مقالات

المرأة .. حَجْبُ الوعي وتغييبُ الذات

الدكتور عامر الكفيشي

ما تزال إشكالية المرأة موضع لبْسٍ وإثارة في العقل والواقع الإسلاميين، على الرغم من مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على بزوغ فجر الإسلام الذي بوأ المرأة مكانة توازي مكانة الرجل؛ لتكون إنساناً صاحبَ رسالة وكياناً متعدد الأبعاد، يتحرّك بعقله ومشاعره ويخطط بإرادته وطاقاته؛ ليضيف شيئاً جديداً إلى الحياة بروح إبداعية متجدّدة، إذ إنَّ آيات القرآن الكريم تطالعنا بخطاب عربيّ مبين، يؤكّد وحدة المسؤولية الملقاة على عاتقي الرجل والمرأة في الحياة من دون تفريق بينهما، كما في قوله تعالى :

)وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(.

ويفهم ـ أيضاً ـ من النداءات القرآنية ((أيها الناس))، ((يا أيها الذين آمنوا)) أنّها موجهة إلى عموم الناس وإلى كلِّ المؤمنين من دون تفريق بين الرجلٍ أو المرأة.

 ومع ذلك ما يزال الحديث حول دور المرأة وأثرها في حركة الحياة موضع جدلٍ حادّ من وجهة نظر كثيرٍ من الإسلاميين، فهناك كثيرٌ من علامات الاستفهام تثار حول موقف المؤسسة الدينية من قضايا المرأة ولم تجد حتى الآن أجوبة محدّدة ومقنعة.

ما هو دور المرأة في مجالات الفكر والثقافة والتربية؟

ما هو نصيبها من التعليم والتقدّم العلمي؟ وهل بإمكانها ممارسة دورها وإبداء رأيها في ذلك؟

هل لها الحقّ في المشاركة السياسية واتخاذ القرارات الإدارية التي تتعلق بشؤون الحياة؟

 ما هي حقوقها السياسية والاجتماعية؟

هل يحقُّ لها المشاركة في حركة الاجتهاد وفي استنباط الأحكام الشرعية؟

 والسؤال الأهم، ما هو دورها في حركة النهوض الإسلامي وكيف؟

 

1ـ أساس المشكلة

يبدو من منظور تحليلي اجتماعي أنَّ مشكلة المرأة في الواقع الإسلامي تنطلق من نقطة أساسية تكمن في ((وصاية)) الرجل عليها، تلك الوصاية التي سلبته الوثوق بقدراتها على تحمّل مسؤولياتها في المواقع العملية التي تتصل بالرسالة والحياة والمجتمع بشكل عام، إذ تبقى المرأة في عين الرجل غير مؤهّلة في ممارسة دورها في حدود ثقافتها وقدراتها التي تملكها، كما هو الرجل في ذلك كلِّه، وتحوّلت هذه ((الوصاية)) عبر التاريخ إلى قمع واستبداد وتعسّف من قبل معظم المسلمين ضدّ المرأة، ما أفقدها شخصيتها ودورها في الحياة الاجتماعية.

ومن دون شكٍّ أنَّ هذه النظرة التي حجرت على المرأة دورها في نطاق خاص وهو نطاق البيت دون سواه وحرمتها من الانفتاح على كلِّ مناحي الحياة ـ هي نظرة بعيدة عن روح الإسلام تماماً ـ إذ إنَّ المرأة إنسانة تمتلك طاقات متنوّعة ومتحرّكة ـ كما هو الرجل ـ ينبغي بها أن تحرّكها بأجمعها في سبيل بناء الحياة على أساس الخلافة الربانية العامة، حيث قال تعالى: )إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً(.

هذه الخلافة التي تأخذ من كلِّ إنسان طاقته في إعمار الأرض، والمرأة لها المجال الواسع في الحركة العامة، وتستطيع أن تجيد أداء دورها بشكل ناجح إذا خرجت عن ذمّة هذه الوصاية، والتزمت بإعداد نفسها وتربيتها وفق أصول الإسلام، و فقهت المنهج الصحيح في العمل والبناء والتغيير، و أحسنت إدارة وقتها واستغلاله.

