مقالات

العراق بعيون أجاثا كريستي

ترجمة: رافع الصفار

rafiselman@yahoo.com

في الطريق إلى العراق

كانت القطارات دائما إحدى أشيائي المفضلة. من المحزن أن المرء لم يعد يملك تلك الوشائج التي تربطه بهذه الأشياء.

في (كاليه) دخلت مقصورتي واتخذت موضعي المريح في قطار أحلامي، فتخلصت عندئذ من كل المتاعب التي عانيت منها خلال السفر إلى دوفر والرحلة البحرية المنهكة.

ويبدو أني كنت على موعد مع أولى منغصات السفر. كانت تشاركني العربة امرأة متوسطة العمر، أنيقة، ذات خبرة بالترحال، حملت معها عددا كبيرا من الحقائب وصناديق القبعات. أجل، كنا ما نزال نحملها في تلك الأيام في أثناء الرحلات.

بادرت تلك المرأة للاشتراك معي في حديث. كان الأمر طبيعيا مادمنا نتقاسم العربة المزودة بمضجعين كبقية عربات الدرجة الثانية. ولعل السفر في هذا النوع من العربات أفضل منه في عربات الدرجة الأولى، مادامت أكثر سعة وتساعد على الحركة.

أين هي وجهتي؟ سألتني رفيقة سفري، إلى ايطاليا؟ فأجبتها: لا، أبعد من ذلك. إلى أين إذن أنا ذاهبة؟ قلت: إلى بغداد. دبت فيها الحيوية وقالت أنها هي نفسها تسكن بغداد. يا لها من مصادفة. وقالت بأني إذا ما نزلت عند بعض الأصدقاء فهي واثقة من معرفتها بهم. قلت لها لن أنزل عند أصدقاء.

- وأين تنزلين إذن؟ لا يمكنك أن تنزلي في فنادق بغداد.

سألتها لم لا؟ ولأي شيء هي الفنادق؟ تلك كانت في الأقل فكرتي الخاصة، ولو أني لم أنطقها بصوت مرتفع.

- أوه، الفنادق..ذلك أمر مستحيل. من غير المعقول أن تفعلي ذلك. أنا أخبرك ما تفعلين. يجب أن تأتي عندنا.

جفلت لردها بعض الشيء.

- نعم، نعم، ليس في الأمر ما يمنع من استقبالك. كم تبقين هناك؟

قلت: ربما فترة قصيرة.

- حسنا، على أية حال يجب أن تأتي إلينا كخطوة أولى، نستطيع بعد ذلك أن ننقلك الى أناس آخرين.

كان ذلك أقصى الطيبة والكرم، ولكنني أحسست بسخط مفاجئ. بدأت أدرك ما كان يعنيه الكوماندر (( Howe عندما نصحني بعدم الانغمار في الحياة الاجتماعية للمستعمرة الانجليزية.

وجدت نفسي مكبلة اليدين والقدمين. حاولت أن أعطي صورة – وكانت مشوشة – عما خططت أن أفعل وأرى، لكن السيدة (س) – كانت قد أعلمتني باسمها – قالت أن زوجها الآن في بغداد، وهي إحدى أقدم القاطنات لتلك المدينة، فأزاحت بذلك كل أفكاري وخططي جانبا.

- أوه، سوف تجدين الأمر مختلفا تماما هناك، فالحياة ممتعة حقا. المفاجآت والأحداث الغريبة كثيرة، إضافة إلى النشاطات الرياضية والاجتماعية التي يمكنك ممارستها. اعتقد أنك سوف تستمتعين بذلك. يقولون دائما أن بغداد مكان فظيع، ولكني لا أتفق معهم. أخيرا، وكما تعرفين، هناك الحدائق المنزلية الجميلة.

وافقتها بلطف على كل شيء. قالت: أظنك ذاهبة إلى تريستا ثم تأخذين القارب من هناك الى بيروت؟

قلت: لا، سوف اقطع الطريق حتى آخره بقطار الشرق..

هزت رأسها وقالت: لا أعتقد أن هذا بالأمر المستحسن، كما تعرفين، ولا أظنك تحبذينه. اوه، حسنا، يبدو ألا سبيل لتجنب الأمر الآن، على كل حال، سوف نلتقي. سأعطيك عنواني، فإذا أبرقت لنا من بيروت، فسوف تجدين زوجي في استقبالك، حال وصولك بغداد، كي يصحبك إلى البيت.

ماذا كان بإمكاني أن أقول سوى، شكرا جزيلا، وأضيف بأني لم أستقر على شيء بعد. لحسن الحظ أن السيدة (س) لن تكمل الطريق معي بالقطار، شكرا لله على ذلك، فهي لم تتوقف عن الكلام قط. ستنزل في تريستا كي تأخذ سفينة إلى بيروت. لقد تحاشيت الإشارة إلى خططي للبقاء في استانبول ودمشق، لذا فمن المحتمل أن تستنج أنني غيرت رأيي في السفر إلى بغداد.

في اليوم التالي افترقنا ونحن في أفضل حالات الود والصفاء، عدت بعدها لأمارس متعة الاختلاء بالنفس..

 

قطار الشرق السريع

كانت الرحلة هي كل ما كنت أتمنى. بعد (تريستا) مررنا عبر يوغسلافيا وأرض البلقان، وهنالك كان السحر كل السحر بمشاهدة عالم مختلف تماما: المرور عبر المضايق الجبلية العميقة الغور، مراقبة العربات التي تجرها الثيران، وتفحص مجاميع الناس على أرصفة المحطات، أو النزول أحيانا في أماكن مثل بلغراد أو نيش ومراقبة المحركات الضخمة في أثناء تبديلها، فتأتي وحوش آلية جديدة بلافتات وعناوين مختلفة.

تعرفت في أثناء الطريق على عدد من الأشخاص لم يحاول أحد منهم –وأنا سعيدة بذلك- أن يكون مسؤولا عني بالطريقة التي حاولتها معي السيدة الأولى، فقد قضيت اليوم مع سيدة (مبشرة) أمريكية، مهندس هولندي، وسيدتين تركيتين، وكان التفاهم مع الأخيرتين صعبا برغم أني أجيد شيئا ما من فرنسية متقطعة.

وجدت نفسي بينهن في موقف الذليل لأني أم لطفلة واحدة فقط. السيدة التركية ذات الوجه المشرق، وبقدر ما فهمت منها، أنجبت ثلاثة عشر طفلا، خمسة منهم ماتوا، وثلاثة في الأقل إن لم يكونوا أربعة قد أجهضوا. العدد بمجموعه يبدو رائعا بالنسبة لها، ولو أني استنتجت أيضا بأنها لم تتخل عن الأمل في مواصلة سجلها الرائع في الإخصاب. حاولتْ أن تعطيني كل العلاجات الممكنة لزيادة الإنجاب. نصحتني باستخدام نخالة الشعير، خلطة من أعشاب متنوعة، استخدام أنواع معينة من الثوم، وأخيرا عنوان طبيب مدهش في باريس.

ليس قبل أن تسافر وحدك حتى تدرك مدى الود والحماية التي تحصل عليها من العالم الخارجي رغم تباين القناعة في ذلك. السيدة الأمريكية اقترحت علي تناول نوع رائع من الأملاح الملينة. أما المهندس فقد تولى المهمة بجدية تامة، مستفسرا عن مكان نزولي في استانبول، محذرا إياي من مخاطر تلك المدينة. قال لي: يجب أن تكوني على حذر، فأنت كما أرى سيدة انجليزية حسنة التربية، تحت حماية الزوج أو الأقارب دائما، فلا تصدقي ما يقول الناس لك. لا تخرجي إلى أماكن التسلية ما لم تعرفي إلى أين يأخذوك. في الحقيقة كان يعاملني مثل صبية غريرة في السابعة عشرة من عمرها. شكرته وأكدت له أني سأكون على يقظة تامة.

ولكي ينقذني من هذه المخاطر فقد دعاني إلى تناول العشاء معه ليلة وصولنا استانبول. قال لي: (التوكاتيلن) فندق جيد، ستكونين في أمان تام هناك. سوف أمر عليك عند الساعة التاسعة، ثم نذهب إلى المطعم: مطعم تديره سيدات روسيات – روسيات بيضاوات من أصل نبيل- يقدمن أشهى المأكولات ويحافظن على أعلى درجات السلوك المهذب في مطعمهن. قلت له: إن هذا لطف كبير منه.

في اليوم التالي بعد أن أنهى المهندس بعض أعماله، حضر الى الفندق وخرجنا معا للتعرف على معالم استانبول، ثم رتب لي دليلا..

_ لا تعتمدي على دليل شركة ( Cook) فهو يكلف كثيرا، ولكني أؤكد لك أن الدليل الذي اخترته لك محترم جدا.

بعد أمسية ممتعة أخرى مع السيدات الروسيات وهن يمخرن عباب المطعم، يوزعن الابتسامات بارستقراطية، ويرعين رفيقي المهندس، خرجنا لمشاهدة معالم المدينة، ثم عاد بي ثانية إلى الفندق. قال: إني أتساءل. والتساؤل أصبح أكثر وضوحا وهو يشكل في ذهنه حجم رد فعلي المحتمل. تنهد وهو يقول: لا..اعتقد من الحكمة ألا أسأل.

قلت له: أنت عاقل، وطيب جدا..

تنهد ثانية وهو يقول: كان من الممكن أن يكون الأمر أكثر متعة، ولكني أرى، نعم، هذا هو الحل الأسلم. ضغط على يدي بحرارة، رفعها إلى شفتيه ثم رحل من حياتي إلى الأبد. كان رجلا لطيفا – الطيبة بعينها- وأنا أدين له بأنني شاهدت استانبول تحت رعايته الممتعة.

في اليوم التالي زارني ممثل شركة ( Cook). تم نقلي بعدها عبر البوسفور إلى محطة (حيدر باشا) حيث استأنفت رحلتي بقطار الشرق السريع. كنت سعيدة لوجود الدليل معي لان محطة (حيدر باشا) لا يمكن تخيلها أكثر من مستشفى للمجاذيب. فالجميع يصرخون ويزعقون ويضربون مطالبين بانتباه ضابط الجمارك لهم. تعرفت عندئذ على الأسلوب الذي يتبعه أدلاء شركة ( Cook) في مثل هذه المواقف. قال لي: أعطيني باونداً واحداً فقط. أعطيته الباوند، فاندفع في الحال نحو مكتب الجمارك ملوحا بالورقة النقدية عاليا وهو ينادي: هنا، هنا، هنا. فبرهن أن لصرخاته التأثير المطلوب فقد أسرع ناحيتنا أحد رجال الجمارك ببذلته المزركشة المذهبة، ووضع على حقائبي علامات كبيرة بالطباشير ثم قال لي: أتمنى لك رحلة سعيدة. ثم تحرك مبتعدا كي يتولى أمر أولئك الناس الذين لم يتبنوا بعد أسلوب الباوند الذي طبقه رجل شركة ( Cook).

- والآن أقودك إلى القطار. قال رجل الشركة.

والآن؟ كنت في شك من المبلغ الذي يطلبه، ولكني عندما بدات أقلب النقود التركية التي كانت معي _ بعض القطع النقدية الصغيرة _ قال بشيء من الصلابة:

- من الأفضل أن تحتفظي بهذه النقود. قد تكون ذات فائدة لك فيما بعد. أعطيني باونداً آخر.

شككت بالأمر، ولكن يبدو أن على المرء أن يتعلم بالتجربة. أعطيته الباوند فرحل بعد أن غمرني بتحياته وبركاته.

عند العبور من أوربا إلى آسيا تحس بتغير غامض يصعب تحديده، كما لو أن الزمن يصبح عديم المعنى. القطار يسير بتمهل على امتداد ساحل البحر، ثم يبدأ بتسلق الجبال. الجمال هناك يفوق التصور. الناس في القطار مختلفون أيضا، ومن الصعب أن تحدد أين يكمن هذا الاختلاف. كنت أحس بنفسي مقطوعة عن الآخرين، ولكن أكثر استمتاعا بما أفعل. عندما نتوقف في المحطات، كنت أحب مراقبة الناس بأزيائهم المزركشة الملونة، والقرويين المحتشدين على الرصيف، ووجبات الطعام الغريبة التي ترفعها الأيدي إلى القطار، فمنه الموضوع في أسياخ، ومنه الملفوف بأوراق النبات، إضافة إلى البيض المصبوغ بألوان شتى. وكلما توغلنا في الشرق يصبح الطعام غير شهي، عديم المذاق مليئا بالتوابل والدهون.

في الأمسية الثانية، توقفنا عند محطة صغيرة، فنزل المسافرون كي يشاهدوا بوابة (كيليكية). إنها في الحق لحظة جمال خارق لم أنسها طوال حياتي، فقد كان علي أن أمر بهذا الطريق مرات عديدة في أثناء ذهابي أو عودتي من الشرق الأوسط. وبما أن مواعيد القطارات كانت تتغير، فقد توقفت هناك في أوقات مختلفة من الليل والنهار. أحيانا في الصبح الباكر. أو مثل المرة الأولى عند المساء في الساعة السادسة، أحيانا أخرى، وللأسف، عند منتصف الليل. في المرة الأولى كنت محظوظة. خرجت مع الآخرين ووقفت هناك حيث الشمس تهبط إلى الغروب بتمهل. كان جمالا غير قابل للوصف، وكنت سعيدة بقدومي إلى هذا المكان.. تغمرني البهجة والعرفان.

