مقالات

رجل آسيا المريض يزداد عجزا

د. عبدالله المدني

باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية

elmadani@batelco.com.bh

في عالم يتجه حثيثا نحو الطلاق البائن مع الانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير السياسي، وحدها الفلبين تظل حالة شاذة. و ما محاولة الانقلاب التي أحبطتها حكومة الرئيسة غلوريا ماكاباغال أرويو في أواخر فبراير المنصرم إلا رقم جديد يضاف إلى قائمة طويلة من محاولات الانقلاب المتتالية منذ الثورة الشعبية التي أطاحت بديكتاتورية الرئيس الأسبق فرديناند ماركوس في مثل هذه الأيام من عام 1986 . فالرئيسة كورازون اكينو التي خلفت ماركوس مثلا تعرضت خلال سنوات حكمها الذي امتد إلى عام 1992 إلى أكثر من خمس محاولات انقلابية. و كذا كان الحال مع أرويو التي نجا نظامها من محاولتي تمرد .

 في جميع الأحوال كان أبطال الانقلاب هم صغار ضباط المؤسسة العسكرية، و كان الانطلاق من حي المال و الأعمال في ضاحية ماكاتي، و كان المبرر هو استشراء الفساد في جسد السلطة الحاكمة و رموزها، و كان الداعمون من الخارج هم أطياف المعارضة من الساسة و رجال الأعمال ممن فقدوا امتيازاتهم لسبب أو لآخر. و في جميع الأحوال أيضا كانت الشائعات تسبق محاولات الانقلاب و تحاول إلغاء عنصر المفاجأة مع الإشارة دوما إلى اسم غريغوريو هوناسان كضالع في المؤامرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. و الأخير اشتهر بصناعة الانقلابات منذ محاولته الأولى للإطاحة بأكينو في أواخر الثمانينات، قبل أن يختفي عن الأنظار هاربا لبعض الوقت ثم يعود خالعا لبزته العسكرية و مشاركا في الحياة السياسية.

 و لئن انطبق هذا كله على محاولة الشهر الماضي الانقلابية، فان الأخيرة تميزت ببعض السمات الجديدة. فلجهة التوقيت، تم الاستعداد للانقلاب ليتزامن مع احتفالات البلاد بالذكرى العشرين للثورة ضد نظام آل ماركوس الذي اشتهر بأنه ثاني أكثر أنظمة العالم فسادا بعد نظام آل سوهارتو في اندونيسيا. وكان المأمول هو استغلال ما يصاحب تلك الاحتفالات عادة من حشود شعبية في الشارع للإطاحة بنظام أرويو على غرار ما حدث في عام 1986 أولا ثم ما حدث في ثورة الشعب الثانية ضد نظام الرئيس السابق جوزيف ايسترادا في عام 2001 .

 ولجهة العناصر المتورطة، تميزت محاولة الانقلاب الأخيرة بأنها حظيت بمباركة أو دعم عناصر من اليمين و اليسار معا، قيل أنها شملت ضباطا مرموقين من ذوي السمعة العسكرية الممتازة من أمثال دانيلو ليم قائد قوات النخبة و أرييل كيروبين قائد سلاح البحرية ، ورموزا بارزة في الأحزاب السياسية المعارضة، ووزراء سابقين، و جنرالات متقاعدين، وأنصار الرئيس المخلوع ايسترادا، إضافة إلى المتمردين الشيوعيين. بل قيل أيضا أن أكينو و خلفها المباشر الجنرال فيدل راموس كانا على علم بالعملية أو على الأقل لم يكن ليمانعا.

 فالأولى، التي لا تزال تحظى باحترام لا يجاريها فيه احد من رموز الساحة، كانت قد طالبت ارويو مرارا بضرورة التضحية بالمنصب الرئاسي من اجل وحدة الشعب و المحافظة على السلم الأهلي، بل أنها تحدت مؤخرا قرار ارويو بفرض حالة الطواريء وقررت قيادة المسيرات الشعبية قائلة أن ارويو بقرارها هذا ارتكبت خطأ آخر في حق الديمقراطية الفلبينية. و الثاني، الذي تميز عهده ما بين 1992 و 1998 بالاستقرار السياسي و النمو الاقتصادي النسبي، نقل عنه استياءه من أسلوب ارويو في إدارة البلاد و مطالبته بإحداث تغيير جذري في الدستور يستبدل فيه النظام الرئاسي الحالي بالنظام البرلماني كحل لحالة اللااستقرار.

