بحوث

ما بعد الحداثة وأحياء التقليد الفلسفي

ترجمة واعداد: د. حارث محمد حسن / د.باسم علي خريسان

ف.ل. جاكسون

المقدمة

مع نهاية الألفية الثانية، ينشغل الفلاسفة بتفكير كثير التناقض عما اذا كانت الفلسفة قد بلغت نهايتها. فوفقا لوجهة النظر الشائعة بين الكثير من الفلاسفة الأكاديميين، فان النموذج القائم على صياغة معرفة شمولية عن طريق مبادئ (الفلسفة) قد اصبح عرضة للكثير من التزييف واللامنطقية بحيث ان أي شخص عاقل اليوم لن يعترف به كطريق مشروع ومقبول. ويعتقد الفلاسفة الجدد ان ((الفلسفة)) بمفهومها التقليدي هي نمط من التفكير لم يعد ذا صلة بالإدراك والعالم المابعد –حداثي، واذا ما كانت الفلسفة تحتفظ حتى الان بدور ما فانه لايمكن الا أن يكون محدودا جدا : ككتابة نعيها، او إزالة الأنقاض الناتجة عن تدمير أسسها، وتأمل الطريقة التي يمكنها فيها ان تحيا الان في المرحلة المابعد الفلسفية.

 وحقيقة ان التقليد الفلسفي يعيش أيامه الأخيرة ستبدو بالتأكيد متوافقة مع ما يحصل في الجامعات، حيث ان ما كان في السابق ملكا لأقسام الدراسة المختلفة قد خلع من عرشه وباتت النظرة الى الفلسفة كنظام قديم مهجور منتشرة على نطاق واسع بحيث ان أساتذة الفلسفة صاروا عاجزين عن تبرير دراستها. وفي الثقافة العامة ايضا بات ينظر الى الانجذاب نحو الأسس العقلانية كشيء غير لائق، ويسود افتراض أخلاقي يماثل بين الانجذاب الفطري الى المبادئ وبين الولاء الى الديانات التقليدية، كمؤشر على التحول الرجعي والسلفي في التفكير. وفي ظل ثقافة تتسامح حتى مع اكثر الخرافات سخافة شريطة ان لا تدعي لنفسها شرعية غير ذاتية، فان انجازات الفلسفة وطرقها لا تحظى حتى بمثل هذا القدر من الاحترام. ويتوافق الاعتقاد الشعبي مع رأي(نيتشة)في ان الفلسفة قد ظللت، بل وأفسدت، سواء في نظرتها ام روحيتها.

 وفي ضوء ذلك، فان روحية الأزمان قد توصف بانها روح فلسفية بمعنى الكلمة. لكن من الصعب ان نكون محقين في إبداء الأسف على هذا الوضع، كما يفعل التقليديون، باعتباره نوع من الانحطاط للثقافة الحديثة لتتحول الى ثقافة متقلبة بلا فكر. وينبغي ان نعترف ايضا في ان التزام عصرنا بالحرية الذاتية وإصراره على الخطاب المنفتح لقبول أي موقف أخلاقي او فكري او سياسي – ودون ذكر الأعداد الكبيرة غير المسبوقة من الفلاسفة الذين ينتشرون في الجامعات المعاصرة – يجعل بالإمكان القول انه ليس هناك عصر اكثر ((فلسفية)) من عصرنا الحالي. وحتى أولئك الكتاب الذين سيدعون بأنهم تجاوزوا الثقافة الفلسفية وطابعها الكلامي التجريدي هم بعيدين عن تمثيل هذه النتيجة باعتبارها كارثية، بل على العكس، فانهم يعلنون ذلك باعتباره تحرر نهائي من الاستبداد العقلي، وانعتاق للفكر من أوهام الماضي.

 وفي الحقيقة، ان الوقت مازال مبكرا للادعاء ان الفلسفة قد انتهت مع(هيغل) ومعاصريه،وان العصر الذي يؤمن فيه الناس بالمعرفة الشاملة المطلقة، او بأن العقلاني هو الفعلي، قد انتهى منذ زمن طويل. لقد تحدث الكثيرون بهذه الفكرة من كيركيغارد Kierkegaardو فيورباخFeuerbach الى رورتي Rorty ودير يداDerrida وحتى أودين Auden عندما قال : ((وداعا أفلاطون، وداعا هيغل، لقد اغلق الدكان)).لذلك يمكن القول انه كان هناك جهد مقصود للإطاحة بالفلسفة، وان ذلك – في الحقيقة – هو المشروع الأساسي للفلسفة نفسها في حقبة الحداثة المتنامية. ان البكاء على ((انحطاط)) الفلسفة ليس هو الهدف، فالتحدي الحقيقي هو فهم هذا التقليد ما فوق –الحداثي في تدمير الفلسفة ودوافعه.

 لايعني ذلك انكار ان هناك ما يثير الشك منطقيا حول الاراء التي تدعي وضع حدود مطلقة على الفكر او صياغة نظرية تنهي كل النظريات، وهو ما تدور حوله الجدالات بين الصحفيين عن نهاية الفلسفة. وليس اسهل على الفهم الاراء القائلة بأننا ننتقل من ثقافة تأسست على المبدأ العقلي الى ثقافة مغايرة، لاسيما عندما تطرح هذه الاراء بطريقة (عقلانية).ان ذلك بدون شك هو التناقض الذي حفز(ليوتارد) على تحذيرنا بأن علينا ان لا ننظر الى ((الوضع ما بعد الحداثي)) باعتباره منطلق لنوع من الثقافة الجديدة تحل محل ثقافة الحداثة، لان ذلك سيتطلب منا إعطاء ((سبب منطقي)) يمكن من خلاله تمييز الأولى عن الثانية، وهو ما يناقض القول بأننا نسير بعيدا عن الثقافة العقلانية بمجملها. اذا، طالما لم تكن حقبتنا حقبة ظهور ثقافة جديدة ولا هي جهد اعتباطي عقيم، فيجب النظر الى العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة بطريقة مختلفة، أي بصيغة القول، بأن ما بعد الحداثة هي الحداثة نفسها في نقضها لذاتها.

 ان المحاولات لتفسير نهاية الفلسفة تعاني من نفس الصعوبة،كيف يمكن التفكير بتجاوز المنطق الفلسفي او تعطيله بدون اللجوء الى آراء هي فلسفية ايضا. أنها مشكلة راديكالية عن كيفية التفكير بدون تفكير. وأحد الطرق هي تشكيل آراء يمكن اعتبارها ((أولية)) بالمعنى ما وراء-المنطقي، وقد اصبح من الشائع منذ(هيدجير وتيغنستين وفوكو …الانجذاب نحو ((أسباب)) شعرية او لغوية او قسرية بل واعتبارها القوة الخفية الحقيقية خلف الجدليات الفلسفية نفسها. وهناك طريقة أخرى تتمثل بالامتناع عن المجادلة الفكرية اصلا، كما فعل دريدا نفسه الذي عندما سؤل عن ما يعنيه في كتبه وآراءه، أجاب بانه لايعني شيئا على الإطلاق، وهو الجواب الصحيح اذا ما كان الشخص يريد القول ان كل ((مقولة)) قابلة للشك.

وليس في هذا التناقض شيئا جديدا، فهو يطبع السيرة الكاملة للتفكير المناوئ للفلسفة منذ بروزه خلال القرنين الأخيرين، واذا كان بالإمكان وصف هذا التاريخ بانه تاريخ المحاولات الهادفة الى التأثير على نقد التقليد الفلسفي، فانه ايضا تاريخ هذا التناقض والمحاولات المتتالية للتغلب عليه. وهدفنا في هذه الدراسة هو استكشاف هذه الروحية الفلسفية الشديدة بشكل مختلف ورسم خطوط تطورها منذ انطلاقها في القرن التاسع عشر حتى عقدتها ما بعد الحداثية الراهنة. وسنجادل بالقول ان التناقض الكامن في فكرة الإخضاع الفلسفي للفلسفة هو الذي جعل كل محاولات توضيحه غامضة وعاجزة، وان هذا الغموض هو الذي قدم القاطرة الجدلية التي قادت كل مرحلة فاصلة في التفكير نحو تجاوز نفسها والدفع نحو اعادة صياغتها على نحو اعمق.

 لذلك، ليس من الممكن البدء بتفهم وتقويم الحركات الفلسفية في سياق التاريخ الأوسع للفكر ما لم تصل هذه الحركات الى عقدتها الملائمة. قبل ذلك، فان الحماس الدوغمائي المرتبط بمشاريع لازالت في طور التكوين وأهدافها لازالت غير واضحة يجعل أي مساءلة حقيقية لهذه الحركات غير ممكن من الناحية العملية. لذا مع كسوف العصر الذهبي للفلسفة الهيغلية الحديثة، يبدو ان ((مافوق الفلسفة)) قد أصبحت هي المصطلح المناسب لوصف الشكل العام من التفكير السائد في تلك الحقيقة التي يشار أليها في أطر أخرى ب((مافوق الحداثة))،وكلمة ((مافوق))تنطوي على المعنى المزدوج ل((التجاوز))و((التعميق))، كما ان مافوق الفلسفة تتضمن ذات العلاقة الغامضة بفلسفة الحداثة التقليدية التي وصلت في ان واحد الى ذروتها والى نهايتها.

 الاعتقاد الشائع بين الكتاب ما بعد الحداثيين في ان مدرستهم تدين في ظهورها الى الاراء التي قدمها (رورتي او در يدا) هو اعتقاد خاطئ تماما. فالجهد الهادف الى تحرير الفكر من الفلسفة يعود الى قرنين مضيا وقد انتج ميراثه الخاص به. ويمكن ان نجد الأشكال مافوق الفلسفية المبكرة في الفلسفة المادية او النظرية التطورية خلال القرن التاسع عشر، او في ((تجاوز)) فيورباخ للاهوت المسيحي او أخضاع (شوبنهاور وكيركيغارد) التفكير التأملي الى مطلقات لاعقلانية محددة. وقد شهد القرن العشرين عودة الى الفلسفة في فتح جديد على شكل منهجيات (ميثادولوجيات) هدفها الظاهري هو ((إصلاح)) او ((نقد)) الفلسفة، بعرض مافوق فلسفي أساسا. أما تجسيدها الأقرب فيتمثل بالتشكيكية ما بعد الحداثية التي تفترض ان التقليد الفلسفي بأكمله ينطوي على تشكيك ذاتي والتي لم تعد تسعى الى تجاوز أو إصلاح هذه التقليد، بل تبقى مستندة على الشك.