عدت إلى القطار، ثم بدأنا نهبط عبر مضيق جبلي طويل انتهينا بعده عند نهر في الأسفل. وهكذا جعلنا ننحدر ببطء صوب الأرض السورية حيث سيتوقف القطار في حلب.

قبل وصولنا إلى حلب، كنت عرضة لضربة حظ سيء. تعرضت للسعات البعوض التي غطت ذراعي ورقبتي والكاحلين والركبتين. وقد جعلتني عدم الخبرة لا أميز بين البعوض و(البق) الذي يهاجم الإنسان. سوف أظل طوال حياتي شديدة التأثر، وعلى نحو غريب، من لسعات هذه الحشرات التي كانت تخرج من الشبابيك الخشبية القديمة الطراز لعربات القطار كي تمتص بشراهة دم المسافرين الممتلئين. ارتفعت درجة حرارتي إلى (102 ف) وتورمت ذراعاي. بمساعدة تاجر فرنسي شققت أكمام بلوزتي وسترتي. كانت ذراعاي متورمتين داخل الأكمام فلم يكن من سبيل آخر غير شقها. أصبت بالحمى والصداع والتعاسة. كنت أحدث نفسي: أي خطأ ارتكبت بقدومي في هذه الرحلة! على كل حال فإن صديقي الفرنسي كان أكبر عون لي. ذهب هذا الصديق واشترى لي بعض العنب – ذلك النوع ذو الحبات الصغيرة والمذاق الحلو الذي يكثر في هذه المنطقة من العالم – قال لي: لن ترغبي بتناول الطعام، فأنت مصابة بالحمى كما أرى، ويستحسن أن تكتفي بالعنب.

برغم أني تعلمت عن أمي وجدتي ألا أتناول طعاما قبل غسله، إلا أني لم اعد أهتم بنصيحة كهذه. كنت أتناول العنب كل ربع ساعة، وقد ساعد ذلك كثيرا على إنعاشي والتخفيف من وطأة الحمى. لم أكن أرغب في تناول أي شيء آخر. في حلب ودعني صديقي الفرنسي الطيب، وفي اليوم التالي خف ورم الذراعين وتحسنت حالي كثيراً.

 

أيام في دمشق

عندما وصلت إلى دمشق، بعد رحلة طويلة مرهقة بالقطار الذي بدا كأنه لا يسير أكثر من خمسة أميال في الساعة، ويتوقف باستمرار في أماكن غير مميزة تدعى بالمحطات، نزلت إلى أحضان الضجيج، الحمالون ينتزعون مني الحقائب وهم يصرخون ويزعقون، وآخرون ينتزعونها منهم، الأقوياء يصارعون الضعفاء.

رأيت خارج المحطة حافلة جميلة الشكل لصقت عليها لوحة (فندق أورينت بالاس). تمكن رجل فخم الهيئة يرتدي زي الخدم أن ينقذني وحقائبي، فصعدت مع واحد أو اثنين من المسافرين المذهولين إلى الحافلة التي نقلتنا إلى الفندق. كان فندقا رائعا، قاعاته الفسيحة مبنية من المرمر اللماع، إلا أن إنارته الرديئة لا تساعد المرء مطلقا على رؤية ما حوله. قادوني بعد ذلك عبر سلالم من المرمر إلى شقة واسعة. وكان لابد من إثارة قضية الحمام – مباشرة – مع فتاة لطيفة المظهر لتلبية طلباتي اثر قرعي للجرس، ويبدو أنها كانت تفهم بضع كلمات فرنسية.

قالت: بإشراف رجل. ثم أضافت بالفرنسية: Un home, un type, il va arranger.

كنت في شك مما كانت تعنيه بكلمة (un type )، ولكن يبدو أنها قصدت الخدم بذلك: كان الأدنى مرتبة بين الجميع، يرتدي ثيابا قطنية مخططة، قادني إلى غرفة شبيهة بالقبو. أدار هذا الرجل عددا من الحنفيات والصنابير فجرى الماء المغلي فوق الأرض الصخرية وملأ البخار الهواء فلم أعد أرى شيئا. انحنى الخادم مبتسما وهو يومئ كأنما ليفهمني بأن كل شيء على ما يرام، ثم غادر المكان بعد أن أغلق الصنابير فغاص الماء في بالوعة في الأرض. كنت في حيرة مما يجب أن افعل. إذ لم أكن أجرؤ على فتح صنابير الماء المغلي ثانية. كان هناك حوالي ثمانية أو عشرة مقابض صغيرة تنتشر على جدران الحمام، أي واحد منها قد يسبب ظاهرة مختلفة، كزخة ماء مغلٍ على رأسي مثلا. أخيرا خلعت الخف المنزلي وقطع الملابس الأخرى وبدأت أغتسل بالبخار وهو أسلم كثيرا من التعرض لمخاطر الماء الحقيقي. أحسست في لحظة بالحنين إلى الوطن. كم يمر من الوقت يا ترى قبل أن أتمكن من دخول حمام جدرانه مغطاة بالورق الصقيل مجهز بحوض خزفي ابيض للاستحمام وصنبورين للماء البارد والحار تديرهما حسب رغبتك؟

وبقدر ما أتذكر، فقد قضيت ثلاثة أيام في دمشق، قمت خلالها بجولات استطلاعية منظمة في المدينة، تحت رعاية دليل عديم الفائدة لشركة ( Cook ). في إحدى تلك الجولات قمت بزيارة قلعة صليبية برفقة مهندس أمريكي – ويبدو أن المهندسين يوجدون بكثرة في منطقة الشرق الأدنى – وقس طاعن في السن. التقينا للمرة الأولى عندما اتخذنا أماكننا في السيارة عند الساعة الثامنة والنصف. ظن هذا القس أننا – أنا والمهندس – رجل وزوجته، وكان يخاطبنا على هذا الأساس. قال لي الأمريكي: أرجو ألا تمانعي؟ أجبته: لا، أبداً.. إني آسفة جدا لأنه يعتقد بأنك زوجي. كانت العبارة غامضة بعض الشيء فضحكنا معا.

ألقى القس علينا خطبة مطولة في فضائل الحياة الزوجية، وضرورة الأخذ والعطاء، ثم تمنى لنا السعادة التامة. تخلينا عن الشرح أو محاولة ذلك. وقد بدا عليه الانزعاج عندما صاح الأمريكي في أذنه بأننا غير متزوجين. كان يبدو من الأفضل ترك الأمور على حالها.

قال بإصرار وهو يهز رأسه: ينبغي أن تتزوجا. العيش في الخطيئة أمر غير مستحسن أبداً.

ذهبت أيضا لمشاهدة بعلبك الجميلة. زرت الأسواق الشرقية والشارع الذي يدعى (المستقيم). اشتريت الكثير من الصحون النحاسية الجذابة التي يصنعونها هناك. وكل نموذج خاص بالعائلة التي تصنعه. أحيانا يكون التصميم لسمكة يحيط بها نقش من الفضة والنحاس. انه لشيء مثير للسحر أن نفكر في كل عائلة وحرفتها التي تنتقل من الأب إلى الابن فالحفيد، دون أن يحاول احد – من غير العائلة – أن يقلد أو يوسع إنتاج هذه الصناعة. اعتقد لو ذهبتَ إلى دمشق الآن فلن تجد إلا قلة من أولئك الحرفيين القدماء وعوائلهم، ربما ستجد معامل أو مصانع بدلا منهم. في تلك الأيام، كان قد أصبح انتاج العلب والمناضد المطعمة خاليا من الإبداع ومكررا.

اشتريت أيضا خزانة ملابس، من الحجم الكبير، مرصعة باللؤلؤ والفضة، ذلك النوع من الأثاث الذي يذكرك بأرض الجنيات. لم يكن رجل الشركة معجبا بها.

قال: ليست بالعمل الجيد. قديمة الصنع، ربما قبل خمسين أو ستين عاما أو أكثر. طراز قديم. أظنك تدركين ذلك، قديم جدا، ليس جديدا.

قلت له أني ارى ذلك، وهو نوع غير وافر، وربما لن يتوفر في المستقبل أبدا

قال: لأن لا أحد يصنعه الآن. تعالي وشاهدي هذا الصندوق. هل ترين؟ نوع جيد، وهذا الآخر هنا، وخزانة الملابس هذه، هل ترين؟ استخدمت في صنعه كل أنواع الخشب المختلفة.

ولكن النتيجة شيء قبيح..لا، كنت أريد خزانتي المطعمة باللؤلؤ والفضة.

الشيء الوحيد الذي أقلقني هو كيفية نقل الخزانة إلى إنكلترا. ولكنني لم أواجه أية صعوبات في ذلك. قامت شركة (Cook) بنقل الخزانة إلى الفندق، ومنه إلى شركة لشحن البضائع. وبعد إجراء الترتيبات والحسابات اللازمة، تم شحن الخزانة إلى إنكلترا. وصلت خزانتي المطعمة باللؤلؤ والفضة إلى (ساوث ديفون) بعد تسعة أو عشرة شهور.

إلا أن ذلك لم يكن نهاية القصة. فبالرغم من أن الخزانة كانت شيئا رائعا بهي المنظر، إلا أنها وعند منتصف الليل كانت تصدر أصواتا غريبة، كما لو أن أسنانا تقضم شيئا ما. مخلوق ما كان يأكل خزانتي الجميلة. أخرجت الأدراج وفحصتها. لم أجد ثقوبا أو آثار أسنان، ولكن ليلة بعد أخرى، عندما تحل الساعة التي يستيقظ فيها السحرة، كنت أسمع ذلك الصوت.

أخيرا أخرجت أحد الأدراج وحملته إلى شركة في لندن قيل أنها متخصصة بدراسة (آفات الخشب الاستوائي). أيدوني في الحال بأن حشرة ما موجودة في الداخل. لابد إذن من استبدال الخشب كليا ثم إعادة تغليفه. وهذا – بطبيعة الحال- سيضيف كثيرا إلى النفقات، ربما سيكلف ثلاثة أضعاف سعر الخزانة، وضعفي تكاليف شحنها إلى إنكلترا. ولكن كل هذا لا يهم، لأنني ببساطة لم أعد أستطيع احتمال أصوات القضم والنهش الخفية.

بعد ثلاثة أسابيع تم الاتصال بي تليفونيا، وبنبرة منفعلة قال المتحدث: سيدتي، هل يمكنك أن تأتي إلى المحل، أود أن تطلعي على ما وجدنا في الخزانة. وقد صادف وجودي في لندن آنذاك، فأسرعت في الحال إلى المحل حيث دعوني وبفخر لمشاهدة دودة هجينة ذات شكل منفر، كبيرة الحجم، بيضاء، ذات حركات فاحشة، بدا واضحا أنها قد استمتعت كثيرا بغذائها الخشبي مما زاد من بدانتها وبصورة غير معقولة. لقد أكلت تقريبا كل الخشب المحيط بها في اثنين من الأدراج. بعد مضي بضعة أسابيع أخرى أعيدت لي خزانتي. لم أعد اسمع في ساعات الليل غير الصمت.

بعد جولات استطلاعية مكثفة لم تزدني إلا تصميما على العودة إلى دمشق واستكشاف المزيد، حان موعد البدء بالرحلة عبر الصحراء إلى بغداد. كان يقوم على تقديم خدمات السفر هذه أسطول كبير من الباصات والسيارات ال (سكس ويل)، الذي يدار من قبل شركة (نيرن) للنقل البري. كان الأخوان جيري ونورمان نيرن يديران هذه الشركة. كانا استراليين وأكثر الرجال وداً وصداقة. تعرفت عليهما في الليلة التي سبقت اليوم الذي تبدأ فيه الرحلة. كانا منشغلين بتهيئة علبة كارتونية لحفظ الطعام. لم يكونا ماهرين في عملهما فدعياني لمساعدتهما.

 

الرحلة إلى بغداد

يبدأ الباص رحلته عند الفجر، ويقوده سائقان عملاقان. عندما أتيت خلف حقائبي شاهدتهما يخبئان بندقيتين في السيارة ويلقيان فوقهما بإهمال عددا من السجاجيد.

قال احدهما: من غير الممكن أن نعلن عن وجودهما معنا. ولكني لست مستعدا أن أعبر الصحراء بدونهما.

قال الآخر: يبدو أن دوقة (العلوية) معنا في الرحلة.

قال الأول: يا الهي! سنواجه المشاكل حتما، ماذا تريد هذه المرة برأيك؟

قال الثاني: ستنقلب الأمور رأسا على عقب، وعقبا على رأس.