 أما لجهة مبررات المحاولة الانقلابية الأخيرة، فقد قيل أنها تعبير عن الاستياء من حزمة من الأمور على رأسها فقدان نظام أرويو للشرعية بعدما ثبت تدخلها في نتائج انتخابات 2004 الرئاسية، و سكوته على حالات فساد مزكمة للأنوف أبطالها من اقرب المقربين للرئيسة مثل زوجها و ابنها، و تعاونه مع رموز سياسية و اقتصادية مشبوهة من زمن ماركوس. كما قيل أنها انعكاس للشكوى المزمنة لصغار رموز المؤسسة العسكرية من تهميشهم و تردي أوضاعهم ودفعهم إلى ساحات القتال في الوقت الذي يجلس فيه قادتهم في العاصمة للتنافس على الامتيازات.

 و الحقيقة أن الآمال الكبيرة التي بنيت على عودة الديمقراطية قبل 20 عاما، سرعان ما تبخرت في ظل رئاسة أكينو الضعيفة و الفاقدة للخبرة السياسية. و هي لئن عادت مع النجاحات النسبية التي حققها راموس، فإنها انتكست مجددا مع خروجه من السلطة و حلول ممثل السينما السابق ايسترادا في قصر مالاكانيان الرئاسي، رغم كل ما أحيط بالأخير من دعاية كوجه جديد من خارج عالم الساسة التقليديين و نصير للفقراء و المظلومين. و انتعشت الآمال مرة أخرى بمجيء ارويو، كونها سليلة عائلة سياسية عريقة و ابنة أحد أفضل رؤساء الفلبين السابقين (دياسدادو ماكاباغال) و خريجة احد أفضل الجامعات الأمريكية، لكن حال هذه الأخيرة لم يكن أفضل من أحوال أسلافها. إذ سرعان ما تكالبت ضدها كل العوامل السلبية المتجذرة في المجتمع الفلبيني، فيما كانت هي تستسلم لضرباتها و تجاريها.

 تصف ارويو نفسها بأنها أفضل من يدير البلاد، و أنها مصممة على تحدى الواقع السياسي والاقتصادي المر و الانتقال بالفلبين إلى مصاف دول الجوار، مستنكرة على الجيش التدخل في السياسة، و متحدثة عن شرعية نظامها. أما خصومها فيذكرونها بأنه لولا تدخل الجيش في عملية الإطاحة بايسترادا لما وصلت هي إلى السلطة، و بأن شرعيتها انتقصت بتدخلها في نتائج الانتخابات الماضية و بانخراط أقربائها في الفساد و الرشوة و استغلال النفوذ، ناهيك عن أن إنجازاتها تكاد لا تذكر بدليل أن اقتصاد البلاد لا يزال يعتمد كثيرا على تحويلات العمالة الفلبينية المهاجرة ( بلغت في العام الماضية 1.35 بليون دولار أو ما يعادل ربع حصيلة الصادرات و 12 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي ).

 و الحال أن هذه البلاد التي تعرف برجل آسيا المريض، كناية عن تخلفها الاقتصادي عن جاراتها الصاعدات في جنوب شرق آسيا ، لا تزال عاجزة عن تلمس الطريق المؤدي إلى الاستقرار السياسي و الرخاء الاقتصادي و السلم الاجتماعي رغم كل ما يتميز به شعبها من ذكاء و كياسة وملكات إبداعية. لكن الأخطر من هذا هو أن الروح الشعبية العارمة التي انتصرت للديمقراطية مرتين بدأت تتآكل. فنسبة لا بأس بها من الفلبينيين صارت تجاهر بأن الديمقراطية ليست علاجا للاستقرار و الرخاء في بلد كالفلبين، بعدما ثبت أن ديمقراطية العقدين الماضيين لم تؤد إلا إلى ازدياد الفقر و معدلات البطالة و تدهور الاقتصاد و تنامي الفساد و انفلات الأمن و دخول الساسة في مماحكات و حروب عبثية لا تنتهي.

 غير أن علاج فشل الديمقراطية في الفلبين لن يكون بالانقلاب على المؤسسات الدستورية واستبدالها بنظام عسكري صارم مثلما قيل عن أهداف المتآمرين الجدد. فمثل هذا العلاج لن يؤد إلا إلى المزيد من العزلة و التخلف، لسبب بسيط هو انه ما من قوة كبرى أو إقليمية في هذا العصر مستعدة للاعتراف بسلطة تغتصب الشرعية بالقوة أو راغبة في التعامل معها.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com