وفي شكله المعاصر، بلغ مشروع مافوق الفلسفة حده الأقصى. وفي هذا النموذج الشكي يبدو التناقض متأصلا منذ البداية، لان ما تم إنجازه الان ليس فقط تهديم الفلسفة بل، وأيضا تهديم التهديم، ونقد النقد. فما تهتم به ما بعد الحداثة هو القول انه لا يوجد اعتقاد جازم يضع حدا للفكر لان كل هذه الاعتقادات هي ايضا نوع من التفكير. وبالتالي فان الخيار الوحيد هو الافتراض صراحة ان كل الاراء باطلة، سواء الفلسفية منها او ما وراء الفلسفية، والاحتفاظ بهذا الموقف من خلال نشاط فكري شكاك صرف (وهو ما يدعوه در يدا بالتفكيك ويسميه رورتي بـ (الجدال البراغماتي الجديد) يجمع بين مواقف متباعدة من كل نوع وينظر أليها كنسخ ذاتي في الوقت الذي يسعى للبقاء بدون موقف او حسم.لكن المشروع الأساسي لما فوق الفلسفة المتمثل بتنفيذ الإطاحة النهائية بالميراث الفلسفي قد تم التخلي عنه فعليا. والان لم يعد هناك تمييز بين المتجاوز – بكسر الواو – والمتجاوز – بفتح الواو، وبين التقليد الفلسفي وبين نقده. وكل ما يتبقى هو فلسفة أكاديمية محضة تقوم على الاستحضار والقلب اللامتناهي للأفكار وعلى عدم قول شيء خارج هذه الممارسة من التفكير السلبي.

 وبالإمكان عرض سيرة الفكر مافوق الحداثي في ثلاثة مراحل أساسية. القرن التاسع عشر شهد تقدم المبادئ المختلفة التي اشتركت في فكرة استبعاد المنظور الروحي – التأملي للتقليد الغربي واستبداله بأشكال لاتأملية في تفسير العالم : وهو موقف سنسميه بـ((الفلسفة الضدية)). وفي نهاية القرن، ظهرت مدارس حتمية في الفلسفة جعلت كشف وتصحيح ما يزعم انه مغالطات حتمية في الفلسفة الغربية، وبالتالي فانها كانت مدارس ((ما فوق فلسفية)). أخيرا، وصلت ما فوق الفلسفة حدها الأقصى في ما بعد الحداثة التي تعلن ان كلا من الأشكال الدوغمائية والنقدية في معارضة الفلسفة تنسخ ذاتها، وتقترح بدلا من ذلك اعتبار الميراث الكامل للخطاب العقلي زائفا وباطلا بذاته – ولذلك فانها ما فوق فلسفية. ان لكل شكل تال من الطرح ما فوق الحداثي نهجه المختلف في مناقشة نهاية الفلسفة، وتفسيره المتميز لما ينبغي رفضه من عناصر التقليد التأملي،وهناك في كل خطوة على هذا الطريق، تناقض مستعصنٍ لابد من التعامل معه.

 

الفلسفة الضدية :العلمية و الاطلاقية

 ان التحول مافوق الحداثي في الفلسفة يستحضر تساؤلا تقدم له أجوبة كثيرة.فمن فيورباخ حتى الآن تم طرح واعادة طرح تفسيرات تبرز هذا الإنكار الجذري للتقليد التأملي القديم بطرق متضاربة. فقبول جواب نيتشة او اكبر او ديوي يعني رفض جواب كيريغارد او ماركس او هيدجير لانها جميعا تفسيرات متعارضة لايمكن التوفيق بينها. لذلك، من الضروري ان نعود مجددا الى البداية من اجل فهم المشروع ما فوق الفلسفي، وكيفية تشكل الاراء وماهية الصراعات الآخذة بالظهور وتطورها، وماهية النتيجة النهائية.

 وفي الغالب، ان الاراء الأوضح هي تلك التي طرحت في البداية، حيث كان الكتاب الرؤيويون في القرن التاسع عشر أول من تحدى التفسير الغربي التقليدي للعالم وحاولوا تقديم طروحات جديدة تماما تتلائم مع الثقافة ما فوق الحداثية الصاعدة في إنسانيتها التكنو- سياسية وتقترب من الحرية الذاتية الراديكالية. كان هناك شعور بان التاريخ ((انقسم الى فرعين)) وان تاريخ الفلسفة بشكل خاص قد بلغ مأزق تاريخي وصلت فيه الى أقصى حدودها. لقد تم التخلي عن نظام التفكير القديم واقترحت أنماط من الفكر ذات اتجاهات واقعية، لامفاهيمية، تاريخية، تجريبية، إنسانية، واكثر عالمية.

 اتخذت هذه الروحية الفلسفية الضدية شكلين أساسين : الأول يتخلى تماما عن الفكر التأملي لصالح العقلانية الدوغمائية مقتربا من التفسيرات الوضعية الإلحادية، المادية، العالمية، (العلمية). أما الشكل الثاني فقد احتفظ نوعا ما بمظهر تأملي لكنه افترض بوضوح مبدءا ضد عقلاني كمادة او فرضية أساسية (الاطلاقية). ان العلمية تقف على الضد من المنظور الروحي – التأملي للعالم – أي للميتافيزيقيا – مشتقة من احد العلوم المتناهية بعد رفعها الى مرتبة وكالة-الفلسفة – كما حصل بالنسبة لعلم الاجتماع (كومت)، وعلم السياسة (فيورباخ)، وعلم الفلسفة (ميل)، وعلم الأحياء (سبنسر) وعلم الفيزياء (ماتش Mach). أما الاطلاقية فتظل تقدم قضيتها كفلسفة، بل وكميتافيزيقيا، حتى وان كانت ميتافيزيقيا ضدية، وهي تركز على فكرة الكينونة او ((الحقيقة النهائية)) باعتبارها فكرة لاعقلانية بذاتها، وتنقض ذاتها، ((كمتناه – مطلق)) يتسم بالانعكاسية الذاتية التي تدمر كل استقرار موضوعي. وفي ذلك نجد مجددا تعبيرا عن الفرضية الاساسية للفلسفة الضدية، أي ان الوعي الذاتي المتناهي والعالم المتناهي هما مطلقان في الحقيقة، وهو رأي يتشاطره شوبنهاور وستيرنر،وكيركيغارد ونيتشة.

 القليلون سيشكون في ان ما يسمى بـ((المنظور العلمي للعالم))هو الذي سبب في يوم من الأيام الرعب للملوك والباباوات. ان جاذبيته تكمن في ادعاءه التخلي عن أوهام التفكير التجريدي ومحاولته اعادة تأسيس العلم على اساس غير نظري كلية، بالاعتماد فقط على الحقائق الصارمة للطبيعة والمجتمع كما ينبغي ان تتضح امام عقل صحي تخلى عن المحاولة المجردة للـ((تفكير))في العالم وزج نفسه بدلا من ذلك في هذا العالم. وبرفضه الميتافيزيقيا التـأملية باعتبارها أسلوب خادع يعتمد على مختلقات غير مبرهن عليها، فان هذا المنظور العلمي يعزز التقويم الشامل والواقعي والمكشوف ((والخالي من الميتافيزيقيا)) للإنسان والطبيعة والتاريخ دون الابتعاد عن ((العالم المتناهي والواضح والمباشر والفعلي)) لانه منظور ((وضعي)) لانظري فلابد ان يكون محصنا امام الشكوك والتحريفات النظرية.

 لكن هذا الاتجاه المضاد للفكر هو الذي جعل من العلمية غير علمية في التطبيق. فانجذابها نحو الأدلة الثابتة هو نوع من الدوغمائية ((حقيقة عامة)) يتم التسليم بها وبالتالي يتم تحشيد حقائق اعتيادية لأثبات ((البرهان))- وبالتالي تمت البرهنة على التطور في الأنواع كحقيقة طبيعية صارمة من خلال وجود بعض الضفادع، وتمت البرهنة على ان سياسات نابليون هي ((دليل)) على صراع الطبقات كحقيقة تاريخية صارمة، لكن مثل هذا التحليل غير دقيق وفكرة ان هناك حقائق عامة أولية هي في أي حال رؤية وظيفتها الحقيقية الحلول محل المبدأ العقلي. وكما تبرهن نظرية التطور، والنظرية الفيزيائية، والنفسية الميكانيكية، والتاريخانية، وبقية المبادئ الاخرى، فان ما تنتجه العلمية فعلا هو مبادئ ميتا فيزيقية مستترة تتعامل مع مسلمات لاتقل تلفيقا عن تلك التي تحاول الحلول محلها. وباختصار، فان الوضعية العلمية هي ميتافيزيقيا تأخذ شكلا اخر، أنها ميتافيزيقيا العالم المتناهي او الفعلي الذي يقدم كمطلق، او كمعطى غير مشروط.

 ورغم استنادها الى جذور ونوايا مشابهة، فان الاطلاقية تتعارض تماما مع الوضعية العلمية، ان المطلق في معناه ما فوق الحداثي يجسد إشارة ضد تأملية، تأكيد متطرف على جعل المتناهي مطلقا بصورة مشابهة لماتفعله العلمية، ولكن هذه المرة لصالح المطلق. يوصف المطلق هنا بأنه الموجود بذاته قبل ان يتم إدراكه، وبالتالي فانه مبهم وعصي على الفهم. و لايكون إدراكه ممكنا الا من خلال كشفه الذاتي عن نفسه، ولهذا السبب يكون الإدراك لاعقلاني وجمالي. ويقدم شوبنهاور في مفهوم الإرادة وكيركيغارد في الاستبطان امثلة مبكرة عن هذه الدلالة الاطلاقية التي تتبدى بمظاهر أخرى في القرن العشرين، من قبيل ((ما لايمكن معرفته)) و((و ما لايمكن إدراكه))…وغير ذلك … ان اطلاقية القرن التاسع عشر ولدت ميراثا كاملا من الخيال الشعبي صور ((الحقيقة النهائية)) باعتبارها الحياة، او الذات، او النظام الكوني، او اللاوعي … في الوقت الذي خضع التقليد الأدبي الى نفس اللغة الرومانسية – الاطلاقية من المبهمات والمقدسات.