في تلك اللحظة اقترب منا موكب قادم من الفندق، ولدهشتي – وتعاستي أيضا – عرفت أن الشخص الذي يتقدم الموكب لم يكن غير السيدة (س) التي فارقتني في تريستا. ظننتها الآن في بغداد، فقد تلكأت وتباطأت طويلا في مشاهدة معالم استانبول ودمشق.

قالت بسرور وهي ترحب بي: توقعت أن تكوني في هذه الرحلة. لقد تمت تسوية الأمور كافة. سوف أعود بك إلى (العلوية). من المستحيل عليك تماما أن تنزلي في أي فندق من فنادق بغداد.

ما الذي كان بإمكاني قوله؟ كنت معتقلة. فانا لم أكن قد ذهبت إلى بغداد من قبل أو شاهدت الفنادق هناك. ربما كانت – الفنادق – تعج بأعداد كبيرة من البراغيث والبق والقمل والأفاعي وذلك النوع الشاحب من الصراصير التي امقتها بشكل خاص. أدركت في الحال أن دوقة (العلوية) ليست غير صديقتي السيدة (س)، والتي رفضت في الحال المقعد الذي قدم لها لأنه قريب من مؤخرة الباص وهذا يسبب لها حالة دوار وغثيان. طالبتْ بالمقعد الأمامي خلف السائق، ولكنه كان محجوزا لسيدة عربية. لوحتْ بيدها المعروقة فقط. من الواضح أنه لا يتحسب للأمور غيرها. حاولتْ أن تعطي انطباعا بأنها أول امرأة أوربية تطأ قدماها ارض مدينة بغداد قبل أن تتساقط نزوات الآخرين. حضرت السيدة العربية وبدأت بالدفاع عن مقعدها. ناب عنها زوجها فألقى دفاعا رائعا أمام الجميع. سيدة فرنسية حاولت الاعتراض. وجنرال ألماني هو الآخر بدا صعبا. لا اعرف أية جدالات جرت، ولكن كما هي العادة دائما على هذه الأرض، فان أربعة من الضعفاء جردوا من مقاعدهم الجيدة ونقلوا إلى مؤخرة الباص، وبقي الأربعة المنتصرون، الألماني، الفرنسية، العربية المكفنة بحجابها والسيدة (س) منتشين بحلاوة النصر. لم أكن قط في يوم ما مقاتلة جيدة، ولم اشعر بالحاجة إلى فرصة لإثبات ذلك، بالرغم من أن رقم مقعدي يؤهلني لواحد من المقاعد المرغوب فيها.

في الوقت المحدد انطلق بنا الباص وهو يرعد ويدمدم.

سحرتني كثيرا الصحراء والكثبان الرملية المتموجة والصخور، إلا أن رتابة الأشياء وتكرارها سببا لي تنويما مغناطسيسا، ففتحت كتابا وبدأت اقرأ. لم يسبق لي أن أصبت بالغثيان أو الدوار في سيارة، إلا أن حركة (السكس ويل) في حالة الجلوس في الجزء الخلفي منها، تشبه حركة سفينة. فماذا كانت النتيجة وأنا منشغلة بالقراءة؟ لقد أصبت بحالة دوار مفاجئة وشديدة جدا. أحسست بالعار، ولكن السيدة (س) كانت طيبة معي وقالت بأنها _ هذه الحالة – تفاجئ المرء دائما. وقالت أيضا بأنها في المرة القادمة ستحرص أن يكون مقعدي في المقدمة.

إن رحلة الثماني والأربعين ساعة عبر الصحراء، رحلة ساحرة محفوفة بالمخاطر مثيرة للشؤم، تمنح المرء إحساسا بأنه مطوق بالفراغ وليس محاطا به. من الأشياء التي تعلمتها، أنه عند الظهيرة يصبح من المستحيل تحديد الاتجاه الذي تذهب فيه. ففي هذا الوقت من النهار تأخذ سيارات (السكس ويل) باقتفاء آثار العجلات. في إحدى رحلاتي الأخيرة عبر الصحراء وقع هذا فعلا. اكتشف سائقنا _ وكان ذا خبرة جيدة _ بعد ساعتين أو ثلاث، أنه يقود سيارته عبر الصحراء باتجاه دمشق موليا ظهره بغداد. ويحدث هذا عندما تتشعب الآثار. كانت هنالك متاهة من آثار العجلات في أنحاء الأرض الصحراوية. في أثناء تلك الرحلة ظهرت سيارة في الأفق، جعلوا يطلقون النار، فقام سائقنا باستدارة أوسع من المعتاد معتقدا أنه قد عاد الى الطريق الصحيحة غير أنه في الحقيقة كان يقود سيارته في الاتجاه المعاكس.

بين دمشق وبغداد ليس سوى الصحراء، لا محطات ولا علامات حدودية بارزة باستثناء (الرطبة) وهي المحطة الوحيدة الكبيرة على الطريق. وصلنا الرطبة عند منتصف الليل، فتحت لنا أبواب المدينة المحصنة. إلى جانب الباب الكبيرة، كان حراس قوافل الجمال متأهبين، شاهرين بنادقهم، على أهبة الاستعداد لمواجهة قطاع الطرق المتنكرين بأزياء مسافرين. وجوههم الداكنة المتوحشة مثيرة للرعب. بعد أن تم تفتيشنا بدقة، سمح لنا بالدخول، ثم أغلقت الأبواب خلفنا. قادونا إلى غرف مجهزة بأسرة ثابتة، فحشروا كل خمس أو ست نسوة في الغرفة الواحدة. بقينا في المدينة ثلاث ساعات، انطلقنا بعدها ثانية.

في الخامسة أو السادسة صباحا، عند الفجر، تناولنا طعام الإفطار في الصحراء. ليس في العالم أطيب من إفطار كالمقانق المعلبة المطبوخة على موقد البريموز في الصحراء، يلي ذلك كوب من الشاي الأسود، يفي بالحاجة ويجدد القوى الخائرة. الألوان البهيجة في أنحاء الصحراء، اللون الوردي الشاحب، اللون الأزرق، وصفير الهواء الحاد. كان المنظر تحفة رائعة. كنت مفتونة مسلوبة اللب. هذا ما كنت أشتاق إليه. الهروب إلى عوالم أخرى. هواء الصباح المنعش، الصمت _ لا تشوبه حتى زقزقة العصافير _ الرمال التي تنساب من بين الأصابع، الشمس المشرقة ومذاق المقانق مع الشاي. ما الذي يرجوه المرء من حياته أكثر من ذلك؟

تحرك الباص بنا ثانية، حتى وصلنا أخيرا مدينة الفلوجة على نهر الفرات. عبرنا جسرا عائما، ثم مررنا بالقاعدة الجوية في الحبانية. استمر بنا المسير حتى بدأنا نرى بساتين النخيل وطريقا مرتفعا. في الأفق، إلى اليسار، شاهدت القباب الذهبية للكاظمية. وصلنا جسرا آخر مصنوعا من القوارب أيضا عبر نهر دجلة. عبرنا هذا الجسر ودخلنا بغداد. كنا نسير في شارع تكثر على جانبيه الأبنية القديمة الخربة، وثمة مسجد ذو قبة فيروزية اللون، بدا لي ينتصب عند منتصف الشارع.

 

العلوية ومدينة الجاموس

لم تسنح لي الفرصة لإلقاء نظرة على فندق في بغداد. فقد قامت السيدة (س) وزوجها (أريك) بنقلي إلى سيارة مريحة انطلقت بنا عبر الشارع الرئيس للمدينة. مررنا بنصب الجنرال (مود) ثم خرجنا من المدينة إلى طريق تحف جانبيه أشجار النخيل وقطعان الجاموس الجميلة وهي تسبح في برك الماء. أشياء لم أكن قد رأيت مثلها من قبل.

وصلنا أخيرا بيوتا وحدائق مليئة بالزهور. ذلك المكان الذي كنت أدعوه أحيانا بأرض (المدام صاحب).

كانوا في غاية اللطف والطيبة معي في بغداد، وكنت أحس بالخجل من نفسي على المشاعر الحبيسة التي أعاني منها. العلوية الآن أحد أحياء بغداد المزدحم بالحافلات ووسائل النقل الأخرى. غير أنه كان في ذلك الوقت مقطوعا عن المدينة ببضعة أميال، فكان لا بد أن تجد من يقلك إذا أردت الذهاب إلى هناك، وهذه الرحلة بالذات مثار للفتنة والسحر دائما..

في يوم ما أخذوني لرؤية مدينة الجاموس، التي ما زال بالإمكان مشاهدتها من القطار عند دخول بغداد من الشمال. بالنسبة للمرء الذي لا يعرف خبايا الأمور، تبدو له _ مدينة الجاموس _ مكانا للرعب، حيا قذرا، فناء يمتلئ بالجاموس وفضلاته. الروائح النتنة الكريهة تخنق الأنفاس. الأكواخ المصنوعة من صفائح البنزين تذهب بالمرء إلى الاعتقاد بأنها مثال على الفقر والانحطاط. لكن مالكي الجاموس أثرياء جدا. فبالرغم من عيشهم في القذارة والبؤس، فان الجاموسة الواحدة تساوي (100) باوند أو أكثر _ ربما أكثر بكثير في الوقت الحاضر _ ويعد هؤلاء المالكون أنفسهم من الناس المحظوظين. ولو دققت النظر في النسوة اللواتي يخضن في الطين سترى ان الحلي الفضية والفيروزية تزين كواحلهن.

لقد تعلمت أن ما يبدو من الأشياء _ في الشرق الأدنى _ مخالف لحقيقتها تماما. كان لابد من إلغاء عادات المرء في الحياة والسلوك والتصرف وإيجاد البدائل. فأنت تتراجع مسرعا إذ ترى رجلا يشير إليك أن تبتعد وهو في الحقيقة يدعوك للاقتراب منه، أما إذا رأيته يومئ لك _بهدوء_ فهو يطلب منك أن تبتعد. وعندما ترى رجلين في طرفي الحقل يصرخان بأعلى صوتيهما، تظن أنهما يهدد أحدهما الآخر بموت محقق. لا، إطلاقا، فهما مجرد شقيقين يقضيان وقتهما بالحديث فيرفعان صوتيهما.

أخبرني زوجي (ماكس) مرة أنه في زيارته الأولى للعراق لاحظ أن الجميع يصرخون عندما يتحدثون إلى العرب. كانت صدمة بالنسبة له فقرر مع نفسه أن يتجنب ذلك. على كل حال فقد اكتشف فيما بعد أن أي تعليق أو كلام يبقى غير مسموع إلا إذا قيل بنبرة صوت عالية، وهذا ليس متأتيا عن صمم، بل من اعتقاد أن من يتكلم بنبرة واطئة إنما يحدث نفسه، لذلك فان أي رجل يرغب حقا أن يبدي رأيا أو تعليقا يجب عليه أن يرفع صوته كي يسمعه الآخرون.

كان الناس في (العلوية) كرماء جدا معي. لعبت التنس، ذهبت إلى السباقات، شاهدت معالم المدينة، وأخذوني إلى الدكاكين والمحلات. كنت أحس كما لو أني في انكلترا. جغرافيا أنا في بغداد، وروحيا ما أزال في انكلترا، في حين أن غايتي من السفر الابتعاد عنها ورؤية بلدان أخرى. كان لابد إذن أن أفعل شيئا ما.

 

آثار أور

أردت زيارة (أور). استفسرت عن الأمر. فرحت كثيرا عندما وجدت الجميع يشجعونني للقيام بهذه الزيارة، ولم يصدوني عنها. قاموا بترتيب الرحلة لي، كما اكتشفت فيما بعد، بكثير من الزخارف الإضافية غير الضرورية.

قالت السيدة (س): يجب أن تأخذي حمالاً معك بالطبع. سوف نحجز لك في القطار، ونبرق إلى السيد والسيدة (وولي) في أور كي نعلمهما عن وصولك ورغبتك في مشاهدة الحفريات. بإمكانك أن تقضي ليلتين في دار الضيافة هناك. سيكون (أريك) في انتظارك عند العودة.

قلت انه لطف كبير منهم أن يبذلوا جهدهم من أجلي، وأحسست بالذنب لأنهم لم يعرفوا أني ابذل ما بوسعي من أجل ترتيب الأمور ما بعد عودتي.

في الوقت المحدد تحرك بنا القطار. ألقيت نظرة متوجسة على الحمال. كان رجلا طويل القامة نحيفا، تبدو عليه سيماء رجل رافق السيدات الانجليزيات في الشرق زمنا طويلا فأصبح يعرف تماما ما يفيدهن. كان يرتدي ملابس جميلة جدا. أجلسني في عربتي العارية غير المريحة، ألقى علي السلام ثم غادرني بعد أن أوضح انه سوف يعود عندما يتوقف القطار في محطة مناسبة كي يأخذني إلى مطعم على الرصيف.

