مقالات

صُوَرٌ مِن أحزانِ بلادي!

بقلم: صلاح برواري / كاتب كردي عراقي

berwari57@hotmail.com

صورٌ التقطَتها عدسةُ عيني، من شاشة إحدى الفضائيات العربية قبل أشهر، وأبت أن تغادر الذاكرة، حافرةً لنفسها أثراً عميقاً على الجدران الداخلية للقلب!.

أُهدي هذه الصور، من منطلق "وذكِّر عسى أن تنفع الذكرى"، إلى كل أولئك المحامين العرب الفاشلين، من أمثال الخصاونة والخرابشة "ولبعض الناس في ألقابهم شؤون!!" ومن لفّ لفهم، من الذين لم يجدوا، من بين كل القضايا العربية، ما يستوجب منهم المرافعة والدفاع، سوى الدفاع عن مجرم العصر "صدام حسين"، بكل ما يمثله من إجرامٍ وعار!.

حقاً، إنّ الفاشلين هم من يتولون القضايا الخاسرة!.

صورة رقم (1): امرأةٌ عجوز، حوّلتِ الأحزانُ وجهَها إلى خريطةٍ لجزيرةٍ مجهولة!، توجّهتْ ضمن جموعٍ غفيرةٍ إلى مقبرةٍ جماعية، في أطرافِ مدينة كربلاء الحسين، أقامها الدكتاتور المخلوع "صدام حسين" لأبناء المدينة، الذين انتفضوا ضد طغيانه في عام 1991.

 كانت ركبتاها ترتجفان، وريقُها قد جفّ في حلقِها؛ وقلبُها يدقُّ بين ضلوعها كطبلٍ كرديّ!.كانت تمنّي النفس ألاّ يكون وحيدُها، الذي طال انتظارها له، بين رميمِ هذه العظام!.

 بدأ الناسُ يتعرفون إلى رفات أبنائهم وأحبائهم، من بقايا ملابسهم أو هوياتهم التي لم تمّحِ معالمها بعد.

 صاح بها أحد الفتية: خالة.. هذا ابنكِ..!!.

 أطلقت العجوز صرخةً مزّقت كبد السماء: أويلي.. أويلي يابه.. إلمَن أبقى بَعدك.. يا بَعد كبدي.. أمي وأبوي أنت يا وليدي.. يا وحيدي!.

 انهالت على وجهِها لطماً، وأهالت التراب على رأسها.. لكن لا شيء يشفي غليلها أو يهدئ من روعها. بقيت عيناها زائغتين، تتلفت حولها كمَن مسّه الجنّ، علَّ أحدهم يكذّب الخبر.. لكنَّ خنجرَ الحقيقةِ انغرسَ في قلبِها عميقاً، ليقطع نياطهُ ويدمّر الروح!!.

 كانت المسكينةُ تعيشُ على أملٍ زائف!.. على أمل أن تلتقي وحيدَها يوماً؛ فتكتحل عيناها بمرآه، وتحسّ معه بطعم الأيام الباقية من حياتها، التي تتدحرجُ مسرعةً صوبَ منحدَر العُمر!، أو ترحل دونهُ.. وهي مطمئنة إلى بقائهِ حياً!.

صورة رقم (2): دفعَ البابَ المفتوح، ودلفَ إلى الداخل. تسمّرت زوجته في مكانها، وصعقتها المفاجأة!. ارتمت عليه وهي تقبّله، أمام دهشةِ أولادها وبناتها الكبار!.

 قالت وهي تحتضنه: أخيراً.. عُدتَ إلينا؟، الحمد لله.

 التفتت إلى أولادِها قائلة: تعالوا.. هذا أبوكم.. كان أسيراً في "إيران"، قبل ثماني عشرة سنة، حين كنتم صغاراً!.

 تفرّسَ الأبُ في وجوههِم، علّهُ يتعرّف إليهم، لكنَّ الذاكرة خانتهُ!. وقبل أن يسأل زوجته عنهم، جالَ بعينيهِ في أرجاء باحة الدار، وقال بلهفةٍ وشوق: أُمّي.. وينهه أمي؟؟. سؤالٌ يختزن في ذاتهِ كلَّ حنان الكون!.

 ردّت الزوجةُ بلَوعةٍ، ودموعها تنهمر: أمّك.. ماتت!.

 أحسَّ أنّ الأرضَ تميدُ تحت قدميه.. نسي أولاده المتلهفين إلى قبلاتهِ وأحضانهِ الدافئة.. قالَ: لا.. آي يابا..!!.

 التفت إلى أقرب شيء يستند إليه.. وضع جبينه على ساعده، وأخذ يجهش بالبكاء.. كطفلٍ موجوع!.

 بدأت الأرضُ تدورُ بهِ، حتى أحسَّ أنه خارجُ مدارِها!. ظل يسكب الدمعَ مدراراً، ويطلق العنان لذئابِ أحزانهِ، كي تنهش القلبَ والروح معاً!.

 نظر إلى زوجته وأولاده، بعينيهِ الدامعتينِ والمحمرّتينِ كقطعتَي جمرٍ.. شهقَ بقوة.. لكنه طأطأ رأسه، إذ أحسَّ أنّ رائحة البيت لا تحمل عبق أمّه!.

 احتضن أولاده بقوة، دون أن يسأل عنهم.. كان يحسّ أنه يحتضن أمّه من خلالهم، ولسان حاله يقول: انتظرتُها طويلاً.. فلمَ لم تنتظرني؟!.

صورة رقم (3): خرج الرجل العجوز، وهو يجرّ قدميه جرّاً، ليرى مَن الطارق؟.

هبّت عليه أنسامُ رائحةٍ قوية، افتقدها منذُ زمن!. فتح البابَ ليجدَ أمامه رجلاً يقول له: مرحباً.. بابا.

 صُعِقَ العجوز، وكاد أن يفقد توازنه: مَن أنت؟.

- أنا ابنكَ يا بابا.. يا حياتي، لقد عدتُ من الأسر في إيران.

 وضع العجوز يده فوق عينيه، ليحجب عنهما وهج الشمس.. لكنّ بصرهُ الضعيف خذله. لم تكن رنّة صوت الشاب غريبة على مسمع الشيخ، رغم مرور اثنتين وعشرين سنةٍ عجاف!.

 بابا.. أنا ابنك.. لقد غادرتكَ وأنا في الثامنة عشرة من عمري، وها قد عدتُ إليك وأنا في الأربعين!.

 تلمّس العجوز صدر ابنه وشعرَ رأسه.. اقترب منه ليشمّه بقوة، كما شمّ يعقوبُ قميص ابنه يوسف!. فغرَ فاهُ الذي بدا مثل كهفٍ مظلم، لا يلتمع فيه شيء!.. ضمّه إليه بقوةٍ، وهو يقول بصوتٍ متهدّج: إيه، إيه.. أنت ابني. لقد خذلني بصري، لكنّ أنفي لم يخذلني.. إحساسي الأبوي لم يخذلني!. آهٍ يا ولدي.. لقد انتظرتك حتى عيلَ صبري، وبكيتُكَ حتى جفّت عيناي.. الحمد لله الذي مَنَّ عليَّ برؤيتك قبل أن أموت!.

 ظلَّ يحتضنهُ ويعتصرهُ بقوة، كأنما يحاول إدخاله بين أضلاعه، أو داخل قلبه.. ليقفل عليه إلى الأبد!!.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com