 لذلك، منذ بدايات الفلسفة الضدية كان هناك انقسام عميق بين الثوريين والرجعيين و هو انقسام ينبع من غموض أساسي يتعلق بالكيفية التي يمكن من خلالها أدراك وتأكيد (حقيقة) وجود أنساني متناه، طبيعي – تاريخي، بمواجهة (مثالية) العالم كما هو في الفكر الفلسفي التقليدي. وعند هذه النقطة ندرك ان الهدف لا يتمثل في وضع نهاية للتفكير بذاته بل اكتشاف نمط ضد مفاهيمي في التفكير، أي ((العلم))- بمعناه المحرف هذا- او ((الذاتية)). لذلك فان روحية ما فوق الحداثة لا تستهدف انكار الحداثة، بل تأكيد مبدأها الأساسي في أدراك الحرية الانسانية الواضحة في العالم كشرط فعلي او عملي، وهنا يكمن غموضها، أنها ستتجاوز الحداثة وتقليدها لكنها لن تتخلى عنها، بل ستوسع حدودها الى أقصاها ولكنها ستنسحب بعد ذلك. وبالنتيجة، فان كلا من الوضعية العلمية او العدمية الاطلاقية ستضع عقلا متناهيا محل العقل الشامل وتنكر فكرة الحرية من اجل حرية فعلية تدرك بمفهومها الاجتماعي او كحياة مؤكدة ذاتيا. ويتطور جدال اشد حدة حول الكيفية التي ستتأثر فيها عملية ((الإطاحة بالمثالية)) وما الذي سيكون عليه التفكير ما فوق الحداثي الجديد، هل سيكون إنكارا ثوريا للفكر بأكمله او اعادة تشكيل رجعية في شكل ينطوي على النقيض الذاتي، هل سيكون تجاوزا للعقل او تحولا ضده ؟

 وهذه الجدلية الحادة ضمن الفلسفة الضدية تجسد التناقض الكامن في النموذج ما فوق الحداثي القائم على العقل المتناهي والحرية المتناهية وما يرافقه من إطاحة بالروح الفلسفية انطلاقا من هذا الموقف الانساني المتطرف. و لايمكن للفلاسفة الضديين ان يحلوا المشكلة الا من خلال شطر الفكرة التقليدية الحداثية عن الحرية، وحدة العقل والوجود، الى عناصرها التكوينية، وأثارتها ضد بعضها، بحيث يقدم العنصر الأول (العقل) كصورة للميتافيزيقي والمجرد ويقدم الاخر (الوجود) كجوهر له. لذلك فان الوضعية وأشكالها المختلفة تبطل الوجود الكوني الشامل باسم العالم كما يتجلى للعقل الانساني المتناهي، بينما تقوم الاطلاقية بأبطال العقل الكوني الشامل باسم الوجود كما يتجلى للموجود المتناهي. وبينما ترفض الأولى ما نعتبره الخرافة الميتافيزيقية الأساسية فان الثانية تؤكدها كحقيقة ينبغي إنقاذها من الأولى، والعكس صحيح. والنقاش الكبير بين الاخلاقية والرومانسية يحتمل النموذج الشعبي : فكلاهما شدد على الحرية المتناهية المتطرفة باعتبارها وحدة الوعي الذاتي مع الطبيعة. لكن الحرية في الاتجاه الأخلاقي يمكن إدراكها في التجاوز الانساني – العملي للطبيعة بحيث لا يوجد شيء ممقوت أخلاقيا كالمبدأ القائل بأن الحرية هي شيء غريزي. لكن بالنسبة للاتجاه الرومانسي، فان الحرية لاتكون معطى جمالي الا في البداهة الطبيعية للشعور الذاتي لدى الفرد، وليس هناك شيء يمكن ان يخلط هذه الهوية المتأصلة شعوريا مع ((الحياة)) بنفس القدر الذي يصر فيه الاخلاقيون على طلاق العقل من الطبيعة. وبهذا الأسلوب فان المبدأ الحداثي القائل بوحدة العقل والوجود سيتم نقضه وتأكيده في ذات الوقت.

 وقد ناقش (ستراوسStrausss وكيركيغارد) ايضا المعنى الثوري في المبدأ المسيحي – الحديث القائل بالهوية الإلهية – الانسانية، فالأول مثله كالتزام تجاه التكوين الذاتي الانساني الموضوعي الذي يتطلب مراجعة الأيمان الذاتي، والأخير رأى فيه انفعال أيماني ذاتي يتخطى كل الاتجاهات الاخلاقية والعقلانية الانسانية. وبصورة مشابهة تنقسم الضد ميتافيزيقيا الى وضعية وعدمية : (فكومت) سيسعى الى اساس ما فوق عقلاني جديد للعلم و الاخلاقية الاجتماعية في منظور للعالم يحصر الوجود بالإنسان ويستوعب الرؤى عبر الانسانية التقليدية في الفلسفة والدين. لكن بالنسبة الى شوبنهاورSchopenhauer، فان صرامة الوجود الذاتي للواقع، والإنكار التام للمطلق، هما من يبطلان كل شيء وضعي او موضوعي في الوجود الانساني.

 ومن ابرز ممثلي الفكر الضد – أخلاقي فيورباخ،وستيرز في ألمانيا، ميل وسبنسر في إنكلترا، جيمس وريس في أمريكا، حيث تتجلى ذات العلاقة التضادية التبادلية من الأبطال / التأكيد. فعلى سبيل المثال، يصف فيورباخ الفلسفة التأملية باعتبارها لاهوت مسيحي معقلن : فتصويرها للإله – الإنسان يشير الى ان الحرية هي شعور فردي بديهي متناه خاص بالكائن الانساني تحديدا. واستبعاد الشكل الروحي – الفكري الغريب الذي تمثل فيه الفلسفة والدين تلك العلاقة هو تحرر سياسي يوقظ الفردية الذاتية غير المؤنسنة كي تعي إنسانيتها الجوهرية. أما بالنسبة لستيرز، فليس هناك شيء اكثر غرابة من فكرة الماهية الانسانية الموضوعية. ان انتماء الفردية لذاتها هو اطلاقية أخلاقية ولكل شيء علاقته (الخاصة) بها.كل ((الأسباب)) الاخلاقية الموضوعية تتحلل في التبادلية اللامتناهية، للتفرد والملكية،أما (الروح)) سواء بمفهومها اللبرالي او الانساني او الأخلاقي، فهي ليست سوى اضطجاع ما بعد حياتي للاحرية الدينية – الفلسفية –(شبح).

 وهذه هي نفس المواقف التي نقحها كل من ماركس ونيتشة وصاغاها في مبادئ أصبحت متسقة كثيرا مع الفكر والثقافة والحياة السياسية ما فوق الحداثية. فكلاهما أدرك حدود الاراء الفلسفية الضدية المبكرة التي كانت تنقض ذاتها بذاتها. فماركس الذي اعترف بريادة فيورباخ، اعترض على ان نقضه للاهوت مازال لاهوتيا، أما نيتشة الذي اعترف بريادة شوبنهاور، فقد انتقد إنكاره للأخلاقية ثم تقديمه نموذجا اكثر تفسخا منها. واستنتج الاثنان، ان المشكلة في مواقف سلفيهما تمثلت في ان رفضهما أحادى الجانب للمواقف المضادة لم يقم على تقييم كاف لقوة هذه المواقف، وهو خلل سيعالجه ماركس ونيتشة من خلال السعي بوضوح اكثر لتحديد فرضيتهم الضدية الخاصة وتضمينها في أرائهم الكلية. ان أفكار نيتشة اتجهت تماما الى الاخلاقية، الى الإرادة الانسانية،لقد كان يتساءل كيف امكن لهذه الإرادة ان تظهر لاول مرة. (كيف تكون القدسية ممكنة)، وكيف حدث ان تلوثت الثقافة التاريخية كلها. على العكس، اهتم ماركس بالفردية المتطرفة والأخلاق ضد الانسانية، والتي رأئ أنها تعيق الحياة الطبيعية للكائن الانساني، وطرح منطق القوة الايديولوجية والجدلية الطبقية لتفسير ما اعتقد انه شذوذ قاس يعكسه صعود المجتمعات البرجوازية القائمة على الحرية الذاتية الزائفة. وبالتالي تصبح الانسانية فردية متفسخة والفردية إنسانية مغتربة.

 ان الانجذاب للنظريات الشمولية ذات الحافز الأيديولوجي من اجل تبرير الرفض أحادى الجانب للثقافة الفلسفية الغربية بمجملها بدأ مع ماركس ونيتشة وأنتج ضغائن حادة وفرت الوقود الذي اشعل في البداية الصراع الطبقي، ثم حروب القرن العشرين. بالنسبة لماركس،الانساني الثوري، فان القاطرة التي تحرك التاريخ هي التناقض المتجسد في الفردية الاوتوقراطية، وبالنسبة لنيتشة، الاوتوقراطي الجمالي، فان هذه القاطرة هي تمجيد الإنكار للحياة، أي الروح الانسانية. والشيء الملفت للانتباه هو الخاصية التناقضية المتبادلة لهذه التقييمات، أي كيف تنظر المواقف الضدية الى بعضها. لكن بالطبع لايمكن القول ان التاريخ الانساني هو قصة قمع الحرية الاجتماعية الموضوعية من خلال السلطة القمعية للإرادة الفردية المطلقة وبنفس الوقت هو قصة، التمرد المتزايد للحياة الذاتية الموثوقة على أيدي المثالية السياسية – التقانية القمعية.

 من الواضح ان التفسيرين الماركسي والنيتشي للماضي هما تلفيقين هدفهما الأساسي تجسيد الاراء التي تتجنب الأسس العقلانية. والتاريخ هو الذي يصبح الوسيط الذي يستمر فيه التعارض بين التقديرات الوضعية و الاطلاقية للحرية، وبهذا الأسلوب يعتبر كل جانب نفسه تحررا من افتراضه الضدي، يفسر بهيمنته على التاريخ الانساني. وما يدعى بالتاريخ يصبح عرضا زمنيا لتقديم روحية سيتم الإطاحة بها الان : بالنسبة لنيتشة هو تمجيد الإرادة الانسانية العدمية التي سيتجرأ الفيلسوف الجديد الان الى اعادة تأكيد ((الحياة)) بمواجهتها، وبالنسبة لماركس هو أسطورة القمع الأيديولوجي من جانب الطبقات الحاكمة، التي يتم الان الإطاحة بها.

 وكل من التقييم المحدد للأزمة الثقافية الراهنة والكاريكوتور المحدد للماضي الذي يزعم أنها انطلقت منه، يلتقيان كأوجه متبادلة لجدلية واحدة لا ينصب اهتمامها الفعلي على تاريخ العالم بل اعادة تشكيله لتوليد مواقف هي في الأساس مواقف ما فوق حداثية. ومن المحتم ان التاريخ نفسه، لاسيما تاريخ الفلسفة، قد تحول الى تاريخ همجي وان ميراث هذا التحول الهمجي لازال واضحا في كل مكان، ويصبح في الحقيقة النظرة المقبولة الى الماضي.

 الشيء الذي ستدافع عنه الوضعية الإلحادية المنطقية للمدرسة العلمية هو التقدم الموضوعي نحو عالم آنساني فعلي تام، تكون فيه الحرية متناهية وملموسة وترفض فيه المفاهيم الروحانية التقليدية. آما الاطلاقية فستؤكد بصورة مشابهة على حرية متناهية جدا، حرية الحياة الفردية الذاتية الموثوقة التي يعد كبتها قيدا تفرضه الثقافة التقليدية. وهذه الأشكال ما فوق الحداثية من الانسانية المتطرفة والفردية تبدو وكأنها التقت ضد عدو مشترك يمثله التقليد العقلي و (مثاليته)) لكنها في الحقيقية تقف على الضد من بعضها بحدة تتحول في بعدها السياسي الى فعل شديد التطرف.

 ان رد فعل التقليد الفلسفي ضد ما فوق الحداثة التي ظهرت في القرن التاسع عشر كان محاولة تشييد الدروع للدفاع عن نفسه، وقد شهد الجزء الاخير من القرن التاسع عشر سلسلة من ((المثاليات الجديدة))- الأفلاطونية الجديدة، الكانتية الجديدة، التومسية الجديدة...، والتي لم تكن فعلا رجوعا الى تلك المواقف المبكرة بل استغلتها لتشكيل أسلحة ضد أعداء المثالية تساعد في الحرب مع المادية. لكن لأن هذه المثاليات الجديدة خاضت الحرب في ساحات حددها العدو وبأسلحة اختارها العدو، فانها لم تنجح الا في التسبب بمزيد من التحريف لمصادرها الأصلية – فاصبح أفلاطون أخلاقي فيكتو ري، وهيغل قومي بروسي او إمبريالي بريطاني، وفي المواجهة التالية بين مافوق الحداثة والمثالية الجديدة اصبح واضحا للأولى ان احتلالها الكامل للعمل العقلي كان يتطلب الهجوم على تخوم الفلسفة نفسها لاخراجها من المنافسة نهائيا. وفقا لذلك، فان الفكر النقدي للقرن العشرين هو اكثر من مجرد فلسفة ضدية، انه يقوم برفض المنطق العقلي من وجهة نظر تدعي أنها تتخطى الفلسفة، وفي نفس الوقت أنها رؤية فلسفية يمكن ان نسميها بـ((الميتا-فلسفية))،((ما وراء الفلسفة)).