أول شيء فعلته عندما تركوني وشأني أني ارتكبت خطأ فادحا. فتحت النافذة على مصراعيها. كنت بحاجة إلى هواء نقي، فهواء المقصورة كان خانقا لا يحتمل. ولكني لم أحصل الا على هواء ملتهب بالحرارة مليء بالغبار وستة وعشرين دبورا، فتملكني رعب شديد. جعلت هذه الدبابير تحوم حولي في فضاء الغرفة مهددة بالانقضاض. كنت عاجزة عن التفكير، فلم أدر ان كان من الأفضل ترك النافذة مفتوحة لعل الدبابير تخرج أو غلقها والاقتصار على تهديد الدبابير الموجودة فعلا. كان حظا سيئا. جلست متشنجة في إحدى الزوايا ساعة ونصف حتى حضر حمالي لينقذني ويقودني إلى المطعم.

كانت الوجبة غير جيدة مليئة بالدهن، ولم يكن في الوقت متسع لتناولها. قرعت الأجراس، فاستردني خادمي المخلص. عدت إلى العربة. كانت النافذة مغلقة وتم التخلص من الدبابير. جعلتني هذه التجربة في الحقيقة أكثر حذرا في التعامل مع الأشياء.

كنت وحدي في العربة – وهذا يبدو طبيعيا- وكان الوقت يمر بطيئا. لم أكن أستطيع القراءة والقطار يهتز كثيرا عند الحركة وليس في الخارج شيء يستحق المشاهدة: الأرض الجرداء ورمال الصحراء. كانت رحلة طويلة مرهقة تتخللها وجبات الطعام والنوم القلق غير المريح.

إن مواعيد وصول القطار إلى أور قد اختلفت على امتداد السنوات الطويلة التي قمت فيها بهذه الرحلة، ولكنها كانت دائما في أوقات غير ملائمة. في رحلتي الأولى وصلنا أور في الساعة الخامسة صباحا. أيقظوني، نزلت من القطار، وقادوني إلى دار الضيافة في المحطة. قضيت الوقت هناك في غرفة نظيفة، مظهرها ينم عن الخشونة، حتى أحسست بالميل لتناول الإفطار عند الساعة الثامنة.

بعد ذلك بوقت قصير وصلت سيارة قيل أنها ستقلني إلى موقع الحفريات الذي يبعد حوالي ميل ونصف الميل. وبرغم أني لم أكن معروفة لدى العاملين هناك، فقد استقبلوني بترحاب وحفاوة كبيرين. وبعد تجربة السنوات التي قضيتها في الحفريات، أدرك الآن كما لم أدرك من قبل، كم من الزائرين المقيتين يزورون الحفريات في أوقات غير مناسبة، يعلنون عن رغبتهم في رؤية الأشياء المكتشفة، يثرثرون في ذلك مضيعين الوقت الثمين وعموما يعرقلون كل شيء. وفي حفريات ناجحة مثل أور، الوقت ثمين جدا، والجميع يعملون طول الوقت وهم محنيي الظهور. ولعله من الأمور المغيظة جدا أن تجد عددا كبيرا من النسوة المنفعلات، يتجولن هنا وهناك. لقد تمكن آل (وولي) من استخراج عدد من الآثار الشديدة القيمة.

لكني _ على عكس الآخرين _ حظيت باستقبال خاص، وعاملوني بود واحترام كبيرين. كنت ضيفة خاصة، وكان ينبغي أن أثمن ذلك أكثر مما فعلت حقا.

وسبب هذه المعاملة الخاصة ان كاثرين وولي، زوجة ( ليونارد وولي) قد انتهت للتو من قراءة أحد كتبي: (مقتل روجر اكرويد)، وكانت متحمسة جدا للقصة، لذلك، فقد عاملوني معاملة (شخص مهم جدا). كانت تسأل أعضاء البعثة عن قراءتهم للكتاب، فإذا جاء الرد بالنفي فإنهم يتعرضون للتعنيف والتوبيخ.

أطلعني ليونارد وولي، بأسلوبه الطيب الودود، على الأشياء التي تم استخراجها من الحفريات. وأخذني الأب (باورز) في جولة في المنطقة. والأب (باورز) قسيس من طائفة الجزويت خبير بالرقم الطينية، ذو شخصية متميزة، الطريقة التي يصف بها الأشياء تخلق تباينا مبهجا.

ليونارد وولي يرى الأشياء بعين الخيال. فالمكان يبدو حقيقيا له رغم أنه قد يعود إلى (1500 ق.م.) أو قبل بضعة آلاف سنة. فحيثما تكون، بإمكانه أن يبعث الحياة في الأشياء من حولك. عندما يتكلم يتملكني اليقين أن البيت القائم في تلك الزاوية إنما هو بيت (إبراهيم). كانت لديه في الواقع إمكانات خارقة في إعادة بناء الماضي الذي يؤمن به، ومن يصغي إليه يصدقه ويؤمن به أيضا.

أما أسلوب الأب (باورز) فمغاير تماما. بنغمة تبريرية معتذرة وفي اللحظة التي يشدك فيها إليه، يقول فجأة: (بالطبع نحن لا نعرف إن كان هذا حقيقيا. لا يمكن التيقن من الأمر. لا، أعتقد انه غير حقيقي.) وبالطريقة نفسها يقول: (نعم، نعم، كانت دكاكين، ولكني لا أظنها مبنية بالشكل الذي نتخيلها فيه. فهي بالتأكيد مختلفة عن ذلك تماما.) كانت لديه عاطفة أو ميل شديد لتشويه كل شيء. كان شخصا مثيرا، بارعا ودودا، وبرغم ذلك يحيط نفسه بحالة من الانطواء والعزلة. كان هنالك شيء ما غير بشري في هذا الرجل.

مرة دون سبب تحدث معي على الغداء عن قصة بوليسية قال أن بإمكاني الكتابة عنها، وشجعني على ذلك. حتى تلك اللحظة لم تكن لدي أدنى فكرة عن ميله أو رغبته في مطالعة القصص البوليسية. فالقصة التي أجملها لي، برغم غموضها تصور أحداثا تتناول تدبير مكيدة، وقد قررت أنني في يوم ما سوف أفعل شيئا بخصوصها. بعد عدد غير قليل من السنين، ربما بعد خمس وعشرين سنة، استرجعت الفكرة وكتبت قصة طويلة اعتمدت الظروف والملابسات الخاصة التي حددها القس آنئذ. كان الأب باورز قد توفي منذ زمن، ولكني تمنيت بشكل ما أن يدرك أني استفدت من فكرته وأنا ممتنة لذلك. ولكنها _الفكرة_ قد تحولت إلى شيء خاص بي ولم تعد تشبه في شيء ما قاله القس. ولكنه، برغم ذلك، يظل منبع الإلهام إلى خلق كل شيء في هذه القصة.

إن كاثرين وولي، التي ستصبح في السنوات القادمة من صديقاتي المقربات جدا، ذات شخصية غريبة الأطوار. الناس منقسمون بين كاره لها وحاقد عليها وبين محب لها مفتون بها _ ربما لانها تتحول بسهولة من مزاج إلى آخر يصعب تحديده عندما تكون معها، فالناس يعلنون أنها امرأة لا تطاق، وان علاقتهم بها قد انتهت، وأنها امرأة لا تبدي أدنى ود أو تعاون في الطريقة التي تتعامل فيها معك. ولكنهم _ هؤلاء الناس _ ودون سابق إنذار يعودون للافتتان بها ثانية.

هنالك شيء واحد أنا واثقة منه تماما. لو أراد امرؤ أن يختار امرأة كي تكون رفيقته في جزيرة صحراوية جرداء، أو في مكان لن تجد فيه من يسليك، فان السيدة وولي تصلح أن تكون تلك المرأة. الموضوعات التي تنتقيها للحديث غير تافهة أو مبتذلة أبدا. تحفزك دائما للتفكير عبر ممرات لم يسبق أن سلكتها أو اقترحت عليك من قبل، ولديها القدرة على ممارسة أسلوب خشن _ في الحقيقة لديها خشونة فظة _ عندما تريد ذلك، وبشكل غير معقول _ ولكنها لو أرادت أن تسحرك فإنها تنجح دائما.

أحببت أور كثيرا، بجمالها في المساء، والزقورة الشاخصة بظلها الشاحب، وبحر الرمال الواسع بألوانه الجميلة، الوردي والمشمشي والبنفسجي المتغير في كل لحظة. كنت أجد متعة في مراقبة العمال ورؤساءهم والأولاد ذوي السلال والمنقبين _ البراعة في الأسلوب ونمط الحياة. إغراءات الماضي تظهر كي تمسك بي وتشدني إليها. فرؤية خنجر ذهبي يتراءى لك تدريجيا وهو يومض من خلال الرمل أمر مثير للخيال. والحذر في رفع الأواني والأشياء الأخرى من التربة يملؤني رغبة وشوقا لممارسة العمل بنفسي ( أن أكون عالمة آثار). أفكر أحيانا أن سوء حظي هو الذي جعلني أعيش دائما حياة عابثة غير جادة. تذكرت عندئذ وبخجل شديد كيف أن أمي في القاهرة حاولت أن تقنعني بزيارة الأقصر وأسوان لمشاهدة الآثار المصرية العظيمة، وكيف أني كنت أرغب بلقاء الشبان والرقص معهم حتى ساعات الصباح الأولى. حسنا، أعتقد أن هنالك وقت لكل شيء.

كاثرين وولي وزوجها ألحا علي وشجعاني على البقاء يوما آخر والاطلاع على المزيد من التنقيبات. وكنت في الحقيقة مسرورة لقبول ذلك. لم يعد وجود حمالي، المفروض علي من قبل السيدة (س) ضروريا فطلبت كاثرين منه أن يعود إلى بغداد ويخبرهم أن يوم عودتي ما زال غير مؤكد. كنت آمل بهذه الطريقة أن أعود إلى بغداد خفية عن مضيفتي الطيبة والنزول في فندق (تايكرس بالاس) – لا أدري إن كان هذا هو اسمه عند ذاك – فلقد حمل هذا الفندق العديد من الأسماء حتى أني نسيت الاسم الأول.

إلا أن هذه الخطة لم تنجح، فزوج السيدة (س) المسكين كان يأتي إلى المحطة كل يوم في انتظار عودتي من أور. على كل حال فقد تخلصت منه بيسر. شكرته كثيرا، وأكدت له كم كانت زوجته طيبة معي، ولكني في الحقيقة أشعر أن من الأفضل لي أن أذهب إلى الفندق، وأنني فعلا قد رتبت الأمور وحجزت في فندق (تايكرس بالاس).. فأقلني إلى هناك. جددت شكري للسيد (س) وقبلت منه دعوة على لعبة تنس خلال ثلاثة أو أربعة أيام. هكذا تمكنت من الإفلات من قيود الحياة الاجتماعية بالطريقة الانكليزية. فتحولت من (مدام صاحب) إلى سائحة انكليزية.

 

فندق تايكرس بالاس

لم يكن الفندق رديئا. عند المدخل يلفك ظلام دامس: صالة انتظار واسعة، وغرفة للطعام ستائرها مزاحة على الدوام. في الطابق الأول توجد شرفة حول غرف النوم، يمكن لأي امرئ يمر من هناك أن يدخل ويقضي النهار معك وأنت مضطجع في السرير. أحد جانبي الفندق يطل على نهر دجلة، إنه حلم مثير للبهجة إذ ترى القفف والقوارب على أنواعها منتشرة على صفحة الماء. في أوقات تناول وجبات الطعام تنزل إلى سرداب معتم مزود بمصابيح كهربية ذات ضوء شحيح، ويقدمون لك هناك بضع وجبات في وقت واحد، صحنا بعد آخر تحمل تشابها غريبا مع بعضها. قطع كبيرة من اللحم المقلي والرز، قطع صغيرة من البطاطس الصلبة، أومليت بالطماطم، والقرنابيط –الجلدية- ذات اللون الفاقع...هكذا دون قيد أو شرط.

الثنائي الرائع (هووي) واللذان نصحاني للقيام بهذه الرحلة، كانا قد أعطياني عنوانا أو اثنين لبعض من معارفهما. كان تقييمي لها أنها تعود لأناس جديرين باللقاء ويمكن أن يساعدوني في الاطلاع على بعض المناطق الأكثر إمتاعا في المدينة. إن بغداد _ على الرغم من الحياة الاجتماعية في العلوية_ أول مدينة أراها تحمل طابعا شرقيا أصيلا، إذ يمكنك أن تترك شارع الرشيد كي تنحدر عبر تلك الأزقة الصغيرة الضيقة المؤدية إلى الأسواق: سوق الصفافير حيث يقرعون ويطرقون طول الوقت، وسوق (الشورجة) حيث التوابل المكدسة من كل الأنواع.

أحد أصدقاء عائلة (هووي)، رجل أنكلوهندي يدعى (موريس فيكرز) يعيش _ كما أعتقد _ حياة منعزلة الى حد ما. أثبت هذا الرجل أنه صديق جيد لي أيضا. أخذني لرؤية القباب الذهبية للكاظمين من غرفة على السطح، وقادني إلى أجزاء مختلفة غير التي اعتدت رؤيتها، وذهب بي إلى أحياء الفخارين ومناطق أخرى كثيرة. ذهبنا في إحدى الجولات إلى النهر عبر غابات النخيل. ربما كانت أحاديثه معي أكثر قيمة من المعالم التي أطلعني عليها. فمنه تعلمت _ ولأول مرة _ التفكير بقيمة الزمن، وذلك كشيء غير ذاتي لم أكن قد فكرت فيه من قبل. أما بالنسبة لفيكرز فإن الزمن والصلات أو العلائق الزمنية هي أمور ذات أهمية خاصة.

