مقالات

أنظار التايلانديين تتجه إلى الملك

د. عبدالله المدني

باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية

elmadani@batelco.com.bh

هناك أكثر من وجه و تفسير لحالة الاحتقان السياسي الراهنة في تايلاند و الآخذه في التفاقم مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المبكرة التي حدد لها رئيس الحكومة تاكسين شيناواترا تاريخ الثاني من ابريل.

 فهي ابتداء انعكاس للجدل الدائر منذ سنوات حول ظاهرة وصول رجال الأعمال الناجحين إلى سدة الحكم في بلدانهم عبر صناديق الاقتراع، والتي جسدها آسيويا  شيناواترا، فيما جسدها شرق أوسطيا رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، و أوروبيا رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني. فعلى حين يرى البعض في هذه الظاهرة ردا طبيعيا على فشل الساسة التقليديين في إدارة بلدانهم بطريقة تتناغم مع إيقاع العصر السريع و تستجيب لمتطلبات التنمية المتسارعة، يرى آخرون فيها خطرا محتملا على الدستور و القانون و حقوق الإنسان و قواعد العدالة والشفافية، و ذلك من منطلق أن رجال الأعمال يملكون من النفوذ المالي ما يستطيعون به شراء الولاءات و الذمم و الأصوات الانتخابية و لي ذراع القانون في اتجاه ما يخدم مصالحهم  ويزيدهم نفوذا فوق نفوذ.

 و شيناواترا الذي كان ضابط شرطة لامعا قبل أن يستقيل و يستثمر جهوده و علاقاته و ألمعيته في تكوين إمبراطورية أعمال ناجحة في قطاع الاتصالات، حاول بعد نجاحه الاقتصادي المشهود أن يجرب حظه في عالم السياسة، فدخلها من خلال تأسيس حزب سياسي باسم تاي راك تاي (أو حزب التايلانديين يحبون التايلانديين)، و هو الحزب الذي خاض به الانتخابات العامة لعام2001  و نجح عبره في الوصول إلى السلطة لأول مرة. و منذ هذا الحدث الذي شكل انعطافا في التاريخ السياسي التايلاندي لم تتوقف الشائعات عن استخدام الرجل لقبضته المالية في تغيير الكثير من معالم السلطة و النفوذ في البلاد. كما راجت حكايات كثيرة تتهمه بالفساد و شراء الذمم و خرق القوانين، ولا سيما تلك المتعلقة بالصفقات و العقود الحكومية و ترقية المحازبين و الأنصار، شارك فيها الساسة التقليديون المتضررون من صعوده و معهم بعض منافسيه من رجال الأعمال و طائفة من الإعلاميين  ونشطاء حقوق الإنسان.

 وهي ثانيا انعكاس للصراع الدائر بين فكر يؤيد الخصخصة باعتبارها حالة تفرضها ظاهرة العولمة  وتستدعيها حاجات التطوير و التنمية و جذب الاستثمارات و تنشيط الاقتصاد الوطني، و آخر يقاومها من منطلقات العدالة الاجتماعية و المحافظة على الثروة الوطنية و منع وقوعها تحت هيمنة أصحاب رؤوس الأموال الأجانب. فخصخصة المؤسسات المملوكة كليا أو جزئيا للدولة كانت ضمن اولويات سياسات شيناواترا بعد وصوله إلى الحكم، و سعى إليها جاهدا من منطلق ضرورتها لتحديث مرافق البلاد و إحداث حراك اقتصادي و نفخ الحياة في سوق الاستثمارات  والبورصة. و هو لئن تمهل لاحقا في خططه فانه لم يهجرها كليا، بدليل إصراره مؤخرا على بيع 25 بالمائة من أسهم شركة توليد الكهرباء الحكومية التي تبلغ قيمة أصولها الإجمالية 890 مليون دولار، و هو ما بات مجمدا الآن بعد أن أصدرت المحكمة الإدارية التايلاندية العليا حكما ضد عملية البيع هذه. و هذا بطبيعة الحال يثبت أن القضاء التايلاندي لا يزال يتمتع بهامش من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، و يفتح الباب أمام صدور أحكام مشابهة أخرى، لكنه من جهة أخرى يمثل تحديا لحكم شيناواترا و سياساته في وقت عصيب. وكانت المحكمة الدستورية قد رفضت طلبا تقدمت به مجموعة من النواب في فبراير المنصرم لاستجواب و مساءلة الرجل حول قرار عائلته ببيع شركة " شين " للاتصالات المملوكة لها إلى شركة سنغافورية حكومية قابضة بمبلغ 1.9 بليون دولار. هذا القرار الذي عده هؤلاء النواب و معهم النقابات العمالية تصرفا غير مسئول في أصول الوطن الثمينة و الحيوية و دعوة لهيمنة الأجنبي عليها، بل و تسبب في إطلاق الشرارة الأولى للازمة الراهنة، خاصة في ظل تقارير مفادها أن أصول هذه الشركة تضاعفت 3 مرات منذ وصول شيناواترا إلى السلطة.

