحيل في أطراف العالم ويحاول قمر أن يرده عن عزمه قائلاً: (( رد هل يحسب مولاي لو جاب الدنيا طولاً وعرضاً أنه يعلم أكثر مما يعلم وهو في حجرته هذه)) وتظهر شهرزاد وتحاول أن ترجعه إليها قائلة: (( أن رجلاً بقلبه قد يصل إلى ما لا يصل آخر بعقله)) ولكنه يصمم على الرحيل حتى بتحرر من عقال المكان ويرحل في الفصل الرابع مع وزيره وتلتقي شهرزاد بالعبد رمز الشهوة وفي الفصل الخامس تنغمس معه في إثم الخطيئة رغم سواده وغلظته وضعة أصله ومنبته. و يدخل شهريار مع وزيره في الفصل السادس (( خان )) أبي ميسور ويعلمان خيانة شهرزاد وترتجف نياط القلب للعبد الولهان..........

قمر يعود بمولاه في الفصل السابع إلى شهرزاد لعله ينتقم من زوجته و عبدها الخسيس ولكن شهريار قد تحول وأصبح فكراً محضاً وينتحر قمرويحس مولاه بالهزيمة و انه لايستطيع انطلاقاً من المكان من الأرض (( دائماً هذه الأرض لاشيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنّا لا نسير، لانتقدم ولانتأخر، لانرتفع ولا ننخفض إنما نحن ندور، كل شيء يدور)) .

قد اتضحت فلسفة توفيق في هذه المسرحية أنه يؤمن بالقلب أكثر مما يؤمن بالعقل الذي يحطم حياة الناس ومع ذلك تحكم به الطبيعة البشرية وتحاول عن طريقه أن تكشف أسرار الكون و تجتاز حدود المكان وفي ذلك اندحارها وهزيمتها كما انهزم شهريار. وقد دفعت ضرورة المسرحية الكاتب إلى وضع شهرزاد في الوضع الشائن رغم ما عرفت به من رزانة عقل و حكمة حيث سقط بها سقطة شنيعة وحولها إلى صورة جديدة غير صورتها التاريخية التي عرفت بها.

 

الخاتمة

الحمد والثناء لله رب العالمين والصلاة والسلام سيد الخلق اجمعين محمد واله الطيبين الطاهرين

وبعد...

بعد رحلتى مع المراة في مؤلفات توفيق الحكيم، وبعد الجهد الذي بذلته في معرفة جواب سؤالي وهو: لماذا كل هذه التناقضات في صفات المراة في مؤلفات الحكيم، ولماذا كل هذه النظرة السوداوية والقاسية تجاه المراة؟

وجدت الجواب يعود الى تربية الحكيم الصارمة الناتجة عن ام صارمة الطباع والتي ابعدته بكل الطرق وشتى الوسائل عن اقرانه الفلاحين، ويبدو ان الحكيم خلال حياته الطفولية مع والدته الصارمة وفيما بعد لم يحالفه الحظ بالالتقاء بامراة صالحة او وجه صالح للمراة يمكن من خلاله ان يترك اثرا طيبا في نفس الرجل حيث افتقرت حياته الى المعنى الحقيقي لوجود المراة في الحياة.

فنراه يصف المراة مخلوقا لا يفكر سوى بغرائزه الحيوانية في مسرحية شهرزاد. كما يصورها خائنة لا تفكر سوى بخيانة زوجها حتى مع العبد الخسيس خلاف حقيقة شهرزاد التي يتداولها الموروث الثقافي.

وتتضارب اراؤه حولها في مسرحية بيجماليون فهو تاره يراها مصدر للالهام الفنان وتارة اخرى مفسدة للجمال الكائن على الارض وحينا اخر يراها مخلوق تافه لا يعرف الا الحب.

ونستقرأ واقع المراة الزوجة في اخطر رؤاه حيث يعرضها دوما بالزوجة الخائنة لزوجها بحيث ان المراة الشريفة في نظره هي التي لها عشيق واحد.

وفي النهاية يبقى السؤال الحائر يرتسم في الافق: هل المراة في واقع حياة توفيق الحكيم كما هي في مؤلفاته؟!!

 

المصادر

1. الحكيم ( توفيق ) ـ مسرحية شهرزاد ـ مطبعة المتوكل ـ الطبعة الثانية ـ القاهرة 1944م

2. الحكيم (توفيق ) ـ مدرسة المغفلين ـ مطبعة مصر

3. الحكيم ( توفيق ) ـ مسرحية بيجماليون ـ دار الطليعة ـ الطبعة الثالثة ـ بيروت 1973م

4. الحكيم ( توفيق ) ـ تحت شمس الفكر ـ مطبعة التوكيل ـ الطبعة الثالثة ـ القاهرة 1958

5. الدسوقي ( عمر ) ـ في الأدب العربي الحديث ـ دار الكتاب العربي ـ الجزء الأول ـ الطبعة السابعة ـ بيروت 1966

6. اسماعيل ( عز الدين ) ـ الأدب وفنونه ـ دار الكتاب العربي ـ القاهرة 1991م

7. خفاجة ( محمد صقر ) ـ دراسات في المسرحية اليونانية ـ دار الطباعة الحديثة ـ القاهرة 1969م

8. عز الدين ( يوسف ) ـ قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر ـ المطبعة العصرية ـ الطبعة الثالثة ـ دمشق1967

9. د. ضيف ( شوقي ) ـ الأدب العربي المعاصر ـ دار المعارف ـ القاهرة

10. لاندو ـ تاريخ المسرح العربي ـ ت: يوسف نور عوض ـ دار القلم ـ بيروت1992م ـ الطبعة الثالثة

11. مجموعة من المستشرقين ـ تراث فارس ـ نقله إلى العربية محمد كفائي ـ دار الزهراءـ بيروت 1992م ـ الطبعة الثالثة

12. مسرور ( نجيب ) ـ حوار في المسرح ـ دار العلم للملايين ـ القاهرة 1972م ـ الطبعة الثانية

13. د. مصطفى ( فائق ) ـ في ذاكرة المسرح العربي ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ الطبعة الأولى ـ بغداد 1990م

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com