 

ما وراء الفلسفة : مدارس القرن العشرين

الموقف والافتراض العام لفكر القرن العشرين هو موقف الأفراد المعاصرين المتحررين والواعين بذاتهم والموجودين في اطار علاقة مباشرة مع عالم متناه يعرفون بصورة مباشرة انه عالمهم , وكل مفاهيم الحقيقة التي تتخطى هذا العالم يحكم عليها بانها خاطئة او ((ميتا فيزيقية)).

 وتصبح العلمية و الاطلاقية الى حد كبير طبيعة ثابته يبدو ان عالم الفكر يعتبرها مرتبطة بالماضي تماما كنوع من ((الفلسفة التقليدية)) لم تعد ذات صلة بفردية واثقة من نفسها ومرتبطة بشكل كامل بالحياة الانسانية المتناهية وممكناتها العملية. وقد ظهرت مدارس في الفلسفة التحليلية والوجودية للتعبير عن هذا الموقف. وسعت بطريقة هجومية الى احتلال الحيز الفكري على الجانب القريب من الانقطاع الزمني مع عالم العقل القديم، لتبرز كفكرة متلائمة مع عالم جديد شجاع يحافظ على الحرية الذاتية عن طريق النقد الواضح لموقف الفلسفة التقليدية، ويكمن وضوحه في كونه فلسفي بذاته. وسيكون على الفلسفة ان تحمل ضدها الذي يفندها.

 ومن وجهة النظر هذه يتم أبطال الفكر التقليدي كله عن طريق عادته في تجاوز حدود صارت تعد الان غير قابلة للتجاوز. لقد اصبح هذا الفكر مذنبا لتجاهله الحدود الاستشرافية للوعي، مثلا، التفكير المتخطي للزمان، او ((نسيان) متناهية الوجود، او القبول غير النقدي لمقولات غير حقيقية باعتبارها حقيقة، والفشل في أدراك ان ((التفكير)) هو مجرد نشاط لغوي … ولكل هذه الأخطاء سيتم التخلي عن الفلسفة التقليدية. وعلى النقيض من ذلك لن تدعي الفلسفة الجديدة أي معرفة أولية، بل ستشكل نفسها كتجسيد ثانوي فقط هدفه الوحيد سن القوانين ضد هذه الانتهاكات والبحث المتواصل من اجل كشف وتجديد وكبح وتصحيح المظهريات المتكررة للفكر العقلاني في تطلعه الخاطئ نحو معرفة كونية مستحيلة.

 بقدرما يحتل كل من المنطق والانطولوجيا مكانا أساسيا في الفلسفة، فان الميتا-فلسفة الجديدة تتشكل من خلال محاولات لتأسيس منطق جديد وانطولوجيا جديدة خاصين بالمتناهي لتخطي أساسهما التقليدي في التفكير العقلي. ووفقا لذلك، فان عددا من تجارب القرن التاسع عشر في الرياضيات وعلم النفس مهدت الطريق لاعادة بناء متأخرة للمنطق وفق الخطوط ما وراء –المنطقية، كما اتضح لدى برينتانوBrentano، وبولBoole، وفريغFrege، وبيرس Peirce، واخرون … لم يكن الحافز الداخلي لهذه الثورة تطوير علم المنطق بذاته. بل الدفع بالمنطق كلية ليقع ضمن المعيار ((ما فوق – المنطقي))، المشتق من الرياضيات، والأعراض، وعلم النفس. ونجد جذور المدارس التحليلية والمنطقية – الظواهرية في مثل هذه ((الدراسات)) الميتا-منطقية والميتا-انطولوجية التي ظهرت في العقود الأولى من القرن العشرين : مثل بحوث (هيوسيرلHusserl) عن المنطق والرياضيات الاساسية …

 ان هدف المناهج الجديدة كان تقويض الفلسفة التقليدية بشكل تام عن طريق الكشوفات المنهجية لكل أخطاءها ومثالبها المزعومة. والقول بان مثل هذا التحليل الميتا-فلسفي للفلسفة هو المهمة المشروعة الوحيدة للفلسفة نفسها اصبح الحكمة التقليدية أواسط القرن العشرين، ومن المفارقة ما تبدى من عودة ((الفلسفة)) الى الظهور فجأة، فلأجيال عديدة أصبحت أعمال المؤسسين الكبار للميتا-فلسفة (مثل فريغ، ديويDewey، راسل Russel، هوسيرل، ويتغنستاين Wittgenstein، هيدجير) مقدسة علميا، ومقولات أساسية للمدارس الأكاديمية الكبرى التي انتج باحثوها جبالا من الدراسات التي استهدفت استكمال النقد النهائي للفلسفة التقليدية، واعيد مجددا قراءة مجمل الميراث التقليدي من أفلاطون الى كانت على مستوى جماهيري، ليس فقط للاطلاع، بل ولتوفير الحنطة التي تقوم المطحنة الميتا-فلسفية بطحنها، او كمصدر لأفكار مثيرة للاهتمام يمكن اعادة طرحها بشكل مناسب. ان ذلك يعبر تحديدا عن روحية الأيام السعيدة لما فوق الحداثة، حقبة الحلول النهائية، التي تأكد من خلال فنها وثقافتها الشعبية وفلسفتها، وسياستها، ان الإرادة المتناهية ستسحق كل المطلقات.

ان ادعاء هذا التحليل الجديد وضع الفلسفة الى جانب العلم لم يكن يعني ان الفلسفة بذاتها ستصبح علما، ولكن لان الافتراض الجديد يقول بحصر المعرفة في التقييم الوضعي – العلمي للعالم الحقيقي، فان الدور الصحيح للفلسفة يجب ان يقوم على أنشاء وحماية القواعد الخاصة بمثل هذا التحقق العلمي بطريقة ميتا-علمية، ورغم ان المذهب الذري لراسل يبدو الى حد كبير اعادة صياغة للتجريبية البريطانية التقليدية، فان الاختلاف يكمن في ان (راسل) لم يعد يعترف بأية أشياء تجريبية بذاته(لا أفكار، لا مواضيع فكرية، لامستدلات تجريبية مفكرة، باختصار، لا معرفة فلسفية ")، هناك فقط العالم – الحقيقي الوضعي والأفراد الذين يستخدمون اللغة للتعبير عنه. المنطق ليس فكرا متجسدا في بنية داخلية خاصة به – لم تعد هناك ((كائنات مفكرة))بل دماغ مزود بحيوانات ناطقة … المنطق هو ميتا-منطق، نظام ثانوي للقواعد الفعلية بشكل تام، من اجل صياغة صحيحة للآراء الوضعية. واعتقد (راسل)، ان حيز الحقيقة المصورة افتراضيا هو العالم الحقيقي الوحيد الموجود، العالم المتناهي جدا في الزمان والمكان الذي من خلاله تعارض الفلسفة التحليلية العالم الفكري للميتافيزيقيا التقليدية.

 لذلك، فان البداية لا تتمثل بأي اتجاه نحو اساس عقلاني ما، بل نحو سلسلة من المبادئ التي تعلن ببساطة كيف تبدو الاشياء لأفراد متناهين يصيغون آراء عن عالمهم المتناهي بنفس القدر. ومن بين هذه المبادئ : ليس هناك عالم موجود سوى العالم الحقيقي، أن ((تعرف)) يعني ان تضع بطريقة صحيحة الحقائق من خلال الافتراضات، ان الافتراضات التي تشير الى الحقائق التجريبية آما ان تكون صحيحة او خاطئة وما سوى ذلك فهو مجرد تعبيرات عقيمة، وحدة العلم التجريبي تحدد ماهية الحقائق أما المقولات الميتافيزيقية او الاخلاقية فليس لها معنى، كذلك فان العمل الحصري للمنطق (وبالتالي الفلسفة) هو توضيح قواعد الرأي الافتراضي القائل بلا جدوى المزاعم غير المرتبطة بالعالم الفعلي وتتكرر هذه المواقف نفسها في كتابات (ويتغنستاين) التي تقرر بحسم وظيفة الفلسفة الوحيدة ليس في صياغة الافتراضات بذاتها، بل في ((جعل الافتراضات واضحة)). وهذه الاعمال تتخلى عن صيغة (راسل) لتؤسس قاعدة اكثر صرامة تقول ان ما يقع خارج الحقائق وصورتها اللفظية هو شئ لايمكن الا ان نظل صامتين تجاهه ((وليس هناك ما يقال حوله)).

 ويطور الوضعيون المتأخر ون نفس القاعدة في محاولاتهم صياغة ((مبدأ التحقق))، الذي يتخطون بتطبيقه الصارم كل اغراءات الميتافيزيقيا.لكن في أي حال، من خلال جيل من الأدب التحليلي برزت قيود معيار التحقق، وبدا من الصعب تفسير لماذا لاتكون الشروحات الشبيهة بالفيزياء حقيقة بدون استحضار الميتافيزيقيا التجريبية، ويبدو ان شبح ((عالم خارجي)) مافوق-حقيقي ظل موجودا.بالإضافة الى ذلك، تم الكشف عن الخلل في المبدأ الأساسي لهذه القاعدة من حيث ان معيارها لايمكن ان يطبق على نفسه بدون ان ينقض ذاته.لقد اصبح واضحا ان النظام الذي لايسمح الا بالطروحات الفعلية باعتبارها ذات معنى بحد ذاته نظام ميتا فيزيقي لا يتفق مع مقصد الفلسفة الجديدة الذي كان يتمثل بإنشاء قاعدة ميتا-ميتا فيزيقية في الحياة اليومية بشكل يحررها من كل الضغائن الميتافيزيقية. بات هناك شعور بالحاجة الى منهج اقل حزما (في نظرية) للبحث التحليلي من اجل استيعاب الطرق الهادفة التي يستخدم الأفراد من خلالها اللغة للتعامل مع،والتعبير عن، عالمهم المباشر.