 وهي ثالثا انعكاس للصراع ما بين النخب المدينية المتعلمة التي تهيمن على وظائف القطاعين العام و الخاص و مجمل العمل السياسي و النشاط الاقتصادي، و سكان الأرياف الساعين إلى وضع اقتصادي أفضل و بالتالي دور اكبر لجهة التأثير في السياسات العامة. و تتضح الصورة بشكل أفضل حينما نعلم أن نسبة كبيرة من القاعدة الشعبية للحزب الحاكم و المقدرة بثمانية عشر مليون عضو توجد في الأرياف، حيث أغدق شيناواترا الأموال و المساعدات من اجل تحسين أحوال سكانها و دمجهم في عالم الأعمال،  من منطلق أن حل معضلة الهوة الثقافية و الاقتصادية ما بين تايلاندي المدن و تايلاندي الأرياف هو في أن نمدن الريف – من خلال جعل سكانه أكثر غنى وأفضل تعليما و ثقافة -  بدلا من أن تتريف المدينة.

 وأخيرا فان الأزمة السياسية الراهنة ليست سوى صدى لفشل الأحزاب و المنظمات السياسية المعارضة في الاحتكام إلى الخيارات الديمقراطية و الدستورية لإزاحة خصمها. فهي بدلا من أن تجعل صناديق الاقتراع و صوت الأغلبية الشعبية حكما بينها و بين شيناواترا فيمن يمسك بالسلطة مثلما دعا الأخير، لجأت تحت تأثير عجزها عن مواجهته إلى تهييج الشارع  وتحريضه و دعوته إلى العصيان و التظاهرات. ومن ذاك أيضا إعلان ائتلاف أحزاب المعارضة عن مقاطعتها للانتخابات العامة التي يريد شيناواترا من خلالها تأكيد حصوله على التخويل الشعبي للبقاء في الحكم حتى عام 2010، و ذلك ضمن استراتيجية هدفها التشكيك في أي انتصار يحققه الأخير. غير أن الأكثر إثارة هو لجوءها إلى إقحام الأسرة المالكة في الصراع عبر الادعاء بأن شيناواترا  وحزبه الحاكم يتصرفان ضد رغبات عاهل البلاد الملك بهوميبول ادولياديج أو يعملان من اجل تقويض النظام الملكي. وفي بلد ينظر فيه الشعب إلى الملك بالاحترام الذي يصل إلى حد التقديس، كان لهذا الادعاء تأثير بالغ في الشارع، تجسد في إطلاق حملة ولاء وطنية للعرش في مواجهة رئيس الحكومة.  ومثل هذه الوسائل الخارجة عن إطار القانون  والدستور في مواجهة الخصم السياسي، هي بلا شك بمثابة نكسة للديمقراطية التايلاندية  ومستقبلها.

 و هكذا، فمع انقسام التايلانديين إلى فريقين وفق الصور المنوه عنها، تبدو البلاد متجهة مرة أخرى نحو عاصفة قد لا ينقذها منها سوى تدخل الملك، الذي سبق له أن اضطر إلى ذلك في ثلاث مناسبات سابقة في الأعوام 1973 و 1976 و 1992 ، كانت جميعها متسمة بمواجهات دموية ما بين حكومات عسكرية متهمة بالفساد و القمع و متظاهرين عزل يطالبون بعزلها. لكن من غير المعلوم إلى أي مدى يجب أن تتطور الأمور هذه المرة قبل أن يقرر الملك التدخل، لا سيما وان الظروف اليوم مختلفة بسبب الطبيعة المدنية للحكومة الحالية و وصولها إلى السلطة بطريقة ديمقراطية و قرارها باللجؤ إلى صناديق الاقتراع مجددا لتأكيد شرعيتها .

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com