_ عندما تفكرين مرة بالزمن واللانهاية، فان تأثير الأشياء الذاتية سوف يتغير. الحزن، الألم، المعاناة وكل مظاهر أو عناصر الحياة الأخرى سوف تبدو بمنظار مختلف تماما.

سألني إن كنت قد قرأت تجربة (ديون) مع الزمن. قلت لا. أعارني إياه. قرأته. أدركت عندئذ أن شيئا ما أصابني. ليس تغيرا في العاطفة أو المظهر، ولكني بطريقة ما بدأت أرى الأشياء بصورة نسبية. كنت أرى نفسي اقل حجما، كظاهرة واحدة من هذا العالم الكثيف والمزدحم بمئات الظواهر المتداخلة المتفاعلة. من آن لآخر يستطيع المرء أن يعي ذاته ويراقب وجودها من الخارج _ من كوكب آخر _ وكان البدء بهكذا موضوع تنقصه الخبرة والمهارة. ولكني أخذت أشعر ابتداء من تلك اللحظة براحة حسية كبيرة ومعرفة أكثر صدقا لصفاء الذهن مما كنت قد حصلت عليه من قبل. ولموريس فيكرز الفضل الكبير في منحي تلك الرؤية الأوسع للحياة. كان شابا رائعا متميزا (بسلوك وصفات غير مألوفة)، لديه مكتبة ضخمة تضم مختلف الأنواع من كتب الفلسفة وغيرها. أتساءل أحيانا إن كنا سنلتقي ثانية، ولكني كنت على يقين من أن ذلك لن يحدث. كنا مثل سفينتين التقيتا ليلا. قدم لي هدية وأنا قبلتها: ذلك النوع من الهدايا الذي لم أحصل عليه من قبل. هدية العقل لا العاطفة.

لم يكن لدي متسع من الوقت لقضائه في بغداد. كنت متلهفة للعودة إلى الوطن كي أتهيأ لأعياد الميلاد. نصحوني بالذهاب إلى البصرة والموصل. موريس فيكرز شجعني لزيارة الموصل. وقال أنه لو توافر لديه الوقت فسوف يأخذني إلى هناك بنفسه. إن إحدى الأشياء المدهشة والمثيرة عن بغداد وعن العراق عموما أنك دائما تجد من يرافقك إلى الأماكن التي تود رؤيتها، وباستثناء الرحالة أو المسافرين المشهورين فإن النسوة نادرا ما يخرجن لوحدهن. فحالما تعلن عن رغبتك للقيام بسفرة ما، فإن شخصا ما – صديق، ابن عم، زوج أو عم – سوف يكون رهن الإشارة كي يهيئ مستلزمات السفر ويرافقك حيث تريد.

في الفندق التقيت أيضا بالكولونيل (دوير) من القوات الانكليزية العاملة في إفريقيا. كان رجلا كهلا، سافر وتنقل كثيرا في أرجاء العالم، واسع الاطلاع يعرف الكثير عن منطقة الشرق الأوسط. صادف- في إحدى المرات- أن يكون حديثنا عن كينيا وأوغندا فذكرت أن أخا لي كان قد عاش هناك سنوات عديدة. سأل عن اسمه. قلت له: ميلر. علت وجهه علائم شك مريب وهو يحدق بي.

- أتعنين أنك أخت ميلر، وأن أخاك هو (عصا التبختر) ميلر.

لم أكن قد سمعت بهذه الكنية من قبل. أضاف قائلا:

- كان رجلا غريب الأطوار.

- نعم، قلت مؤيدة، كان دائما رجلا غريب الأطوار.

- وأنت أخته، يا إلهي، لابد أن تكوني قد تعرضت للكثير جراء سلوكه.

قلت أن ذلك تقييم عادل.

- إنه واحد من أعظم الشخصيات التي التقيتها. ليس بالإمكان الضغط عليه، كما تعرفين. ولا يمكنك أن تجعليه يغير رأيه، فهو عنيد كالخنزير. برغم ذلك فهو جدير بالاحترام، إنه أحد أشجع الشبان الذين عرفتهم في حياتي.

تأملت الأمر، وفكرت أنه قد يكون كذلك ثم قلت نعم.

- ولكن كيف يمكن التحكم بأمثاله في أثناء الحرب. تسلمت مسؤولية تلك الفرقة مؤخرا. كنت قد كونت رأيا فيه منذ البداية.

إنه تشرين الثاني الآن، وقد بدأ المناخ يتغير. لم تعد هناك نهارات مشمسة حارة تفقع الجلد. أحيانا يتساقط المطر. كنت قد حجزت لرحلة العودة إلى الوطن. إنني أحس بالأسف وأنا أغادر بغداد. ولكن ليس أسفا شديدا لأنني قد وضعت خططي للعودة إليها ثانية. أشار آل (وولي) عرضا إلى أني قد أرغب في زيارتهم في العام القادم وربما أسافر معهم في جزء من طريق العودة إلى الوطن. كما وجهت لي أيضا دعوات أخرى شجعوني لتلبيتها.

 

في الطريق إلى الوطن

حل أخيرا اليوم الذي ركبت فيه مرة أخرى سيارة ال(سكس ويل). هذه المرة كنت أكثر حذرا في حجز مقعد قرب مقدمة الباص كي لا تتكرر الفضيحة ثانية. وحالما انطلق بنا الباص تعرفت على أحد (مقالب) الصحراء. سقط المطر، وكما هو معتاد في هذا البلد، فإن موعد السفر يبدأ الساعة الثامنة والنصف صباحا. خلال ساعات تحولت الأرض إلى مستنقع من الوحل. عند كل خطوة تقوم بها، تلتصق بقدمك كمية كبيرة من الطين ربما تزن عشرين رطلا. اما بالنسبة لسيارة ال(سكس ويل) فإنها ظلت تنزلق دون توقف، انحرفت ثم انغرزت في النهاية. نزل السائقان أخرجا المجارف، وضعا الواحا خشبية تحت العجلات وبدأت عملية اخراج السيارة المغروزة في الطين. بعد أربعين دقيقة أو ساعة من العمل المتواصل جرت المحاولة الأولى. اهتز الباص، ارتفع قليلا ثم ارتد إلى موضعه الأول. أخيرا، والمطر قد ازداد عنفا، كان علينا أن نعود إلى بغداد مرة ثانية. محاولتنا في اليوم التالي كانت أفضل. لجأنا إلى المجارف مرة أو اثنتين كي نشق طريقنا عبر الأرض الموحلة. ولكننا أخيرا اجتزنا الرمادي. وعندما وصلنا حصن مدينة الرطبة، أصبحنا في وسط الصحراء ولم تعد هناك أية مصاعب في الطريق.

 

العودة إلى العراق

سافرت هذه المرة إلى بيروت بالقارب (لويد ترستينو). قضيت بضعة أيام هناك ثم أخذت إحدى سيارات شركة نيرن المتوجهة إلى بغداد عبر الصحراء. كان البحر عاصفا طوال الرحلة من الاسكندرية الى بيروت، ولم أكن أشعر على ما يرام. لاحظت وجود امرأة أخرى على القارب تدعى (سيبيل بيرنيت)، أخبرتني فيما بعد أن حالتها كانت سيئة أيضا خلال ذلك الجو المضطرب. نظرتْ نحوي وفكرتْ: تلك المرأة من أكثر النساء المزعجات اللواتي رأيتهن في حياتي. في ذات الوقت، كانت أفكاري تأخذ الاتجاه نفسه عنها. قلت لنفسي: أنا لا أحب تلك المرأة. لا أحب القبعة التي ترتديها أو حتى جواربها ذات اللون البني الفاتح الشبيه بلون ثمرة الفطر.

في هذا المد المشترك من الكراهية سافرنا معا عبر الصحراء. أصبحنا صديقتين على الفور تقريبا، وبقينا كذلك لسنوات عديدة. سيبيل – وعادة يطلق عليها اسم (بوف) هي زوجة السير تشارلز بيرنيت نائب مارشال الجو، وكانت في طريقها للالتحاق بزوجها. امرأة أصيلة، تقول ما يخطر في رأسها، تحب السفر والأماكن الغريبة، لديها بيت جميل في الجزائر، وعندها أربع بنات وولدان من زواج سابق. حبها لمتع الحياة لا ينفد ولا ينتهي عند حدود. كانت معنا مجموعة من السيدات (الأنكلو-كاثوليك) متوجهات إلى العراق كي يقمن بجولة بين أماكن العبادة المسيحية هناك، وكانت مس ولبراهام، المسئولة عنهن، امرأة ذات نظرات قاسية جدا، قدماها ضخمتان في حذاء أسود مسطح، وترتدي قبعة ضخمة. قالت سيبيل أن مس ولبراهام تبدو كالخنفساء، فأيدتها في ذلك. إنها من نوع النساء اللواتي يميل المرء إلى معارضتهن في كل شيء، وقد فعلت سيبيل بيرنيت ذلك في الحال.

كان آل (وولي) قد وضعوا لي خطة رائعة: أن أحضر إلى أور قبل نهاية الموسم بأسبوع، عندها سيحزمون حاجاتهم ونرحل في طريق العودة عبر سوريا إلى اليونان. وفي اليونان أذهب معهم إلى (دلفي). كنت فرحة جدا بهذا المشروع.

 

آل (وولي) والعالم الآثاري ماكس مالوان

وصلت أور وسط عاصفة رملية. سبق أن قاسيت من عاصفة رملية في زيارتي السابقة. إلا أنها هذه المرة كانت أسوأ بكثير وقد استمرت أربعة أو خمسة أيام. لم أكن أعرف قط أن للرمل القدرة على النفاذ إلى هذا الحد. وعلى الرغم من أن النوافذ كانت مغلقة وكذلك الحاجز السلكي المانع للبعوض، فإن الفراش يكون مغطى بالرمل عند الليل. تنفضه وتندس فيه، وفي الصباح تجد طبقات من الرمل على وجهك ورقبتك وفي كل مكان. كانت خمسة أيام من العذاب. على أية حال، فقد قضينا الوقت بأحاديث شائقة، والجميع كانوا ودودين معي، فاستمتعت بوقتي كثيرا.

كان هناك الأب باورز، والمهندس ويتبرن. وكان موجودا هذه المرة ماكس مالوان مساعد ليونارد وولي. ومالوان يعمل مع وولي منذ خمس سنوات، لكنه كان غائبا في العام الماضي. كان شابا نحيفا، أسود الشعر، شديد الهدوء، قلما يتكلم، لكنه كان فطنا مدركا للأمور التي تطلب منه.

لاحظت هذه المرة شيئا لم أفطن له في زيارتي السابقة. صمت الجميع غير الاعتيادي على المائدة كما لو كانوا يخشون الكلام. بعد يوم أو اثنين بدأت أتبين السبب. كاثرين وولي امرأة مزاجية لديها القدرة إما على خلق حالة الارتياح لدى الناس أو تعكير مزاجهم. لاحظت أيضا أن الجميع يقومون على خدمتها ويتفانون في ذلك: دائما يوجد شخص ما يقدم لها المزيد من الحليب مع القهوة أو الزبد للخبز المحمص أو ليناولها المربى وهكذا. تساءلت لماذا يا ترى الجميع مرعوبون منها..؟

في صباح ما عندما كانت كاثرين في حالة نفسية سيئة جدا، بدأت أكتشف أمورا أخرى.

- لا أظن أن أحدا منكم سيقدم لي الملح.

وعلى الفور امتدت أربعة أيدٍ عبر المائدة كي تناولها الملح، وأوشكت – تلك الأيدي- أن تقلبه. خيمت حالة من التردد، بعدها اندفع السيد ويتبيرن بقامته إلى الأمام ليقدم لها المزيد من الخبز المحمص.

- ألا ترى أن فمي مملوء يا سيد ويتبيرن ؟

كان ذلك هو الرد الوحيد الذي حصل عليه. عاد إلى مقعده محمرا من الارتباك. وأكل الجميع الخبز المحمص بنهم قبل أن يقدموا لها شيئا منه ثانية، لكنها رفضت. ثم قالت:

- ولكني أعتقد حقا أنه ينبغي ألا تأتوا على الخبز كله قبل أن ينال ماكس قطعة منه.

نظرتُ إلى ماكس. قدموا له القطعة المتبقية من الخبز المحمص فأخذها بسرعة دون اعتراض. لقد تناول قطعتين حتى الآن وإني لأتساءل لماذا لم يقل ذلك. ومرة أخرى كان يجب أن أدرك أمورا أكثر فيما بعد.

أطلعني السيد ويتبيرن بعضا من هذه الألغاز:

- وكما ترين، هنالك دائما شخص تفضله على الآخرين.