 فيما بعد تحدث ويتغنستاين عن المنطق الافتراضي باعتباره مجرد منطق يستخدم لغة يفترض أنها تتفوق على غيرها. وهو يدعو في تحليله الى تجنب الافتراضات حول ما قد يكون ولا يكون ذا معنى وما هي المميزات الخاصة بلغة معينة، وهي خطوة لايمكن تبريرها الا بصورة خارج – لغوية، أي ميتا فيزيقية. ان افضل وقاية ضد الميتافيزيقا هي الاعتراف بان مشاكل الفلسفة التقليدية هي بالفعل اضطرابات ومعوقات لغوية، والفلسفة الصحيحة هي تلك التي يقوم المحلل من خلالها بتحرير اللغة من هذه العادات … ومثل هذا التحليل،سيتجنب التفنيدات الميتافيزيقة الضدية الصريحة كتلك التي تقدمها الوضعية المنطقية،وهو سوف يحل ببساطة التعقيدات اللغوية التي تتسبب بالمشاكل والارتباكات الصعبة، وبضمنها الوضعية، التي تولد ما نسميه ب((الفلسفية)). والمعيار الاعتيادي لهذا العلاج هو الاستخدام اليومي والتلقائي للغة باعتبارها ((السلوك البشري الشائع)). أنها لم تعد مسألة الكشف عن حقائق خفية او حتى أدراك او تغيير حقائق واضحة، فالمهمة البسيطة للفلسفة اللغوية هي تقديم اللغة الاعتيادية والتعبير عن السلوك الاعتيادي كما هو.لذلك يؤكد ويتغنستين على أولوية العالم المباشر الاعتيادي بلغته اليومية على استشرافات العقل ((المحرفة)). أنها لم تعد مسألة عالم مصور في افتراضات تجريبية ثابتة، بل عالم مفاهيمي وسلوكي من الاستخدام اللغوي الشائع ينظر اليه كمطلق لانه لا يوجد شيء مهما كان يمكن ان يفهم الا من خلال هذا العالم.

 ان الوضعية اللغوية التي طرحها ويتغنستين تقود كل شخص الى طرق ثقافية فرعية تقوم على النظر ((لا الى المعنى، بل الى الاستخدام)). ومع اوستن رفع القاموس اليومي الى منزلة المقالات الفلسفية. وباتت القاعدة هي التعامل مع كل أمثلة السلوك اللغوي كـ((مباريات – لغة)) مختلفة، لكل منها قانونه الخاص، وكل منها متلائم مع نطاقه الخاص، وليس فيها من يتوفر على امتياز الوصول الى حقيقة خارج لغوية،بما في ذلك الافتراضات التجريبية، بل واصبح من الممكن الان العودة مجددا الى ((الآيات)) الدينية او الشروحات الاخلاقية او الميتافيزيقية دون ان ينطوي ذلك على أي التزام تجاه ما تقوله اللغة اللاهوتية او الاخلاقية او العلمية.واصبح هذا الاقتصار على شكل اللغة المستخدمة في التواصل أحد النماذج الاكثر قوة في الدراسات والبحوث الأكاديمية في القرن العشرين. وفي مجال الفلسفة، اعتقد ان ذلك يمثل تحررا كبيرا من مواجهة المشاكل الاولية التي يمكن الان لآي شخص ان يشعر بانه مقتنع في انها مشاكل زائفة ويمكن ان تحل ببساطة من خلال الرجوع الى اللغة الاعتيادية التي نتكلم بها عادة والتي يمكن ان نفترض بأننا خبراء نوعا ما فيها. لقد وفرت فلسفة اللغة أفضلية ديمقراطية ومتينة ومتاحة يمكن من خلالها لكل شخص تقريبا ان يسهم في الإطاحة الموجزة بالفلسفة وان يتحرر فورا من جميع الأوهام، ومن العمل الشاق للفكر العقلاني.

 وقد استهل (هر سيل) دراساته بنفس طريقة (راسل) مبتدأ في بحث القواعد الرياضية. وكانت أعماله ايضا ثورة ضد الميتافيزيقيا التقليدية ((غير العلمية في التفكير)). وركز اهتمامه ايضا على عالم الحياة اليومية المباشرة مؤكدا على الجانب الذاتي في التعامل معها.وكان إدراكه لدور المنطق الجديد و الانطولوجيا الجديدة مرآة مكملة لراسل : فالشيء المهم لديه ليس الحقيقة بل حقيقة الحقيقة، وليس العالم – الحقيقي كمفهوم موضوعي بل كنظام للمعنى. وستكون الفلسفة العلمية تحليلا لأنماط (كينونة)) العالم لمن ((يعيها))، ولن يكون الوصول اليها ممكنا الا بالتخلي عن أي رؤية او استدلال يتجاوز (الاشياء بذاتها)) في تكوينها الأولي. وهنا يتم تعطيل جميع أشكال الميتافيزيقيا، بما فيها الميتافيزيقيا التجريبية، وبمنطق ما وراء الديكارتية يتم تعطيل العقل المفكر وكل ما يتبقى هو الوصف (الفينومينولوجي – المنطقي الظواهري) للوجود ما قبل الانعكاسي في أدراك العالم.

 وينطلق هيدجير من نفس العلاقة المقصودة في الوعي الوجودي للعالم ما قبل الانعكاسي فـ((الموجود الذي يتساءل حول الوجود ذاته)) هو نفسه ((الأنا)) الموضوع الفينومينولوجي لهيرسل رغم ان هيدجير يحلله بالمفاهيم الانطولوجية لأنماط هذا الموجود – المتناهي باعتبارها ايضا الأنماط التي يرتبط بها الوجود نفسه. أما الزمن فهو ماهي الوجود، في أنماطه الصوفية المتنوعة يكون الوجود حاضرا او غائبا. لذلك، يعبر هيدجير عن الكيفية التي ترتبط بها الاشياء مع الفرد المتناهي بشكل يؤكد الوجود الزمني والظرفي والطارئ لعالمه. لقد اعتمدت ثقافة الوجودية الشعبية التي سادت منتصف القرن العشرين على هذا النوع من التفكير وقامت بتطويره في كل الاتجاهات وبشكل خاص الفن.

 لكن هيدجير ابتعد فيما بعد عن المنهج شبه النفسي في الفينومينولوجيا نحو نموذج أنطولوجي اكثر مباشرة. لانه اذا كان الوصول الى الوجود يأتي عن طريق تحليل الحالة الخاصة، تظل هناك مشكلة فيهما اذا كان ما تم استخراجه وكشفه لا ينطبق الا على الحالة الخاصة ام يمتد الى الوجود ذاته، وفيما اذا كانت الوقتية بعدا مقتصرا على الوجود الانساني وحده ام انه ينسحب على الوجود بأكمله. لذلك، انشغلت المقالات المتأخرة لهيدجير بدراسة الوجود بوصفه التقليدي (التومسي –الارسطوطالسي)، عدا انه بدلا من المفاهيم الأزلية والأحادية والشمولية للوجود بمعناه التقليدي. فانه يكشف نفسه الان بمفاهيم مناقضة جذريا (التحديدية، الوقتية، الجبرية، الاختلاف، الطارئية، الاحتمالية، المصادفة،…) باختصار، يقدم هيدجر ميتافيزيقيا معكوسة، انها ميتافيزيقا المتناهي، ما يمكن ان يوصف بمبدأ الوجود كزمان.

 وفي سعيه الى تفسير للوجود كما يبدو للكائن المتناهي وإنكاره التفكير الذي يتخطى هذه الحدود، يلجأ هيدجير اكثر فاكثر الى ألفاظ مبهمة، والى ايتيمولوجيا(1) مثيرة للشك، والى تواريخ غير تاريخا نية، مصاغة بلغة ضد-مفاهيمية وشبه لاهوتية وشعرية تتحدث باستعارات غير مصقولة، والنتيجة هي لغة سرية لا يستطيع حتى اكثر الأكاديميين خبرة التكلم بها ألا بصعوبة.. لكن هذا الطرح المبهم والعويص ليس مجرد ضعف، بل انه متعمد من جانب الكاتب الذي يعلن صراحة ان اللغة المفاهيمية غير متوافقة مع وجهة النظر الذاتية المتناهية التي يحاول ان يؤسس لها. وطالما ان ما يريد قوله مقصود ومناقض بذاته للفكر ولا يمكن مبدئيا تفصيله بطريقة واضحة، فانه لايمكن ان يفهم الا بفهم جمالي، او في افضل الأحوال ذاتي – وجودي.

 لقد استهدفت مدارس القرن العشرين تجنب التناقض الكامن في المواجهات المباشر مع العقل الفلسفي من خلال تطوير أنظمة ميتا-فلسفية يمكن القول أنها مستقلة عنه، وفي نفس الوقت أنها تضع حدوده وتؤثر على جوهر مفهومه النقدي – وبطريقة فلسفية. انه نوع من التفكير الذي يتخطى التفكير، انه تفكير متطرف، ما فوق الفلسفة بمعناها الفعلي. وفي تكرار معكوس للعقائد الرواقية والابيقورية التي سعت الى الحرية الفلسفية في – وليس ل-العالم، فان اللغة والوجود بالمعنى الميتا-فلسفي هما وعد بالانقطاع عن العالم القائم على الفكر الميتافيزيقي والأخلاقي التقليدي والعودة الى العالم الفعلي القائم على الحقيقة الوضعية والوجود الموثوق. والميتا-فلاسفة ينجزون ذلك بطريقة تفكير جديدة تفصلهم عن الميراث الفلسفي في الوقت الذي يظلون يمارسون النقد له. ان التحليل اللغوي يسمح باستمرار التعاطي مع قضايا الفلسفة الكبيرة، لكنه يضمن في الوقت عينه الانقطاع التام والشامل عنها. كذلك هي الانطولوجيا الوجودية، التي تعرف الوجود بانه الشيء الذي يظل خفيا الى الأبد في كل محاولة لإدراكه عن طريق الفكر، لكنها مع ذلك تعلن نفسها ببداهات شعرية لا تكتفي بتجاوز التفكير بل تزعم أنها التفكير بذاته وفي اعمق صوره.

 وكلما ازدادت هيمنة هذه البرامج ما فوق – الفلسفية على البحث في القرن العشرين، ازداد تخصصها ونخبويتها. ان الفلسفة، التي انطلقت كحماس ثوري اصلي لاعادة توجيه الفكر بطريقة حاسمة ثم الى البحث في العالم الانساني والحرية الفردية المطلقة ثم تحولت الى (مجال أدنى) من المراجعات المجدة والنقد الممل للانتقادات والتفسير غير المنقطع للتفسيرات، تحتكره بشكل أساسي الدوريات المتخصصة. أما القضايا والأفكار التي تطرأ أعادة لدى من يتمتع بروح فلسفية أصيلة فقدتم تنظيمها وتوزيعها وفق إشكال جدالية شديدة التخصص من المجادلة. أما ما كان في السابق تدريبا للفلسفة فقد اصبح مادة لتلقي كلمات السر والصيغ والمفاهيم التقليدية الضرورية لكل من يقرر المشاركة في النقاشات الخاصة والنخبوية ضمن المؤسسات الأكاديمية، وبالتالي، فان المدارس الميتا-فلسفية أصبحت تميل أخيرا الى ان تتحول لنوع من المدرسية النخبوية.

