مقالات

الادب النسوي إغناء للسمة الانسانية للأدب!

نزار جاف

nezarjaff@gmail.com

كثيرة هي الاعتراضات والملاحظات على مسألة"الادب النسوي"، ويستند أصحاب تلك الاراء والملاحظات على جملة رؤى قد تتفق جلها في نقطة رئيسية واحدة هي إنسانية الخط العام للأدب وعدم تقبله لمبدأ التصنيف على أساس من الجنس. وقد أشار البعض منهم الى أن تحديد مسار عرقي محدد للأدب قد يسئ الى الجنس ذاته مثلما ينتقص في نفس الوقت من شمولية الادب وفق آفاقه الانسانية الرحبة. وفي مقابلات ومداخلات عدة أجريتها مع عناصر نسوية فعالة تعمل في مختلف مجالات الادب وتمنح إهتماما خاصا لقضية تحرر المرأة، وجدت أن العديد منهن يبدين نوعا من التحفظ الواضح على تصنيف الادب وفق الجنس ويطرحن آراءا تحمل في طياتها قدرا من التوافقية الواضحة، إذ إنهن لا يسعين الى شطب المسألة من أساسها وإلغائها بكلام أصح، وإنما يسعين للإمسك بالعصا من منتصفها تقريبا. في حين إن قسما آخر منهن يحاولن مناقشة الامر من منظور يجنح الى الفلسفة كثر منه الى الواقع كما هو الامر مع الشاعرة"فاتن نور" عندما تقول: (الأدب" لا يأخذ شكله الإنساني العاكس للمحيط بصدق إلا إذا تصاهر في بوتقته كلا الجنسين بشكل تام يرتقي فوق أي نوع من أنواع الفصل حتى وإن كان لغويا... وعلى العموم أنا أرجح بأن التسمية موضوعة بحسن نية ولكنها لا تنفصم –شعوريا ولا شعوريا – عن تلك الثقافة التي أشرت إليها في المقدمة....)، أما تلك الثقافة التي تلمح إليها في السياق فهي كما تحدده (ثقافة التكرار والفصل التي لا تخلو من الإيحاء اللغوي الذكوري بفصل الثقافة إلى ثقافتين إحداهما نسوية والثانية لا تردف بنعت معين يشير إلى الجنس الآخر فهو "ثقافة" فقط، وكأن المنتج الأدبي الذي يضعه الرجل هو "الأدب" بمفهومه العام.. أما ما تضعه المرأة من نتاج فهو الخاص الذي يميز بنعوت مثل نسوي وأنثوي وفي هذا عزل – قد لا يكوم مرئيا للكثرة – لتفاعل المرأة مع واقعها حيث يوضع ما ينجم عن هذا التفاعل في سلة أخرى يتم قراءتها بشكل آخر وتقييمها بشكل آخر وما إلى ذلك.) إلا أنني أرى أن الشاعرة نور قد ذهبت بعيدا حين صورت مسألة تحديد الهوية الجنسية للأدب"إن صح التعبير"، بخصوصية إنتقاصية كما يوحي رأيها الآنف. إن تحديد الهوية الجنسية للأدب وخصوصا في مشرقنا الغارق في مستنقعات عديدة موبوءة بآفات قاتلة تنبع جميعها من الجهل الذي لا يزال يستشري في بقاعه، هي مسألة تكتسب جديتها وأهميتها من الواقع الفكري ـ الاجتماعي القائم، ولعل الشاعرة والناشطة"بلقيس حميد حسن" تحدد شيئا من سمات وخصائص هذا الواقع حين تقول: (أيقنت بان المرأة الولودة لا تلد الخراف والنعاج التي تملأ ساحات الشوارع والفضائيات العربية فقط, بل الفكر والمنطق والحضارة.) هذا الكلام الذي لو حاولنا إستقرائه بدقة لوجدنا الكثير من الامور المهمة والحساسة تتداعى من طياته، على الرغم من إن أهم وأخطر أمر يتداعى منه، هو الرفض الواضح للمنطق السائد في الواقع. السيدة بلقيس التي لفتها الشهرة في عالمي الشعر والدفاع عن حقوق المرأة، لطالما سعت من خلال قصائدها أن توظف رؤيتها الانية والمستقبلية للواقع القائم وهي تحاول من خلال فك طلاسم تلك القيود والاطواق المشبعة بالصدأ، أن ترسم ملامح عالم جديد، عالم تقول فيه الانثى ها أنذا من دون خوف ووجل، عالم تحلم في الانثى، ترفض، تحب، تصرخ وتعيد رسم الاشياء من دون أن تكون هنك مدية ورصاصة لإسكات صوتها وشل حركتها، لنقرأ معا لهذه المتمردة بحق حين تقول:

(قوانينكم والشرائع صفر

هو الرأس يصعب أن تراه

بلا جسد في الخلاء

هو الرأس فيه ملكوت الخيال

وفيه العيون

هو الرأس

يصرخ

أين البشر؟؟)

روح هذا التمرد يمتلك طعما ونكهة خاصة جدا حين ينعكس من أنثى واعية تماما لما تقول، أنثى تجسد معاناتها العميقة من واقع يهمشها دوما ويجعل منها شيئا موازيا في قيمته لأبخس الاشياء وأحطها شأنا، لذلك فإن تمردها قطعا هو غير تمرد أي رجل آخر يرفع عقيرته دفاعا عن النساء لإحساسه"المعنوي" والمنطلق أساسا من زاوية تعاطفه مع القضية لا معايشتها"قلبا وقالبا"كما في حالة الشاعرة بلقيس عندما تعكس التداعيات السوداء لواقع مرير يسحقها وهي ومثيلاتها من بنات جنسها. والحقيقة أن تعيش حالة ما وتعكسها هي غير تلك التي تتصورها وتحدد خيوطا لها في مخيلتك ووجدانك ومن ثم تعكسه في موقف كتابي وفني محدد. إن المرء حين يقرأ أسطرا من مقالة للدكتورة نوال السعداوي تعكس فيها بدايات تمخض وعيها الانثوي، يجد نفسه قبالة عالم خاص ليس بإمكان أي رجل أن يرسم ملامحه سوى المرأة ذاتها شريطة أن تكون واعية تماما لما يجري فيه، السعداوي التي هي أشهر من نار على علم تضع يدها على بداية المأساة حين تكتب: (. فى طفولتى المبكرة قبل أن أعرف من هو أبى، عرفت أمى، عرفتها بالشكل والرائحة والاسم والجسم، كان جسمها هو جسمى ويشبه جسمى، كنت أتضامن مع أمى ضد أبى والعالم الخارجى، لكن شيئا ما حدث جعلنى أبتعد عن أمى، كنت طفلة لا أعرف بالضبط ماذا يبعدنى عن أمى، وماذا يبعد أمى عنى، ربما هو أبى كان يقف بينى وبين أمى، وربما هو العالم الخارجى كان يخدعنى، يصور لى أن الأب هو كل شىء، الاسم والشرف والاحترام والدين والعلم والماضى والحاضر والمستقبل والدنيا والآخرة.) هذا التصوير الحي النابض بكل معاني الصدق في عكس المعاناة، تطرحه السيدة نوال السعداوي وهي تحاول جاهدة إفهام العالم المشرئب بالمبادئ والقيم الذكورية، إن هنك حالة رفض متمخضة عن حالة وعي بالإظطهاد. وتسترسل في كلامها ووجعها المزمن عندما تميط اللثام عن صورة ترسم حالة قمع"جنسية"تبرر بأطر ومضامين فكرية ـ إجتماعية وهي في أوائل سنين عمرها: (هذه أول صدمة فى طفولتى. كنت فى السادسة من عمرى حين تلقيت الصدمة الأولى فى أمى. رأيتها واقفة تبتسم والأيادى الغليظة تنتزعنى من الفراش، تربط ذراعى وساقى، وتستأصل بالموس عضوا من جسدى.)هذه العملية أنا كرجل لست أجد نفسي متمكنا من رسمها بهذه الدقة"القاتلة"كما رسمتها السعداوي، وقد أجد أن اليد التي إمتدت إليها لا تختلف عن يدي هاتين اللتين كتب بهما الان، ذلك أن هذه الصورة البشعة مازالت تتكرر في أصقاع عديدة من عالمي الشرقي هذا ومن يدري فقد تتكرر على مقربة تامة مني. ونجد أهمية إشتراط الوعي على المرأة كأساس لفهم وعكس معاناتها وإرهاصاتها كأنثى، عندما نجد الدكتورة نوال السعداوي ذاتها تستطرد في كلامها فتقول بمرارة وهي تصف نفسها في الخمسين: (حيث بلغت الخمسين من العمر وبعد أن دخلت السجن أدركت أن تضامن النساء أخطر من السلاح النووى. لم يكن يهدد إدارة السجن إلا التضامن بيننا نحن النساء. بعد أن خرجت من السجن أدركت أن تضامن النساء يمكن أن يسقط النظام الحاكم.)