- السيدة وولي؟

- أجل، ويتغيرون كما تعرفين. اليوم هذا الشخص، وبعد حين يأتي غيره. أعني إما أن يكون كل شيء تؤدينه خطأ أو على صواب. في الوقت الحاضر أنا من المنبوذين.

واضح أن ماكس مالوان هو الشخص الذي يؤدي الأشياء بصورة صائبة. ربما لأنه كان غائبا في الموسم الماضي لذلك فهو يملك من الحداثة والإثارة أكثر من الآخرين. إلا إنني أعتقد أن السبب يعود إلى خبرة السنوات الخمس التي علمته كيف يتعامل مع آل (وولي). إنه يعرف متى يلزم الصمت ومتى يتكلم.

أدركت بعدها كم هو جيد في قيادة الآخرين. كان يدير العمل بشكل جيد. والأصعب من ذلك قدرته على التأثير في كاثرين وولي، التي عادة ما تقول:

- بالطبع، ماكس هو المساعد الأمثل. لا أدري ماذا كنا فعلنا بدونه كل هذه السنين. أعتقد أنك ستحبينه كثيرا. سوف أرسله معك إلى النجف وكربلاء. النجف هي مدينة الموتى المقدسة عند المسلمين، وكربلاء فيها جامع رائع جدا. لذلك عندما نحزم حاجياتنا ونذهب إلى بغداد، سوف يأخذك ماكس إلى هناك. بإمكانك أن تشاهدي (نفَّر) أيضا.

قلت:

- ولكن ألا يريد هو أيضا أن يذهب إلى بغداد؟ أعني، ربما لديه أصدقاء هناك يود رؤيتهم قبل أن يسافر إلى الوطن.

فزعتُ من فكرة إرسالي مع شاب من المحتمل أنه يتوق إلى الحرية وبعض اللهو في بغداد بعد موسم ثلاثة أشهر من العمل المضني في أور. قالت كاثرين بإصرار:

- لا، سيفرح ماكس لذلك.

لم أكن أصدق أن ماكس سيفرح للأمر، برغم أنه دون شك سيلجأ إلى إخفاء الحقيقة. شعرت بعدم الارتياح. كنت أعتبر ويتبيرن صديقا لي فتحدثت معه في الأمر.

_ استبداد، ألا ترى ذلك؟ إني أكره ممارسة هذا النوع من الأفعال. أتظن أني أستطيع أن أقول لهم إني لا أرغب في رؤية النجف وكربلاء.؟

لكن ويتبيرن أجابني قائلا:

- ينبغي أن تشاهديهما. كل شيء سيكون على ما يرام. ماكس لن يبالي، على أية حال، فإن كاثرين إذا اتخذت قرارا فلابد أن ينفذ.

أدركت الأمر، فغمرني إعجاب شديد بهذه المرأة. كم رائع أن تكون المرأة من هذا النوع، فهي حالما تتخذ قرارا ما فإن الجميع يندفعون للتأييد.

- ليس عن حقد أو كراهية بل باعتباره أمرا مفروغا منه.

أتذكر لي حديثا بعد شهور مع كاثرين عن زوجها (لن) قلت:

- يا للروعة، كم هو بعيد عن الأنانية عندما ينهض ليلا كي يصنع لك حساء ساخنا.

نظرت كاثرين نحوي باندهاش وقالت:

- حقا؟ لكن (لن) يعتقد أن هذا امتياز له.

نعم فهو يعتبره امتيازا له. في الحقيقة كل الأشياء التي يؤديها المرء لكاثرين يشعر للحظة أنه قد منح امتيازا. وطبيعي، عندما تصل البيت ومعك الكتابان اللذان جلبتهما معك من المكتبة وتتطلع لقراءتهما، أن تقدمهما لكاثرين بامتنان وتقول وأنت تتنهد بأن ليس لديها ما تقرأه. تدرك بعدها بأنك أمام امرأة غريبة الأطوار.

الناس الاستثنائيون لم يقعوا تحت سيطرة كاثرين. إحداهن على ما أذكر هي فريا ستارك. وكانت تنزل معهم. امرأة قوية الشخصية، مرحة، قالت لكاثرين:

- عزيزتي، أرى أنك متوعكة قليلا، أنا لا أفهم في الأمراض، ولكن لعل أفضل شيء أقترحه عليك هو الخروج للنزهة.

وفعلت كاثرين بنصيحتها ولم تغتظ منها. كان أمرا مثيرا للغرابة حقا. كاثرين تعتقد أنه مجرد مثال رائع على قوة الشخصية التي تمتلكها، وكان ذلك واضحا بالتأكيد.

ونعود لماكس. يبدو أن الجميع متفقون أنه ينبغي لهذا الشاب، الذي استغرقه العمل المضني في الحفريات ويوشك الآن أن ينال أجازته، أن يضحي وينطلق إلى المجهول مع امرأة غريبة أكبر منه بعدد غير قليل من السنين، التي لا تعرف إلا القليل عن الآثار كي يطلعها على بعض معالم هذا البلد. كان ماكس يعده أمرا مفروغا منه. كان شابا وقورا، وكنت متضايقة منه بعض الشيء. تساءلت فيما لو كان علي أن أظهر بعض الاعتذار. تلعثمت بعبارة أردت من ورائها أن أوضح لماكس بأنني لست من اقترح هذه الرحلة، ولكنه لم يأبه للأمر قط. قال أنه ليس لديه شيء خاص يفعله، فهو سيقطع طريق العودة إلى وطنه على مراحل. سيسافر مع آل (وولي) ويفترق عنهم في دلفي كي يذهب لمشاهدة معبد باساي ومناطق أخرى في اليونان. وأضاف مؤكدا بأنه سوف يستمتع كثيرا بذهابه إلى (نفر) Nippur ذلك المكان المثير الذي يفضل دائما أن يذهب إليه، كذلك النجف وكربلاء فهي جديرة بالمشاهدة.

 

مأدبة عشاء في الديوانية

حل أخيرا اليوم الذي سافرنا فيه. استمتعت كثيرا بالوقت الذي قضيته في (نفر) برغم أن السفر كان مرهقا جدا. ظلت السيارة ولساعات طوال تسير فوق أرض غير مستوية، ومشينا في أرجاء ما كان يبدو فدادين من المناطق الأثرية. ولا أعتقد أني كنت سأجده (المكان) ممتعا لو لم يكن معي ماكس يشرح لي كل شيء. أصبحت أكثر ولعا بالآثار والحفريات.

أخيرا، في تمام الساعة السابعة مساء وصلنا مدينة الديوانية حيث سنقضي الليلة مع آل (ديتشبيرن). كنت أترنح فوق قدمي من الإجهاد، أتلهف شوقا للفراش، ولكن لسبب أو آخر مشطت شعري مزيلة الرمل عنه، غسلت وجهي، وضعت قليلا من المكياج وارتديت ثوبا للسهرة.

السيدة ديتشبيرن تحب تسلية ضيوفها. متحدثة لبقة، في الحقيقة لا تتوقف عن التحدث بصوتها المفعم بالبهجة. تم تقديمي إلى زوجها الذي أجلسوني إلى جنبه. كان رجلا هادئا، وهذا متوقع فقد ظل طول الوقت غارقا في صمته. أبديت بعض الملاحظات العابرة عن مشاهداتي لكنه لم يعلق على أي منها. على الجانب الآخر جلس إلى جانبي مبشر أمريكي. هو الآخر أيضا كان قليل الكلام. عندما نظرت جانبا إليه لاحظت أن يديه كانتا تتلويان إذ تمزقان منديلا إلى قطع صغيرة. كان ذلك نذير خطر. تساءلت عن السبب. كانت زوجته وقد جلست قبالته عبر المائدة في حالة انفعالية شديدة.

كانت أمسية غريبة. السيدة ديتشبيرن في ذروة تحلقها الاجتماعي، جعلت تثرثر مع الجميع. ردود ماكس اتصفت بالحكمة والتعقل. المبشران – الرجل وزوجته – ظلا مربوطي اللسان، الزوجة تراقب زوجها بيأس، والزوج مسترسل في تمزيق المنديل إلى قطع أصغر فأصغر.

في حلم يقظة مثير، خطرت لي أفكار عن قصة بوليسية رائعة. مبشر يصاب تدريجيا بحالة توتر انفعالي شديد. مم يا ترى؟ من شيء ما، على كل حال، فحيثما يكون، فإن المناديل الممزقة المتحولة إلى قطع صغيرة تمنحنا مفاتيح كل الألغاز، حلول، مناديل، القطع الصغيرة، وتدور الغرفة بي، أوشكت أن أنزلق من مقعدي في أثناء تلك الإغفاءة. في هذه اللحظة خرق أذني اليسرى صوت حاد.

- كل الآثاريين كذابون.

قال السيد ديتشبيرن بنوع من غل دفين. استيقظت. فكرت به وبعبارته. كان قد رماها بوجهي متحديا. لم أشعر بأن لدي القدرة للدفاع عن صدق الآثاريين. لذلك قلت بلطف:

- لماذا تعتقد أنهم كذابون؟ عم يكذبون يا ترى؟

قال السيد ديتشبيرن:

- كل شيء، كل شيء. يقولون بأنهم يعرفون تواريخ الأشياء، ومتى وقعت – فهذا عمره 7000 سنة، وذاك 3000 سنة، وهذا الملك حكم في هذه الفترة، بينما حكم الملك الآخر في فترة تالية. كذابون، جميعهم كذابون.

قلت:

- بالتأكيد لا يمكن أن يكون الأمر كذلك.

- لا يمكن؟

أطلق السيد ديتشبيرن ضحكة ساخرة ثم ارتد إلى الصمت.

تحدثت قليلا مع المبشر. ولكنه ظل على حاله ولم ينطق إلا بالقليل من الكلمات. بعدها كسر السيد ديتشبيرن الصمت ثانية ليكشف بالمصادفة عن السبب المحتمل لحقده على الآثاريين:

- كالمعتاد، يجب أن أتخلى عن غرفتي لهذا الآثاري الشاب.

قلت بعدم ارتياح:

- أوه، إني آسفة جدا، لم أدرك...

- هذا يحدث في كل مرة، دائما تفعل ذلك، تدعو شخصا ما أو آخر ينزل عندنا. لا، ليس أنت. ستحصلين على إحدى غرف الضيوف. لدينا ثلاث منها. ولكن هذا لا يكفي (الزي). لا، فهي دائما تملأ كل الغرف لتأتي أخيرا وتأخذ غرفتي. لا أدري كيف يمكنني احتمال ذلك.

بعد العشاء التمست منهم أن يسمحوا لي بالذهاب إلى الفراش. كانت خيبة السيدة ديتشبيرن كبيرة، لأنها كانت قد رتبت الأمور من أجل أن نلعب (البريدج)، ولكن عيني كانتا منغلقتين عندها، ربما كان بإمكاني فقط أن أتعثر عبر السلالم، أخلع عني الملابس، وارتمي في السرير.

كررت أسفي. كنت في حالة من عدم الارتياح، ولكن مرة أخرى حاولت أن أوجه كل قواي للبقاء في حالة من اليقظة.

 

زيارة النجف وكربلاء

غادرنا في الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي. الرحلات التي قمت بها داخل العراق كانت مقدمة لنوع شاق من الحياة. زرنا مدينة النجف: مكان رائع، مقبرة عظيمة، مدينة الموتى حيث النسوة المسلمات المحجبات بأرديتهن السود وهن ينحبن ويتجولن في أطراف المدينة. والمكان مرتع للمتطرفين، وليس بالإمكان زيارتها في كل الأوقات. عليك أن تعلم الشرطة أولا، وهم سوف يتولون مهمة مراقبة المتعصبين وتجنب وقوع الإساءات.

ومن النجف ذهبنا إلى كربلاء. في كربلاء يوجد جامع جميل بقبة مغطاة بالذهب والفيروز. كان أول جامع أراه عن قرب. قضينا الليلة هناك في دائرة الشرطة. فتحوا الفراش الملفوف الذي أعارتني إياه كاثرين في إحدى الزنزانات الصغيرة لأنام عليه. هيأوا لماكس فراشا في زنزانة أخرى، الذي أكد لي أن بإمكاني أن أطلب مساعدته في أثناء الليل. طوال نشأتي الفيكتورية كنت أعده أمرا غريبا أن أوقظ شابا لا أعرفه تماما كي أسأله أن يقودني إلى التواليت، ولكنه في تلك اللحظة بدا أمرا طبيعيا. أيقظت ماكس الذي استدعى شرطيا. جلب الشرطي معه فانوسا، وسرنا ثلاثتنا بتثاقل على امتداد ممرات طويلة. وصلنا أخيرا إلى غرفة فيها حفرة في الأرض ذات رائحة كريهة. انتظر ماكس والشرطي بأدب عند الباب كي يعودا بي ثانية إلى الفراش.