 والسبب في ذلك يعود الى التناقض الذي يبرزه المشروع ما فوق الحداثي مجددا في حالة الميتا-فلسفة. ففكرته الاساسية تعتمد على افتراض تفكير يقوم بالفصل بين نظام أولى، يتمثل بفكر غير نقدي ينتج في حالة الفلسفة معرفة وهمية، وبين نظام ثانوي للتفكير لا يقوم على معرفة الشيء بذاته بل على النقد المحض. وكل شيء يعتمد على الاحتفاظ الصارم بهذا التفريق، بحيث يجب عدم خلط نقدية النظام الثانوي بمعرفية النظام الأولي – فبديهيات المنطق ليست حقائق، وتحليل اللغة ليس مباراة لغوية من تلك التي تعرفها كمبرج، والعكس صحيح، فالأساس الذي تقوم عليه معرفة النظام الأولي يجب ان لايكون حصيلة لدراسة النظام الثانوي بل معطى مستقل بذاته – فالحقائق لاتوجد الا في هذا النظام، واللغة هي سلوك أعيادي، والمواجهة مع الوجود هي ما قبل انعكاسية _ لكن نقدية النظام الثانوي تدعي لنفسها حق التعامل مع طبيعة المعرفة التي يقدمها النظام الأولى وحدودها، رغم أنها لا تستطيع ابدا تحديد المعيار الذي تعتمده لعمل ذلك.

 

ما بعد الفلسفة : النتيجة التشكيكية

تنطلق ما بعد الحداثة من الاعتراف بلا كفاءة الأشكال الأولى والعقائدية لما فوق الحداثة، ورغم أنها تقدم باستمرار كرؤية جديدة وأصيلة، فانها في الحقيقة لاتأخذ التفكير نحو أي اتجاهات جديدة بل تواصل اتجاهات الفكر ما فوق الحداثي الى مدى اعمق. أنها تعتقد ان التحرر لا يتحقق من خلال الميتا- براهين التي في سعيها لتقييد موقف العقل الفلسفي تعترف به ضمنيا. وتعيد طرح نفس القضايا والمشاكل التي يطرحها الفكر التقليدي لكن بشكل مختلف. ما بعد الفلسفة ستمضي الى ما هو اعمق من ذلك من اجل تأكيد إفلاس كل أنواع الفكر المتركز على مبدأ معين سواء كان تقليديا او ضد تقليدي او ميتا – تقليدي، حتى أنها لم تعد تتظاهر بالعمل على وضع نهاية للفلسفة لأن ذلك يعني الافتراض بان هناك فعلا مثل هذه النهاية وأنها تعني نوعا ما نهاية ما بعد الفلسفة ايضا، وذلك هو ما يجب ان يتم رفضه تحديدا. ان التوق الى حل نهائي في الفلسفة، حتى لو كان هذا الحل سيضع نهاية لها، لايعني في أي حال سوى إنشاء نظام جديد محلها.

 يبدو ان ما بعد الفلسفة، في تعطيلها التشكيكي ليس فقط للنظام الأولي، بل وأيضا للسعي من اجل مفاهيم نقدية اكثر نقاوة في النظام الثانوي، ستدرك الأهداف الاساسية للتدمير ما فوق - الحداثي بدون السقوط في شرك اعادة صياغة فلسفة جديدة على الجانب الاخر من الجبهة النقدية. فإذا كانت الانتقادات الضد فلسفية والميتا-فلسفية لا تفعل شيئا سوى أحياء الفلسفة، أذن كيف يمكن اعادة صياغة المشروع ما فوق الحداثي بطريقة ناجحة لإنجاز هدفه المتمثل بالإطاحة الجذرية بالروح الفلسفية التقليدية ؟

 الجواب ما بعد الحداثي هو ان علينا ان نخلص أنفسنا من الأحكام المسبقة القائلة بان هناك أشياء من مثل المواقف والحجج الفلسفية وأنها تقدم معنى ما، ان التشكيكية الجديدة ستعطل صراحة كل هذه الافتراضات، أنها لن تسعى الى تعزيز أي رؤى أولية جديدة كما لن تسعى الى تقديم أي منهجية نقدية جديدة، فهدفها الوحيد هو الإشارة الى الكيفية التي يمكن من خلالها الكشف عن زيف تلك المقولات التي تتظاهر بمواقف ذات طابع متميز لادعاء امتلاكها حججا صحيحة وشمولية، وهي لا تعتبرها زائفة انطلاقا من وجهة نظر بديلة اكثر ((صحة))، بل تكتفي باعتبارها زائفة بذاتها بدون طرح أي بديل و بالنتيجة فان كل المحاولات لتقديم نقد يتبعه وضع مقولة بديلة لابد ان يحكم عليها بالزيف ايضا.

 لذلك، فان الفكر ما بعد الحداثي يمثل نقطة تحول خاصة لم تعد تسعى الى الإنكار العقائدي او النقدي للفلسفة لانه توصل الى استنتاج مفاده ان كل حجة تستهدف دعم او نقض الأسس العقلانية هي بذاتها بلامعنى. واذا كان قد تبقى شيء يدعى الفلسفة، فانه يندرج ضمن مفهوم ما بعد الفلسفة باعتبارها نقد يستهدف اقناع الميراث الفلسفي بلا جدواه. وقد يتم تحقيق ذلك بطرق متعددة، كإعادة تنظيم او تعريف أقسام من بعض النصوص محل الدراسة للكشف عن الطبيعة الخلافية الذاتية المزعومة للحجج الفلسفية – بمعنى أنها تهزأ بقواعدها، وتناقض بديهياتها بل وتخالف السمة الشخصية للفيلسوف. او أنها قد تعيد تعريف الفلسفة كمجرد نوع من الأسطورة الثقافية، وبشكل خاص ((الميتا- أسطورة))، ثم تبرهن على عدم مشروعيتها استنادا الى نسبية الثقافة. وهي قد تبدأ مع المتطلبات البراغماتية للمجتمعات الديمقراطية القائمة محاولة إظهار كيف يجب ان يكون لمصالحها وتقدمها السبق على التأمل الفلسفي الذي، ان كانت له قيمة يوما ما، لم يعد له اليوم دور سوى تحريف او إرباك التزام الأفراد تجاه المجتمع المفتوح.

 ورغم ان ما بعد الفلسفة تأخذ أشكالا كثيرة، فان فكرتها الاساسية هي فكرة تشكيكية بالمعنى الأوسع. فلأنها تقوم على الافتراض بعقم كل الحجج العقلية، لم يعد هناك حديث عن مواقف الا تفنيدات نقدية لذلك الافتراض. ان ما بعد الفيلسوف، ومن خلال عدم تبنيه موقفا فلسفيا او ميتا-فلسفيا لا يشغل مكانا محددا على الجبهة الفاصلة بين الفلسفة ونقيضها، وهي طريقة مناسبة لاستنطاق المواقف وأضدادها بطريقة تسمح ببساطة للنزوع نحو التفنيد الذاتي كي يعمل. لذلك يقول ديريدا : ((ابقي نفسي على مقربة من الخطاب الفلسفي … لأنني لا أؤمن بما يقال اليوم عن موت الفلسفة … لقد حاولت تجنب الجلوس في مكان محدد، في مقعد فلسفي ما، من اجل ان أسائل الفلسفة. سؤالي الأساسي هو:كيف يمكن للفلسفة ان تبدو لنفسها كشيء اخر غير ماهي عليه،وهل يمكنها بذلك ان تستنطق وتتأمل نفسها بطريقة أصيلة)) ؟

 ويستخدم (رورتي) لغة مشابهة حين يتحدث عن ما بعد فلسفة خطابية ((ذات إحساس شعري)) قوي او ما بعد فلسفة صغيرة دورها المحدد سيكون قيادة ما بعد الفلسفة الكبيرة للقيام بمهمتها،لإجبارها على التخلي عن نفسها. ومثل هذا التفكير الذي ينسحب عن ذاته لاستنطاق او رفض ذاته كان قد تنازل اصلا عن خيار اتخاذ موقف ضمن او خارج الفلسفة. انه يترافق مع اتجاه تتضمنه الفلسفة نحو بز الاعتراضات، والحد من الاختلافات من اجل وحدته وأعطاء ذاته مضمون متسامي، لكنه يترفع عن الوقوف خارج الفلسفة وأعطاء الحجج حول هذا الاتجاه انطلاقا من موقع اخر (العلم، الميتا-منطق،التطبيق،الشعر، وما سوى ذلك). ومن اجل تقويض اكمل للفكر فان ما بعد الفلسفة تحافظ على الغموض، وتحتضن السمة المجازية غير المحددة للمعنى، وتتبع الفلسفة فقط لكونها وسيلة من اجل تعطيل وتعليق أي قضية فلسفية مهما كانت …

 ذلك بالطبع هو الشكل التقليدي لكل أنواع الشك، فبدلا من التصنيفات والبديهيات والمناهج يكون الانجذاب الى المجازات، الى الصور البلاغية التي لا تعمل على إثبات او دحض أي شيء. فالتعبير المجازي الذي يستخدمه ديريدا هو ((الاختلاف)) الذي يوصف بانه ليس مفهوم ولا تقنية بل آلية تقرر ما اذا كان المعنى خلافيا ام أذعائياً وليس تطابقيا ام استدلاليا. ويقدم هذا المجاز باعتباره ((الجذر المشترك للمفاهيم المتعارضة، الملموس – اللاملموس، الحدسي – التعبيري، الطبيعة – الثقافة)) (ويمكن ان نضيف الكلمة - الفكرة، الوجود-الفكر، الحقيقي الوجود – الانطولوجي، الكتابة الكلام،…).التفكير الفلسفي الفعلي يرفض احد قطبي ثنائية ما ويسترد الاخر من اجل إدخاله حيز ((الوجود)) وربطه بنوع من ((الدلالة المتسامية)) الخيالية التي ينظر أليها كمادة لحدس خيالي للفكر الذي يصبح محصنا تجاه الغموض او الخلافية. ومن اجل قلب هذا الميل الميتافيزيقي كما يفعل نقاد الميتافيزيقيا، يتم ببساطة التأكيد على المصطلح المضاد – مثلا، المادة بدلا من الذهن – بمنطق عقلي ايضا لان ((كل إيماءة متخطية، من خلال إعطائنا فهما محكما لنهاية الميتافيزيقيا، تعيد حجزنا ضمن هذه النهاية)). ومن اجل استعادة أولوية ((الاختلاف))، يتم استنطاق المواقف الفلسفية والميتا-فلسفية للكشف عن الكيفية التي مازال عدم الاستقرار المجازي يتشبث و يفسد من خلالها تراكيبها الاصطلاحية ويشوش الثوابت المفترضة للمعنى وبالتالي انكار الغموض فقط من اجل استبقائه بطرق خفية.