إنه المنطق الذي يصر البعض على رفضه وتأويله وفق سياق يقوده مرة أخرى الى المحطة الاولى والى نقطة يجتمع فيها النقيضان! الشاعرة والصحفية الكوردية فينوس فايق، برغم إقرارها الضمني في كثر من مقالة وقصيدة بالظلم "الذكوري" الواقع عليها وعلى بنات جنسها، لكنها تحاول التخفيف من هول الكارثة والصدمة فتقول بلغة توافقية محضة: (المرأة ليست مسؤولة عن التشرذم الاجتماعي والأخلاقي الذي يعاني منه المجتمع، لكنها فريسة تلك الحالة المرضية الاجتماعية، وهذه الحالة هي التي تولد حالة الحدود والأطواق والزوايا في عالم المرأة الشرق أوسطية، أنا عن نفسي أتخلص وهكذا أدعي من هذه الأطواق بطرق أبتكرها لنفسي، كأن أبحث عن هذه الأطواق بنفسي حتى أكسرها وليس لكي أبجلها وأبروزها وأستعظمها، هذه عملية عكسية وقلما يقوم بها إنسان ويتوصل إليها ويقدر على أن يجسدها، ثم ما تقوله عن المرأة الشرقية هو بالفعل صحيح إلا في حالتي، فأنا أنزوي لأكون أنا، أنزوي حتى لا أضيع بين الكل الضعيف، وليس لكي أمارس الهروب. والحدود والأطواق أكسرها ولا أدعها تكسرني، لا أنكر أنني أتعرض أحياناً إلى الانكسار، لكن الفرق أنني أقوم بردة فعل. المرأة الشرقية التقليدية والعادية التي أنت بصددها قلما تقوى على ردة الفعل، وذلك ليس ذنبها وإنما ذنب النظام الاجتماعي والواقع المفروض عليها.) إنها تجنح الى حالة من التفلسف الذي قد يصل أحيانا الى حد سفسطي تتلاعب فيها بالكلمات، وإلا فماذا يعني أن ينسحب كلام على كل الشرقيات ولا ينسحب عليها هي؟! هي تتحدث آنفا عن صعوبة ردة الفعل"الرافضة"لدى الشرقيات وتربط ذلك بالنظام الاجتماعي"وهو أمر صحيح100%، لكنها ترجع لتناقض نفسها عندما تقول: (قلما أصور المرأة كند للرجل، بالعكس، أحاول قدر الإمكان أن أقرب بين الرجل والمرأة، أحاول أن أقربهما بحيث يتلاصقان في سطر واحد من قصائدي، وأن أعطي معاني أخرى لنوع العلاقات التي تربط المرأة بالرجل، فحتى علاقة العشق هي على أنواع، كلما نوعت في تصوير العلاقات التي تربط المرأة بالرجل قربت بينهما.. كثيراً ما أنظر إلى الرجل الذي يضطهد امرأة بشفقة، أجده لا يتقن ممارسة أجمل فن في الدنيا وهو فن الحب، وأحاول أن أفهمه أنه مخطئ يجب أن لا يضطهد المرأة حتى يكون بمقدوره أن يحبها، لأن التجارب علمتني أن من يمارس العنف على غيره من غير الممكن أن يقع في غرامه يوماً، والرجل الذي يمارس العنف ضد امرأة من غير الممكن أنه أحبها يوماً ولن يكون بإمكانه أن يحب امرأة في حياته وهو يستحق الشفقة أكثر من غيره، هكذا تكون العلاقة بين الرجل والمرأة إذا كانا ندين، لكنني كثيراً ما أتقصد أن أبتعد عن هذه الفكرة حتى لا أقع فريسة لإحساسي بأن أكره الرجل، حتى أستطيع أن أكتب أجمل ما لدي..)في كلامها السارد الذكر، تقول السيدة فينوس بكل وضوح بأنها قلما تصور المرأة كند للرجل، وهي ذاتها التي تتحدث عن ظلم النظام الاجتماعي لها وهو النظام الذي تستند كل قوائمه على قيم ومبادئ سيادة الرجل، فالرجل موجود في كل مكان ويفرض نظرته وتعامله عليها وعلى بنات جنسها شاءت أم أبت ولذا فهي وكعملية إندحار لا شعورية تقر بعظمة النظام الاجتماعي كما هو الحال لدى العديد من الاقلام الانثوية الاخرى. لكن فينوس فائق تحاول من خلال لغة تجمع في ثناياها نبرة توافقية واضحة أن تمسك العصا من المنتصف تماما حين تقول: (هناك ثلاثة أنواع من الأدب الذي تنتجه المرأة أحياناً ، أولاً الأدب الذي تنتجه من أجل أن تشارك في إنتاج أدب إنساني بدون أن تشغل نفسها بالصراعات الجنسية وتأثيراتها السلبية على نتاجها ، وثانياً الأدب الذي تحارب به الرجل والعقلية التي تعمل على ترسيخ فكرة تهميش وتجاهل النتاج الأدبي النسوي ، وثالثاً الأدب الذي تخدم به جنسها وتعزل من خلالها نفسها من العملية الإنسانية الكبرى والذي يعود عليها بالسلب غالباً أكثر مما يعود بالإيجاب..) وبهذا فهي تسعى لمنح نوع من التبرير الحذر للأدب النسوي ولكن تحت مسمى آخر هو(الادب الذي تخدم به جنسها)، أي إنها تقر بالمسألة من حيث المبدأ لكنها تختلف في التفاصيل. المشكلة أن الشاعرة فينوس فايق هي ذاتها التي تقول في إحدى قصائدها:

(لو لم كن أنثى

لتمنيت أن كون شمسا

أو شجرة

لأنها تنتهي بتاء التأنيث

أو لأنها خضراء مثل قلب المرأة)

هذه الخصوصية تعكس عالما خاصا، كل شئ فيه مطعما بالانثوية، حتى القلب الاخضر فهو لدى الانثى لوحدها، القلب الانثوي الذي تطرحه فينوس شعريا، هو قطعا غير القلب الذكوري الذي ملأ الكوكب الارضي رعبا وحروبا ومآسيا رسمت تأريخا كالحا للإنسان، هذا الكوكب تقول عنه فينوس :

(لو كانت الارض مذكرا

لما خلق الله عليها أنثى

حتى ولو على شكل تفاحة)

إنها تعارض وبقوة لكن من زاوية خاصة قد تكون مشابهة لزاوية الدكتورة السعداوي عندما قالت أن "الانثى هي الاصل"، والحق أن قوة ورهبة النظام الاجتماعي بكل أبعاده المتباينة ليس بتلك المسألة الهينة حتى ولو وجدنا أنفسنا على أعتاب الالفية الثالثة بعد الميلاد، خصوصا وإن التيارات الرجعية والدينية المتطرفة مازالت تفرض إملاءاتها على الساحة الاجتماعية تحديدا. من هنا فإن تلك الازدواجية التي تطفو الى السطح في مواقف وآراء العديد من الاقلام النسوية هي نابعة "ومن دون أدنى شك" من سطوة العامل الاجتماعي كما ألمحنا آنفا. ومهما يكن، فإن التعبير عن الانثى في الادب يجب أن يكون بيراع أنثوي، وكما أن هنك ثقافة للطفل، وثقافة للشباب، وثقافات أخرى تتخذ أشكالا وأنماطا متباينة تبعا للحاجة الميدانية لها، فإنها تفرز بالضرورة نتاجا أدبيا موازيا لتلك الثقافات، وفي السياق ذاته، تطل علينا الثقافة النسوية التي تعكس بشكل طبيعي وعادي أدبا نسويا ليس من الممكن وضعه تحت يافطة أي أدب آخر، ذلك إن القلم المعبر فيه وصاحب الكلمة الاولى والاخيرة هو القلم الانثوي، وبالاضافة الى كل مافات فإن تصنيف الادب في خانة جنسية لا يعني بالضرورة سلبه الصفة والهوية الانسانية، بل وقد يكون فيه مصداقية كبر في مدى التعبير ولاسيما إن أصالة الادب تنبع أساسا من زاوية مدى التعبير. ولست أعتقد أن الانثى إذا جسدت أدبا خاصا بها فسوف يكون الامر تطاول على السمة الانسانية للأدب بقدر ماسيكون تصحيحا وإغناءا لها. صحيح أنه بالامكان لنا كرجال أن نكتب في شأن وحتى شؤون مختلفة تتعلق بالمرأة، لكن هذه الكتابات سوف لن تكون معبرة وصادقة في نقل الصورة بحذافيرها كما هو الامر حين تكون الكاتبة أنثى واعية وجريئة!

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com