تناولنا طعام العشاء في دائرة الشرطة على منضدة في الخارج، حيث القمر فوق رؤوسنا، ونقيق الضفادع الموسيقي المتواصل برتابة. بعدها كنت كلما سمعت نقيقا للضفادع أتذكر كربلاء وهذه الأمسية. جلس الشرطي معنا، وكان من حين لآخر يقول بضع كلمات بالانجليزية، ولكنه كان في معظم الأوقات يتحدث بالعربية مع ماكس الذي كان أحيانا يترجم الكلمات الموجهة إلي. بعد إحدى فترات الصمت المنعشة للذاكرة التي هي إحدى أشكال الاتصال الشرقية التي تتوافق مع مشاعر المرء، بدد رفيقنا الشرطي الصمت فجأة ليقول:

مرحى لكِ

أيتها الروح المرحة،

لم تكوني طيرا قط..

نظرت إليه باندهاش. تابع الشرطي إلقاء القصيدة. قال أخيرا:

- تعلمت ذلك جيدا.

قلت:

- جيد جدا.

ويبدو أن ذلك قد أنهى هذا الجزء من الحديث. لم أتخيل نفسي قط أن أقطع كل هذا الطريق إلى العراق كي أسمع قصيدة شيللي (القبرة) يلقيها علي شرطي عراقي في حديقة شرقية عند منتصف الليل.

تناولنا إفطارنا مبكرين في الصباح التالي. كان هناك بستاني يقطع بعض الزهور. تقدم منا وهو يحمل باقة من هذه الورود. وقفت مترقبة، وأنا أتهيأ للابتسام بلطف. ولكن الذي حدث وأثارني بعض الشيء أن البستاني تجاوزني دون أن يلمحني متوجها إلى ماكس ليسلمه الباقة وهو ينحني له باحترام كبير. ضحك ماكس وهو يوضح لي بأننا الآن في الشرق حيث التكريم من نصيب الرجال وليس النساء.

 

حصن الأخيضر وعين تمر

انطلقنا ثانية ونحن محملون بحاجياتنا وتجهيزاتنا. توجهنا في طريق العودة إلى بغداد لزيارة مدينة الأخيضر العربية. وتقع هذه المدينة بعيدا في الصحراء. كان المشهد على امتداد الطريق رتيبا، ولتزجية الوقت كنا نلجأ إلى الغناء، فغنينا كل الأدوار والأغاني التي نعرفها ونحفظها بدءا ب Frere Jacques وانتهاء بمختلف القصائد والأغاني الفولكلورية.

شاهدنا الأخيضر، رائع في توحده. بعد ساعة أو ساعتين من مغادرتنا لحصن الأخيضر وصلنا إلى بحيرة في قلب الصحراء ذات ماء صاف أزرق لألاء، وكان حارا، فاشتقت على الاستحمام. سالني ماكس:

- هل ترغبين حقا في ذلك؟ لا أرى سببا يمنعك عنه.

نظرت بتأمل إلى فراشي الملفوف والحقيبة الصغيرة

- هل أستطيع حقا؟ ولكن ليس معي ثوب للسباحة.

قال ماكس بلطف:

- أليس لديك شيء ما – أي شيء – يصلح لذلك؟

فكرت في الأمر، وفي النهاية ارتديت قميصا ورديا من الحرير وزوجا مضاعفا من الألبسة الداخلية. كنت جاهزة للعوم. السائق الذي كان نموذجا للأدب والرقة، كما هم في الحقيقة كل العرب، انسحب بعيدا عنا. أما ماكس فشاركني في السباحة في الماء الأزرق وهو يرتدي الفانيلة واللباس الداخلي.

إنها الجنة، كان العالم يبدو متكاملا أو هكذا بدا في الأقل حتى شرعنا بتشغيل السيارة مرة أخرى – غاصت في الرمل ولم تتحرك، فأدركت عندئذ بعضا من مخاطر السفر في الصحراء. أخرج ماكس والسائق سلاسل ومجارف وأشياء أخرى متنوعة. حاولا أن يحررا السيارة، ولكن دون نجاح. كان الجو شديد الحرارة، فاضطجعت في ظل السيارة أو ما قد يكون ظلا عند أحد جانبيها واستغرقت في النوم.

أخبرني ماكس فيما بعد، سواء كان صادقا أو لا، بأنه في تلك اللحظة قرر بأنني سأكون زوجة رائعة له.

قال ماكس:

- لم تنفعلي، لم تشتكي ولم تلوميني أو تقولي بأننا ما كان يجب أن نقف هناك. لم تأبهي للأمر قط. في الحقيقة عندها بدأت أفكر بأنك كنت رائعة.

ومنذ أن قال ذلك حاولت أن أحيا بمقتضى السمعة التي كونتها لنفسي. إنني معتادة على تقبل الأمور على حالها ولست من النوع الذي ينفعل بسهولة. كما لدي القدرة على الاستغراق في النوم في أية لحظة ولا يهم المكان على الإطلاق.

كنا خارج طريق القوافل ومن المحتمل ألا تمر سيارة أو أي شيء آخر قبل أيام. كان معنا حارس. أحد حراس قوافل الجمال، أخيرا قال إنه سوف يذهب ليطلب النجدة مفترضا أن يعود خلال أربع وعشرين ساعة أو في كل الأحوال خلال ثمان وأربعين ساعة.

ترك لنا ما لديه من ماء وهو يقول بنوع من الكبرياء:

- نحن رجال الصحراء لا نحتاج إلى الماء في حالات الطوارئ.

ثم تحرك مبتعدا وهو منتصب القامة شامخ الرأس. نظرت إليه بشيء من التوجس. كانت مغامرة، ولكني كنت آمل أن تكون نهايتها سعيدة. كانت كمية الماء قليلة، وفكرة عدم تناول الماء كانت تصيبني بالعطش. على أية حال فقد كنا محظوظين حقا. حدثت المعجزة. بعد ساعة واحدة ظهرت في الأفق سيارة فورد بأربعة عشر راكبا ويجلس إلى جانب السائق صديقنا رجل الصحراء وهو يلوح ببندقيته.

بين حين وآخر في أثناء رحلة العودة إلى بغداد كنا نتوقف لمشاهدة (التلال)، نتجول حولها ونلتقط قطع الفخار. كانت تسحرني تلك القطع المطلية بمركبات الزجاج، تلك الألوان المشعة، كالأخضر والفيروزي والأزرق والذهبي. وهذه الفخاريات تعود لفترة متأخرة كثيرا مقارنة بالفترة التي يعنى ماكس بدراستها. ولكنه كان كثير التسامح مع رغباتي. فجمعنا حقيبة كبيرة من قطع أواني الفخار.

 

في شمال العراق

بعد أن وصلنا إلى بغداد، وعدت إلى فندقي، نشرت معطفي المطري، غطست قطع الفخار في الماء، ثم قمت بترتيبها في نسق لوني متلألئ، لم يحاول ماكس أن يعترض على نزوتي، بل على العكس، هيأ معطفه المطري وأضاف أربعة قطع أخرى من الفخار إلى المجموعة. فاجأته وهو ينظر نحوي بإشفاق مثل أستاذ ضليع ينظر إلى طفل غرير أحمق. في الحقيقة هكذا كان سلوك ماكس اتجاهي حينئذ. أحببت دائما هذه الأشياء، كقواقع البحر والأحجار الصغيرة الملونة وكل الكنوز الغريبة التي يلتقطها المرء في طفولته: ريشة طير براقة أو ورقة متعددة الألوان. هذه الأشياء، أشعر أحيانا، بأنها هي كنوز الحياة الحقيقية، والمرء يستمتع بها أكثر من الأحجار الكريمة والزمرد وصناديق (فابرجيه) الصغيرة الثمينة.

كان كاثرين ولن قد وصلا بغداد وهما مستاءان منا لأننا وصلنا متأخرين بأربع وعشرين ساعة، والسبب بطبيعة الحال هو ذهابنا على الأخيضر. لم يلمني أحد على ذلك باعتباري مجرد رزمة محمولة أخذوها إلى أماكن لا تعرف عنها شيئا.

قالت كاثرين:

- كان ينبغي لماكس أن يعرف بأننا سوف نقلق عليكما. ربما كنا بعثنا فريقا للبحث عنكما أو ارتكاب شيء سخيف.

كرر ماكس بصبر أسفه، مؤكدا بأن هذا الأمر لم يخطر في باله.

بعد يومين غادرنا بغداد بالقطار إلى كركوك ومنها إلى الموصل. وتلك كانت أولى خطواتنا في رحلة العودة إلى الوطن. حضر صديقي الكولونيل دوير إلى محطة شمال بغداد كي يودعنا. قال لي هامسا:

- عليك أن تحافظي على استقلاليتك.

- استقلاليتي؟ ماذا تعني؟

قال وهو يشير برأسه ناحية كاثرين وولي التي كانت منشغلة بالتحدث إلى أحد الأصدقاء

- بوجود صاحبة السمو..

- ولكنها كانت لطيفة جدا معي.

- أوه نعم. أرى أنك تحت تأثير فتنتها. كلنا وقعنا تحت هذا التأثير من وقت لآخر. وللأمانة أنا لا أزال أسير الفتنة. تلك المرأة تستطيع أن تبعث بي أينما تشاء، وفي أي وقت تريد. ولكن، برغم كل شيء عليك أن تحافظي على استقلاليتك. يمكنها أن تسحر الطيور على الأشجار وتجعلها تحس أن الأمر طبيعي جدا.

كان القطار يطلق صفيرا أشبه بالعويل. وهذا الصفير يميز القطارات العراقية عن غيرها. كان صفيرا حادا، ثاقبا، مثيرا للوحشة، ربما امرأة فقدت حبيبها تستطيع أن تعطي التعبير المناسب. على كل حال، لم يكن في الأمر شيء رومانسي: مجرد قاطرة تتهيأ للانطلاق. صعدنا إلى أماكننا، شاركت كاثرين في كابينة، ماكس ولن في أخرى، وتحرك بنا القطار.

وصلنا كركوك في صباح اليوم التالي. تناولنا الإفطار في دار الاستراحة. بعدها ركبنا السيارة إلى الموصل. في تلك الفترة كنا نستغرق وقتا يتراوح من ست إلى ثماني ساعات في قطع الطريق المليء بالحفر والأخاديد، إضافة إلى عبور نهر الزاب بالقارب. كان قاربا بدائيا يشعر المرء عند ركوبه بهذا القارب بارتداد إلى أعماق سحيقة في التاريخ.

في الموصل أيضا نزلنا في دار الاستراحة، كان في هذه الدار حديقة ساحرة، والموصل هي المدينة التي سوف أعيش فيها سنوات عديدة في المستقبل، ولكن حينها لم تترك هذه المدينة في نفسي أثرا يذكر، ربما لأنني لم أستطلع إلا القليل من معالمها.

التقيت في الموصل الدكتور ماكلويد وزوجته. كانا يديران المستشفى هناك. وسوف يصبحان من الأصدقاء المقربين لي. كان كلاهما طبيب. فبينما بيتر ماكلويد هو المسؤول عن المستشفى كانت ( بكي) مساعدة في إجراء بعض العمليات من وقت لآخر. وكانت هذه العمليات تنفذ بأسلوب غريب لأنه غير مسموح لبيتر أن يرى أو يلمس المريضات العراقيات. من المستحيل أن تجرى عملية لامرأة مسلمة من قبل رجل حتى لو كان هذا الرجل طبيبا. أظن أن ستارة أو حاجز يوضع فيقف الدكتور ماكلويد خلف الستارة، بينما تكون زوجته إلى جانب المريضة، فيوجهها كيف تؤدي عملها، وهي بدورها تصف له حالة الأعضاء وبقية التفاصيل الأخرى.

بعد يومين أو ثلاثة أيام قضيناها في الموصل، انطلقنا ثانية. قضينا ليلة في دار الاستراحة في تلعفر التي تبعد بحوالي ساعتين عن الموصل. في الخامسة من صباح اليوم التالي ركبنا السيارة في رحلة طويلة عبر البلاد. زرنا بعض المواقع الفرات، وغادرنا إلى الشمال بحثا عن صديق لن (بصراوي) الذي كان شيخا لإحدى القبائل هناك. وبعد أن عبرنا عددا كبيرا من الوديان، فقدنا الطريق ثم عدنا إليه، ووصلنا أخيرا مع حلول المساء. كان الترحيب بنا كبيرا. وأقيمت لنا وليمة فاخرة. أخيرا ذهبنا إلى النوم. كانت هنالك غرفتان متداعيتان في بيت طيني، وقد خصصت لنا هاتان الغرفتان المجهزتان بأسرة حديدية. إحدى هاتين الغرفتين كانت بسرير في الزاوية وسقف جيد..أي إن الماء لا يرشح من خلاله أو يتساقط على السرير. كان بإمكاننا ملاحظة تلك الظاهرة لأنها بدأت تمطر. السرير الآخر كان في زاوية معرضة للتيار إضافة إلى الكميات الكبيرة من الماء التي كانت تنهمر فوقه. ألقينا نظرة على الغرفة الأخرى. كانت أصغر حجما، وسقفها متداعيا. الأسرة أضيق والهواء والضوء شحيحين.

قال لن مخاطبا كاثرين:

- أرى أن تشغلا أنت وأجاثا الغرفة الأصغر ذات السريرين الجافين بينما نأخذ أنا وماكس الغرفة الأخرى.