 رورتي هو شكاك ((وضعي)) من حيث انه ينطلق في مهاجمته للفلسفة من اعتبارات عملية، أي ما هو ضروري من اجل تقدم قضية ((اللبرالية البرجوازية المابعد حداثية)). بالطبع ان البراغماتية هي وجه اخر للتشكيكية، هي مقابلها الأخلاقي، ومنهج رورتي ليس نهج أوربي واسع المعرفة يعرف تركيب الكلمات والنصوص ك(سلسلة متتابعة) وتحطيم كل معنى من خلال التشويش بين المشابهات والترابطات المتضاربة. انه البراغماتي الأمريكي الذي لا يميل الى الإسفاف والذي تعلم من جيمس وديوي كيف يضفي الطابع الكاريكوتوري على العبارات الفلسفية لجعلها تبدو مضحكة وسخيفة في عيون الأفراد الواثقين من حريتهم الموضوعية. ويترفع رورتي ايضا عن مناقشة الفلسفة بمفاهيمها الخاصة، لكنه يتحدى المفاهيم الفلسفية التقليدية للتفكير مصورا الطبيعة على أسس أيديولوجية بدلا من النمط شبه الميتافيزيقي للتحليل العلاماتي.وهو يرى ان القبول بالمعتقدات الفلسفية يضر بالانفتاح على الاحتماليات التطبيقية الضرورية من اجل تقدم ((المجتمع اللبرالي)) الذي يصفه وصفا ما بعد – فلسفيا باعتماد معايير الوجود الفعلي، والتجمعات الاثنية –التاريخية، أي ((الديمقراطية الغنية في أمريكا الشمالية)) التي يعد بقائها هدفه المهم الوحيد.

 بالطبع، ان هذه البراغماتية الانكلو – أمريكية، تتعارض بشدة مع الحسية الفوضوية لما بعد الحداثيين الفرنسيين، ولكن الاحترام الذي يتبادله رورتي ودير يدا يوضح انهما يتشاطران نفس الاهتمام، بالنسبة الى ديريدا، فان استنطاق الميراث الفلسفي ينطوي بالمعنى النيتشي على تعطيل الموافقة على كل التفسيرات الموضوعية للوجود، أما الاستنطاق البلاغي الذي يقوم به رورتي للفلسفة، فيلجاً الى استخدام التهكم والهجاء والبلاغة لفك الارتباطات المعتادة بالتجريدات النظرية، من اجل تقوية التضامن المشترك بين أفراد مشكلين بصورة طارئة. الهدف والنتيجة هما نفسهما عموما : أي المحافظة على حرية فردية واضحة جدا من خلال القلب المعتمد للاستشرافات العقلية المجردة.كما يشترك رورتي مع ديريدا في الاعتقاد بان الميتا- فلسفية لم تعد قابلة للدعم. مثل هذه المناهج لا يمكنها ان تطيح نهائيا بالعقل لانه حتى على الرغم من ادعاءها شغل مواقف نقدية خالصة بل ومواقف خالية من الاستباقية، فانها اوجدت مع ذلك مواقف فلسفية : الميتافيزيقيا الضدية للمؤقت بالتعارض مع الوجود اللامتناهي، (الميتا- منطق)في فهم الحقيقة بالتعارض مع منطق الفكر، الاستدلال المتسامي من خلال الاحتمالية بدلا من الوعي الاستبطاني، الاولية العلاماتية محل الاولية الابستمولوجية. ان ذلك لايمكن ان يوقف او يعطل مجال الفكر الفلسفي، لكنه يقسمه الى مجالين، الفلسفة التقليدية و الفلسفة المعاصرة، الميراث التقليدي الغربي ونقده الميتا-فلسفي، الجثة ومشرحها. وسيظل التقليد القديم مستمرا في المبادئ الميتا- فلسفية باعتبارها مضمونه الضدي.

 ان ما بعد الفلسفة ستكمل التحييد الشكلي للفلسفة، ليس من خلال التفنيد المباشر، بل من خلال تفسير كل مواقفها بطريقة تشكيكية – براغماتية لجعلها تبدو وكأنها تفند ذاتها، ولانتاج أضدادها، او لدفعها الى الانهيار تحت وطأة ثقلها. وهذا التكتيك لا يظهر الكثير من الاهتمام والاحترام تجاه التاريخي الفعلي للفلسفة، ذلك انه لا يوافق حتى على فكرة وجود مثل هذا التأريخ. ويؤدي ذلك الى تقليل الاعتبار للكتاب التقليديين ولكتاباتهم. وينظر رورتي الى التمثل باعتباره الأسطورة الحاكمة للفلسفة ويضع تحت هذه الفكرة التقليد الغربي بأكملة، ومن خلالها يدرك ابتكار الأقسام الزائفة او الأعلام (اولا الفكر وأخير اللغة) وهدفها الحقيقي هو تأسيس نوع من الإدراك الثابت لأشياء باعتبارها أشياء مطلقة او دائمة، وهو رأي لا يميل له اللبراليون. بدلا من ذلك، يتحدث ديريدا عن أدمان الفلسفة الطويل على فكرة الوجود، المشابهة لابتكار موضوعات شاملة وقائمة بذاتها – الطبيعة،الروح، الكينونة – هدفها المساعدة على انكار ما يسميه نيتشة ((الحياة)) وما يدعوه ديريدا بالغموض الحتمي واللايقينية الكامنة في تحديد المعنى.

وكلاهما هاجم ديكارت وكانت وهيدجير وكثيرون غيرهم بسبب تبسيط تلك المصطنعات الفلسفية التي يزعم بانها تعاني من التناقض الذاتي، ويحدث ذلك بدون اعتبار كثير للتاريخ الفعلي للفكر الذي لا يقدم برهانا كبيرا على مثل هذا السجل المتوافق من التضليلات المحددة وقدر كبير من الأدلة الواضحة على عكس ذلك. لكن ما بعد الفلسفة لا تهتم بالأدلة المتجانسة فليس هدفها ولانيتها ان تكون تفسيرا موضوعيا للتاريخ الفلسفي، هي في أي حال تنكر شرعية ذلك التاريخ، وكما يحصل في مدارس الشك القديمة، فان اعادة طرح حجج واراء أر سطو او هيغل او نيتشة من اجل البرهنة على ما تنطوي عليه من تناقض ذاتي هي ((مجازات)) هدفها الوحيد المحافظة على الانقطاع ما بعد الحداثي عن المنطق العقلي سواء في تجلياته الشاملة او التاريخية.

 لكن التناقض الأصلي الذي عانت منه ما فوق الحداثة، أي كيفية البرهنة فكريا على نهاية الفكر، لايتم تجاوزه في ما بعد الفلسفة بل انه يصبح اكثر جلاءاً، ليس فقط لانها تصوغ منظورها بغموض شديد، بل وأيضا بسب خاصية الهدم الذاتي للمهمة التي تحددها لنفسها. انها تحاول ان تتجنب مبدئيا أي انجذاب الى المبدأ، لجعل اللاحتمية المطلقة للمعنى شيئا ذا معنى، للتأكيد بشكل مطلق على عدم إمكانية الوصول الى رؤية حاسمة، لإنكار قوة المنطق ثم تحويل منطق المواقف المختلفة لنقض هذا المواقف، وهكذا …

 متى ما تسقط ما بعد الفلسفة ضحية لاغراء تقديم نفسها كمفهوم واضح، فانها ستتوقف عن ان تكون ما بعد فلسفية وتصبح مجرد ميتا- أسطورة، وهي مشكلة كان ليوتارد يشعر بالحساسية تجاهها. لذلك، يبدو من الاشياء الاساسية للفكر ما بعد الحداثي هو ان لايكون فكرا ((عن)) شيء ما، او في الأقل، ان لايسمح لنفسه بالقول ((عن)) ماذا يتحدث. والمضمون الوحيد الذي يجب ان يعكسه هو ان لايكون صارما، وان يكون تفكيرا نقطيا وغير حاسما يبنى على الأدب الفلسفي المتبقي الذي يجد نفسه – للمفارقة –ملزما بالمحافظة عليه من اجل الإبقاء على استمرارية من خلال التدمير المتواصل له.

 ان ما بعد الفلسفة تصبح، من خلال مشروعها الخاص، نشاطا فكريا تاما لا ينتهي الى أي نتيجة، او دلالة فكرية محددة. وهذا التناقض في التفكير بعيدا عن التفكير لم يعد مجرد تناقض مستتر في ما بعد الفلسفة كما كان في ما فوق الفلسفة، بل ان هذا التناقض يرتبط بالشكل الفعال للتفكير الذي يهدم ذاته. والقيود التي تفرضها على كل حجة عقلية تمنع ما بعد الفلسفة من طرح آراءها بمنطق عقلي، كما ان استنادها على دعائم تشكيكية يجبرها في لحظة ما على سحب ما تؤكده في لحظة سابقة، أنها تقول ان الفلسفة تعتمد على مقولات مقروءة مكتوبة ثم تذهب الى القول بعدم وجود المقولات، او ان الفلسفة هي جدال مفتوح وغير حاسم بشكل متعمد ثم تلجأ الى استنتاجات جازمة وعقائدية حول كل الاتجاهات الفلسفية بلا استثناء. ان الكتابات ما بعد الحداثية تسلم نفسها الى نوع من اللاتوافق المقصود، والى حيل لغوية غامضة، وتلجأ الى خطاب هزلي او فوضوي – او حتى إباحي – يعبر عن مأزق مفاده أنها لاتسمح لنفسها ابدا بقول ما تعنيه، أو تحديد فرضية او الوصول الى استنتاج لأنها اذا ما قامت بذلك فسوف تقوض نقاء اللاتفكير ((ما بعد الفلسفي))الذي تريد المحافظة عليه.

 

الاستنتاجات : استرداد الفلسفة

في ما بعد الفلسفة يصل الفكر ما فوق الحداثي الى مآزق والى اكتمال في نفس الوقت.ان مشروعها يسعى الى تأكيد المبدأ المعاصر في الحرية الواضحة والظرفية بالضد من عالمية التقليد الروحي – التأملي،وفي دراستها التشكيكية المحضة للميراث الفلسفة، تمثل ما بعد الحداثة بذاتها محاولة لتجسيد الفكرة المتناقضة القائمة على التفكير الماحق لذاته. لكن ذلك لايعني ابدا القول أنها نجحت أخيرا في الإطاحة بالفكر وأبطاله لتدعي الان بانها قضت على الفلسفي تماما، على العكس، فان ما بعد الفلسفة تظل مرتبطة بالتقليد الذي تنكره. وهي لاتستطيع ان تفكر بوضع نهاية فعلية للفلسفة لان ذلك سيعيد إبراز عقائدية ما فوق الحداثة التي تحاول ان تتجاوز صعوباتها، كما انه سيضر بمفهومها القائل بضرورة الحفاظ على التفكيك. كما أنها لا تستطيع الاان تبقي على الهوامش والحدود التشكيكية. وعلى تفكير متردد- غير ميال للحسم – وغير قادر لا على تجاوز الفلسفة ولا على العودة أليها.

 فإذا كانت نتيجة الفكر ما فوق الحداثي، منذ هيغل، هي تدمير الفلسفة، فيجب ان لا نفهم ذلك كنتيجة مباشرة لطروحاتها بل كأثر عرضي مهم. واذا كان من الصحيح ان المواقف والحجج الاساسية للمقالات الفلسفية الغربية الكبرى قد ضمرت او واجهت التحريف والتشويه الى حد إسقاطها نهائيا، فان ذلك لا يعود الى نجاح العلمية او الماركسية او التحليلية اوالانطولوجيا الوجودية او ما بعد الحداثة في كشف مساوئها او الحط منها او إظهار إشكالياتها وتناقضاتها،بل انه يعود الى التاريخ الحقيقي للفلسفة، الى التقليد الفعلي للفكر، الذي تم تناسيه او تجاهله من قبل الكثيرين ممن اعتمدوا تفسيرات خاطئة او تشو يهات استندت على تعميمات الاعتقاد العدائي لما فوق الحداثة … وكما ذكرنا سابق، ليس هناك فقط تاريخ للموقف ما فوق الحداثي، بل ايضا تاريخ لعمليات مختلفة استهدفت اعادة بناء الميراث الفلسفي، وهي عمليات لم تجد الكثير لتغيره في هذا الميراث او لتفهمه وفقا لمعاييرها الخاصة، ولكنها قامت بطرحه وإساءة تأويله لأجل دعم هذا المنظور او ذاك من اتجاهات الحداثة المتجذرة. وفي الوقت الذي تتغير عقيدة ما فوق الفلسفة، فان شكل الهجوم على التقليد الفلسفي، بل وأيضا شكل اعادة بناءه، يأخذ بالتغير.

 والهدف من ذلك كان الحفاظ على علاقة ما بالتاريخ الفلسفي حتى عند العمل على تدميره، والشيء الفريد في هذا الهجوم على التقليد الفلسفي، الذي دعوناه هنا بالفلسفة الضدية، هو منظوره الرؤيوي، اعتقاده بان الوجود نفسه هو قضية مشروعة للتاريخ الفلسفي سيقوم هو بكتابة فصلها الاخير. لذلك فان المذهب العلمي للقرن التاسع عشر اعتبر ان النتيجة النهائية للتاريخ الفكري العقلي هي الهيمنة الحاسمة للروح الليبرالية –العلمية على الماضي الثقافي ما قبل التنويري المتأسس على الخرافة الدينية او الميتافيزيقية. ومن جانب اخر فان الاطلاقية ستجد مهربا من الماضي الفوق إنساني الخاضع للهيمنة العقلية نحو ذاتية وجودية حاضرة. وسيقوم كلاهما – العلمية و الاطلاقية – بالحط من شان التأريخ الفلسفي وتقديم تفسيرات متناقصة له. وكان اهتمامهما الوحيد بالتاريخ منصب على استغلاله كوسيلة لتعميق المواجهة المعاصرة بين الاراء المتضاربة حول ما يعنيه التحرر ما فوق الحداثي : فبالنسبة للأولى كان هذا التحرر انتصارا للإنسانية والتكنولوجيا على الماضي الجاهل، وللأخرى كان انتصارا للحياة الذاتية على التجريد والأخلاقية. والمهم هنا هو ان السرديات التي فرضها كل من نيتشة وماركس ومعاصريهما على تاريخ الفن الغربي والفلسفة الغربية والديانة الغربية لم تكن متناقضة فقط، بل كانت خيالية وأيديولوجية، ولم تكن ابدا ((تاريخية)).لكن هذه السرديات مازالت تتمتع بالتفوق، وتتنافس والى حد كبير تكمل أدراك الميراث الغربي الموثوق بمعاييرها ((الخاصة)).

 وكانت الاتجاهات الميتا-فلسفية للقرن العشرين امتدادات للبدايات العلمية الاطلاقية لكنها تختلف عنها في أنها لم تعد تنظر لنفسها كاستكمال للتاريخ الفلسفي – العالمي بل كتبصرات جديدة معاصرة تعارض هذا التاريخ تماما وتحقق في أسس الفلسفة نفسها. لذلك فانها تسعى لاتخاذ موقف ما بعد حداثي مستقل تنظر من خلاله الى حجج الماضي بموجب المغالطات الاساسية التي تزعم ان هذه الحجج تقوم عليها بحيث ستكون وظيفتها بعد الان اعادة تفحص وتصحيح تلك الحجج. وهذا المنهج في تناول الفلسفة التقليدية يستهدف ربطها بشكل تام بنوع من ما يزعم انه إهمال خاطئ للوجود، واستخدام متحايل للغة، وتجاوز متعمد للحقيقة،… ووفقا لذلك، أعيدت دراسة وتقويم وكتابة وتعليم الاعمال التقليدية الكبرى انطلاقا من هذا المنظور مما أدى في منتصف القرن الى ظهور جيل جديد من الفلاسفة الأكاديميين الذين اصبحوا منشغلين باعادة تفسير (أفلاطون وسيبنوزا وكانت)بشكل لا يتناقض فقط مع الكتابات الأصلية بل يشتمل على تفسيرات متعارضة جدا.

 لذلك كان تاريخ الفلسفة موضوعا لتشويه شامل ومنظم لم يشف منه بعد، استخدم من اجل إضفاء الشرعية على المفاهيم المعاصرة التي تعبر عن التزام مطلق تجاه وعي ذاتي مؤقت ومعاصر للإنسانية والعالم. وقد انقسم هذا المشروع الى معسكرين، معسكر انكلو- أمريكي احتضن الانثروبولوجيا السلوكية والنماذج الليبرالية – التكنوقراطية، وعبأ المنطق واللغة لخدمتهما، ومعسكر أوربي –قاري سعى الى رفض ومعارضة تلك الحداثة الانسانية التكنوقراطية عن طريق تشاؤمية ملتزمة حولت التفكير الفلسفي الى نوع من البكائية المضجرة التي قد تملأ الفراغ الناتج عن فقدان التقليد الفلسفي.

 أما بالنسبة لما بعد الحداثة فان تاريخ الفكر ككل لم يعد ذا معنى بحيث ان التمييز بين الفلسفة المعاصرة والتقليدية صار بدوره خاليا من المعنى، أنها تخريب للميراث الثقافي الغربي، فهي تشكل وتعيد تشكيل او تفكيك هذا الميراث بسهولة لان الحياة قد تجاوزته. فإذا كانت الفلسفة (في يوم ما أداة مفيدة من اجل تحسين مثالي للوضع الانساني، فان المجتمع اللبرالي – التكنوقراطي المتحرر أصلا ينبغي ان يهجرها ويتخلى عنها كما يرى رورتي، او كما يعتقد (دريدا)، انه في الوقت الذي لم تعد هناك رغبة لاحياء الأدب الفلسفي بأكمله، فقد تبقى هناك فائدة في التفتيش في بقاياه من اجل تأكيد او تذكير أنفسنا بانعتاقنا الفكري من أسبابه ومواقفه.

 ومع فكرة التخلي عن التقليد الفلسفي بهذه الطريقة او تلك، يمكن وضع كل شيء على المسرح ما بعد الحداثي، بحيث يمكن ان يدخل أفلاطون في حوار مع فرويد، ويتفق (غايد مع هيغل) وتفند قصائد الروك كانت، و يرفض القانون الكنسي لان اللاهوت البطرياكي او المسيحي يفند يوميا في البحوث الجامعية. وفي المؤسسات الأكاديمية أصبحت الكراهية المعادية للميراث العقلي بمجمله شاملة ولا تقتصر فقط على الثقافة التاريخية بل تشمل ايضا الحداثة نفسها. وهذه الرؤية تتواصل عن طريق الخطابات الشعبية ضد الاتصال بالماضي او ضد فكرة الجدل العقلي …

 ان ما فوق الحداثة تقدم نموذجا متطرفا للحداثة كشرط معاصر وفعلي تماما يستوعب كل حقيقة أو قيمة ضمن اهتمامات ورؤى الأفراد الموجودين المقتنعين ذاتيا بحريتهم المطلقة وبالعالم كتابع لهذه الحرية. وهذا الشرط الانساني – الوجودي ضروري قبل أحداث أي تعديل للتاريخ او الثقافة او الفكر. ولذلك فانها تفصل نفسها عن مثل هذه التعديلات، حتى تلك التي تنتمي الى ميراثها الغربي – العقلاني الذي استخلصت منه مثالياتها ولغتها. ومن اجل فكرة الحرية المعقلنة الشاملة الموضوعية، تعارض النقيض القائم على حرية متناهية، مؤقتة، براغماتية،طارئة، وذاتية تماما. ولكن في الوقت الذي تتناقض هذه الرؤية الأخيرة مع نموذجها في الحرية الانسانية المدركة بشكل واضح، فانها تسقط في بئر التشكيكية حيث تصبح الحرية نفسها شيئا مشتتا ومشوشا.

 وفي شكلها ما بعد الحداثي اكتشفت ما فوق – الفلسفة انه طالما لا تستطيع استكمال الإطاحة الفكرية بالعقل، فان ملاذها الوحيد هو تعطيله او التخلي عنه. لكنها بذلك تصادر شرعيتها كفلسفة وتصل الى مأزق يستحيل عليها تجاوزه وفي هذا الشكل التشكيكي ما بعد الحداثي، تواجه ما فوق الحداثة عوائق في مسيرتها، فهي لا تستطيع التأسيس لأي موقف بعيدا عن التقليد الفلسفي ولا تستطيع بنفس الوقت العودة اليه، او التخلي عنه. ان العوالم التي تواجه بعضها الان لم تعد مبدأً ما فوق – حداثيا يواجه اخر – (مثلا العلمية بمواجهة الاطلاقية، الليبرالية بمواجهة الوجودية) ولا هي انتصار للفلسفة ((المعاصرة) على ((التقليدية))بل هذه المواجهة اليوم تقع بين الميراث الفلسفي بمجمله وفي تكامله التاريخي من جانب، والتقويم النقضي التدميري المابعد –حداثي لهذا الميراث من جانب اخر، لذلك، لم يعد ممكنا أيجاد معنى سواء لما تبقى من النقد ما بعد الحداثي ام للدفاع أحادى الجانب عن الفكر التقليدي كضد له. ومن وجهة نظر لم تعد مدفوعة بأهواء الماضي التي ظلت تهيمن على القرنين الماضيين، يصبح ممكنا ومقبولا الحديث عن المشروع ما فوق الفلسفي كمشروع وصل حدوده النهائية، مما يترك مجالا امام أحياء العلاقة بين هذه الثورة وبين الميراث الفلسفي الفعلي الذي أرادت التخلي عنه. ويمكن ان تتحول القضية لتصبح مرتبطة بكيفية تحقيق المصالحة بين التقليد الغربي ونقده ما فوق الحداثي، او كيف يمكن للمطلب ما فوق –الحداثي بحرية إنسانية واضحة وشاملة ان يصلح جذوره في التاريخ الفلسفي العالمي. وينطوي ذلك على عدد من التحديات الواضحة.كإعادة طرح وتحرير الميراث الفلسفي الموثوق من تشويها ته ما فوق الحداثية و اعادة التساؤل حول حوافز الثورة مافوق الحداثية، ما الذي يدفعها لمعاداة الروح الفلسفية، وكيف وصلت الى مأزقها ما بعد الحداثي الراهن ؟ ان الهدف عموما هو استعادة معنى الوحدة والشمولية والاستمرارية وجوهر الثقافة الفلسفية – العالمية كثقافة شاملة ومتجاوزة للسلبية المتعبة الراهنة الناتجة عن الانشغال ما فوق – الحداثي بتاريخ (منفصل الى قسمين).

F.L.Jackson,Post-modernism and the recovery of the the philosophical tradition,file://A:/Jackson,Post-modernism.htm.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org