قالت كاثرين:

- بل يجب أن آخذ الغرفة الأكبر والسرير الجيد، فأنا لن أتمكن من النوم إطلاقا والماء يتساقط فوق وجهي.

وتوجهت مباشرة إلى الزاوية المفضلة ووضعت أشياءها فوق السرير. قلت:

- أظن أن بإمكاني أن أسحب السرير قليلا كي أتجنب الماء.

قالت كاثرين:

- إنني في الحقيقة لا أرى لماذا يجب أن ترغم أجاثا على النوم في هذا السرير الرديء والماء يقطر فوقه. أحدكما يمكن أن ينام عليه. الآخر بإمكانه أن يذهب مع أجاثا في الغرفة الأخرى.

تم التفكير في هذا القتراح. نظرت كاثرين إلى (ماكس) و (لن) كي ترى أيهما سيكون أكثر فائدة لها، وأخيرا قررت اختيار (لن) وأرسلت ماكس كي يشاركني الغرفة الصغيرة. ربما مضيفنا فقط بدا مسرورا لهذا الترتيب – وقد علق على الأمر مستخدما عبارات فاحشة باللغة العربية موجها كلامه إلى (لن):

- خذ راحتك، خذوا راحتكم. توزعوا بالشكل الذي يعجبكم، وبالطريقة التي تسعد الرجل.

على أية حال، في الصباح لم يكن أحد منا سعيدا. استيقظت عند السادسة مساء وماء المطر ينهمر على وجهي. في الزاوية الأخرى، كان ماكس يواجه سيلا من المياه. سحب سريري بعيدا عن الفتحة التي يتسرب منها الماء، كما دفع سريره أيضا خارج الزاوية. لم يكن حال كاثرين بأحسن منا هي الأخرى أيضا. كان هناك شق في السقف فوق سريرها وقد تسربت منه المياه. تناولنا وجبة طعام ثم قمنا بجولة مع (بصراوي) في أرجاء إقطاعيته. بعدها واصلنا المسير مرة أخرى. كان الجو سيئا جدا. كانت بعض الوديان مليئة بالمياه ومن الصعوبة عبورها.

 

جولة في حلب

وصلنا حلب أخيرا، مبللين ومرهقين. نزلنا في فندق (البارون) حيث تم الترحيب بنا من قبل ابن صاحب الدار، (كوكو بارون). كان رأسه كبيرا مدورا، وجهه شاحب اللون، وعيناه سوداوين حزينتين. كنت أتوق إلى حمام ساخن، وقد اكتشفت أن الحمام يجمع بين الطرازين الشرقي والغربي. وقد حدث أن أدرت حنفية الماء الحار فاندفع كالعادة سحبا من الأبخرة التي أثارت في الرعب حتى الموت. حاولت غلقها دون جدوى، فاضطررت إلى الصراخ منادية ماكس كي ينجدني. حضر ماكس الذي قلل من كمية الماء المتدفق ثم طلب مني العودة إلى غرفتي، وهو سوف يدعوني بعد أن يهيئ الحمام كي أستمتع به. عدت إلى غرفتي وانتظرت زمنا طويلا ولكن لم يحدث شيء. أخيرا غادرت الغرفة ملتفة بالروب وقد ضممت الاسفنجة تحت ذراعي. كان باب الحمام مغلقا. في تلك اللحظة حضر ماكس. قلت متسائلة:

- ماذا حصل؟ أين الحمام؟

- أوه، كاثرين وولي في الداخل الآن.

- كاثرين؟ هل تركتها تأخذ حمامي الذي كنت تهيئه لي؟

- حسنا، أجل..كانت تريده.

نظر مباشرة في عيني. أدركت أنني أناضل ضد شيء ما شبيه بقوانين الميديين والفرس. حسنا، أعتقد أن هذا ظلم كبير. كنت أهيئ هذا الحمام. إنه حمامي. قال ماكس:

- نعم، أعرف ذلك، ولكن كاثرين أرادته.

عدت إلى غرفتي وأنا أتأمل كلمات الكولونيل دوير.

تأملت كلماته ثانية في اليوم التالي. كان المصباح المنضدي يسبب بعض الإزعاج لكاثرين. لم تكن على ما يرام. كانت تعاني من صداع شديد، ظلت راقدة في الفراش، هذه المرة عرضت عليها طواعية أن نتبادل المصابيح. حملته إلى غرفتها، ثبته لها ثم غادرت الغرفة. يبدو أنه كان هنالك نقصا في المصابيح، لذا توجب علي في الليلة التالية أن أقرأ على ضوء مصباح شحيح يتدلى من السقف. في اليوم التالي أحسست بشيء من السخط. قررت كاثرين أن تغير غرفتها بأخرى أقل صخبا. الغرفة الجديدة كانت مجهزة بمصباح منضدي جيد، ولكن كاثرين، برغم ذلك، لم تحاول أن تعيد لي مصباحي الذي أصبح ملكا لجماعة ثالثة. على كل حال، فإن كاثرين هي كاثرين، أن تتقبلها كما هي أو تتخلى عنها. قررت أن أبذل جهدا أكبر في المستقبل لحماية رغباتي ومتعي الخاصة.

في اليوم التالي، على الرغم من أن كاثرين لم تكن مصابة بالحمى، لكنها قالت بأنها في حال سيئة جدا. لم تكن تحتمل أن يقترب منها أحد.

- لو تبتعدوا عني جميعا، ابتعدوا عني واتركوني لوحدي. لا أحتمل دخولكم وخروجكم من غرفتي طوال النهار، وأنتم تضايقونني بأسئلتكم عن حاجاتي. لو أستطيع أن أنال بعض الهدوء دون أن يقترب أحد مني ربما شعرت ببعض التحسن عند المساء.

كنت أعرف كيف تشعر لأنه شبيه بشعوري عندما أكون مريضة. كنت أريد من الجميع أن يبتعدوا عني. إنه شعور الكلب الذي يزحف مبتعدا إلى زاوية ويأمل أن يتركوه دون مضايقة حتى تقع المعجزة ويسترجع أحاسيسه الطبيعية ثانية.

قال لن حائرا:

- لا أدري ماذا أفعل؟ حقا أنا لا أدري ما الذي يمكن أن أفعله من أجلها.

ولأنني كنت مولعة جدا ب (لن)، قلت مواسية:

- حسنا، أعتقد أنها تعرف بأن ما تحسه هو أفضل شيء لها. أظنها تريد أن تترك لوحدها. سأتركها حتى المساء ثم نرى إن كانت ستتحسن حالها.

وهكذا تم ترتيب الأمر. أنا وماكس خرجنا معا في زيارة استطلاعية إلى قلعة (سيمان) الصليبية، (لن) قال بأنه سوف يبقى في الفندق كي يكون قريبا من كاثرين لتلبية طلباتها.

انطلقنا أنا وماكس فرحين، وقد تحسن الجو كثيرا. كانت سفرة جميلة حقا. سرنا عبر تلال مغطاة بالشجيرات وشقائق النعمان الحمراء، وقد انتشرت قطعان الأغنام. عندما أصبح الطريق أكثر ارتفاعا بدأنا نشاهد قطعانا من الماعز الأسود وصغاره. أخيرا وصلنا قلعة (سيمان) وتناولنا غداءنا.

جلسنا هناك ننظر حوالينا. أخبرني ماكس أمورا أخرى عن نفسه وحياته والحظ الذي ساعده في الحصول على العمل مع ليونارد وولي حال مغادرته لمقاعد الدراسة في الجامعة. التقطنا بعض قطع الفخار هنا وهناك. أخيرا سلكنا طريق العودة والشمس تغيب.

وصلنا إلى البيت حيث المشاكل. كانت كاثرين شديدة الغضب على الطريقة التي خرجنا بها وتركناها وحدها. قلت:

- ولكنك قلت أنك أردت أن تكوني لوحدك.

- المرء يقول أشياء كثيرة عندما لا يكون على ما يرام. إن التفكير بالطريقة القاسية التي خرجتما بها أنت وماكس. أوه، حسنا، ربما الأمر مختلف بالنسبة لك لأنك لا تفهمين الأمور كما يجب، ولكن ماكس، ماكس الذي يعرفني جيدا، والذي يعرف بأنني قد أحتاج إلى شيء ما، يتركني ويخرج بهذا الشكل.

أغلقت عينيها وأضافت قائلة:

- يستحسن أن تتركاني الآن.

- هل بإمكاننا أن نجلب لك شيئا ما، أو نبقى معك؟

- لا، لا أريد شيئا منكما، إنني أتألم للأمر كثيرا. أما بالنسبة ل(لن) فإن سلوكه مشين جدا.

سألتها بنوع من الفضول:

- وما الذي فعله؟

- تركني هنا دون قطرة واحدة أشربها – لا ماء ولا ليمون. لا شيء بالمرة. كنت راقدة في السرير. عاجزة، وقد جف بلعومي عطشا.

- ألم يكن باستطاعتك أن تقرعي الجرس وتطلبي قليلا من الماء؟

كان خطأ مني أن أقول ذلك. نظرت كاثرين إلي بازدراء وقالت:

- أرى أنك لم تفهمي ما عنيت بكلامي.أن أعتقد بأن (لن) قاسي القلب هكذا، بالطبع لو أن امرأة كانت هنا لاختلف الأمر، واعتقدتْ هي بذلك.

لم نجرؤ على الاقتراب من كاثرين في الصباح، ولكنها كانت تتصرف بسلوك طبيعي تماما، وذا مزاج رائق. ابتسمت. كانت مسرورة لرؤيتنا، ممتنة منا على كل ما فعلناه من أجلها. صفحت عنا وكل شيء على ما يرام.

كانت امرأة رائعة حقا. بمرور السنين بدأت أفهمها. ولكن لم يكن بالإمكان التنبؤ مقدما بالمزاج الذي سوف تكون عليه. كان ينبغي – كما أعتقد – أن تكون فنانة عظيمة من نوع ما – مغنية أو ممثلة – عندئذ يصبح من الطبيعي تقبل مزاجها المتقلب. كانت فنانة: فقد قامت بنحت رأس للملكة (شبعاد) الذي عرض مزينا بالقلادة الذهبية الشهيرة ورداء الرأس.

صنعت أيضا تمثالا جيدا لرأس (حمودي) وآخر ل (ليونارد وولي) نفسه، ورأسا جميلا لصبي صغير، ولكنها لم تكن تثق بقدراتها الخاصة، ذات فطنة في دعوة الآخرين لمساعدتها، وفي تقبلها لآرائهم. ليونارد وولي مطيع لأوامرها، ينتظر دائما بين يديها وقدميها – كل ما يؤديه لها غير جيد. أعتقد أنها تحتقره قليلا بسبب سلوكه هذا. ربما امرأة أخر ستفعل الشيء ذاته. المرأة – أي امرأة – لا تحب الرجل أن يكون ممسحة للأرجل. و (لن) المستبد جدا في عمله في الحفريات كان كالزبدة بين يديها.

في صباح يوم أحد وقبل أن نغادر حلب، أخذني ماكس في جولة للاطلاع على مواقع وأماكن لعبادات مختلفة. كان التجوال مجهدا لي تماما.

ذهبنا حيث يسكن المارونيون، الكاثوليك السريان، الأرثوذكس الإغريق، النسطوريون، اليعاقبة وآخرون لا أتذكرهم الآن. بعضهم ما كنت ألقبهم ب (قسس البصل) لأنهم كانوا يضعون على رؤوسهم رداء مدورا شبيها بالبصل. وقد وجدت الأرثوذكس الإغريق أكثرهم إزعاجا عندما قاموا بفصلي بشدة عن ماكس وضموني مع بقية النسوة في جانب واحد من الكنيسة. شخص ما يدفع إلى داخل شيء ما شبيه بمربط فرس مع نوع من حبل يشد حوله ويعلق إلى الحائط. كان طقسا شديد الغموض، ومعظمه يجري خلف ستارة المذبح. أصوات كثيرة رنانة كانت تأتي من هناك كي تملأ أرجاء الكنيسة تصاحبها سحب البخور المتصاعدة، وكنا جميعا ننحني ثم نعتدل بقاماتنا وفي فترات معينة مفروضة. في الوقت المناسب استرجعني ماكس.

عندما استرجع حياتي، يبدو أن الأشياء التي كانت أكثر حيوية والتي تظل أكثر وضوحا في مخيلتي هي الأماكن التي زرتها في وقت ما – تجتاحني رعشة سعادة مفاجئة – شجرة، تل، بيت أبيض قائم في مكان ما..عند جدول، أو شكل تل في الأفق. أحيانا أحتاج إلى لحظة كي أتذكر أين ومتى، ومن ثم أسترجع الصورة بكل وضوحها.

نوريتش / انجلترا 1989

ملحوظة: سبق لهذه الترجمة أن نشرت في مجلة الثقافة الأجنبية (العراقية) – العدد الرابع / سنة 1989، تحت عنوان (ربيع ثان)

عن:

Agatha Christie an autobiography

Part VIII Second Spring pp. 394-417

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com