لذا فإنَّ أهمَّ ما شغل اهتمامات النهضويين من الإسلاميين وغيرهم في ((إشكالية المرأة)) منذ بداية حركة النهوض الإسلامي، هذه العناصر الثلاثة:

 

1- تعليم المرأة ـ تحرير المرأة ـ إصلاح المرأة

 استمر حضور هذه العناصر في أوساط النخب الفكرية والسياسية، والباحثين الإسلاميين المجددين والمحافظين بدرجات متفاوتة، ودارت مساجلات ومناقشات حادّة تبعاً لدرجة ((المحافظة)) أو((التجديد)) أو((الثورة)) في هذه الأوساط فكانت الأوساط العلمانية واليسارية تندفع نحو التحريض على التمرّد والثورة على الأوضاع القائمة في سبيل النهوض الحضاري والالتحاق بركب التقدّم الغربي، أمّا الأوساط الدينية فكانت تنادي من أجل بناء الأخلاق والمحافظة على معالم العفة والطهارة، وانعكست آثار ذلك على المستوى النظري في صورة كتابات إقناعية، وعلى المستوى العملي في صورة ((جمعيات نسائية)) مطلبيه محدّدة؛ قانونية لضمان حقوق المرأة؛ وعملية لتحقيق فعالياتها الذاتية والعامة.

بيد أنَّ المشكلة ظلت قائمة في عدم إفساح المجال الواسع أمام المرأة المسلمة؛ لتتعلم روح الإسلام وتتفهم مقاصده الحقيقية، وعدم إعطائها الحرية الكاملة الملتزمة؛ لتمارس دورها النهضوي إلى جانب أخيها الرجل في الحياة.

 

2ـ بعض الإسلاميين يغيّبون المرأة

 بعد أن طُرحت إشكالية المرأة بقوة في العصر الحديث ـ عصر بدء النهضة الإسلامية ـ وهو أمر لم يكن يحدث من قبل لولا التغيّرات التي طرأت على المنطقة الإسلامية، بعد هبوب رياح التغريب القادمة إليها من أوربا، وبعد أن حقَّق علماء الإسلام في هذا العصر قدراً كبيراً من الانفتاح على الجوانب الإنسانية والاجتماعية في قضايا المرأة إلاّ أن ذيول المشكلة مازالت قائمة من خلال مواقف بعض الإسلاميين الذين يُنكرون عليها أن تتمتّع بحقوقها السياسية والاجتماعية وبالتالي لم يفسحوا أمامها المجال في المشاركة بحركة النهوض الإسلامي بشكلٍ فعّال، وقد تجسّد ذلك أخيراّ عندما مُنعت المرأة من دخول المجالس النيابية في بعض البلدان الإسلامية.

يذكر الرئيس الإيراني الحالي ((محمد خاتمي)) مشيراً إلى ما حدث من تطورات فكرية واجتماعية كبيرة في إيران أنّه على الرغم من ذلك كلّه، وُجد من يتحدّث باسم الإسلام بضرورة إبقاء المرأة حبيسة البيت؛ لأنَّ حضورها في الحياة العامة يقود إلى الفساد، كما رفض بعضهم السماح لها بمواصلة دراساتها العليا، وعارضوا مشاركتها في النشاطات الاجتماعية، وقد حاول بعض العلماء المحترمين ـ بعد انتهاء الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي ـ إقناع الإمام الخميني بعدم السماح بمشاركة المرأة في انتخابات الدورة الثانية للمجلس وحرمانها من هذا الحقِّ إلاّ أنَّ الإمام واجه هذا التيّار بحزم ودافع عن حقِّ مشاركة المرأة في عضوية مجلس الشورى بقوّة.

 

3ـ إفرازات الواقع الاجتماعي

ما تعيشه المرأة من واقعٍ متدنٍ معقّدٍ اليوم في العالم الإسلامي غيبها عن دورها الفاعل في حركة النهوض الحضاري، هو جزءٌ من الواقع المتخلّف الذي عاشه المسلمون عبر التاريخ، ذلك الواقع الذي أورثهم نظرة تراجعية عن المرأة جعلتهم يسلكون معها سلوكاً بعيداً عن السلوك الإسلامي الصحيح، بفعل الموروثات الجاهلية التي رافقتهم منذ القديم التي ترفض استقبال ولادة الأنثى وتنظر إليها نظرة دونية، كما حكى القرآن الكريم ذلك عن بعض عرب الجاهلية في قوله تعالى:

 )وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58)يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِـكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّـــهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(.

وساهم في تعميق هذه النظرة الدونية إلى المرأة تعسّفُ كثيرٍ من الرجال في حقِّ المرأة وتعاملهم معها ككائن جنسي، لا يملك سوى الإثارة في نفس الرجل، فأصبح شعارهم في الحياة عدم خروج المرأة من البيت إلاّ في ((حفلة الزّفاف)) و((التشييع إلى القبر))، وتكرّست هذه النظرة بشيوع قراءات سلبية لبعض النصوص الدينية التي تتحدّث عن المرأة كجنس ضعيف، ناقص العقل، ناقص الدين وغير ذلك، مما أشار إلى المرأة بأن تتصور نفسها في الموقع الدوني إنسانياً، ما جعل المشكلة تتمركز في المرأة نفسها، حيث استمرأت وجودها داخل شرنقة التخلّف.

من ناحية أخرى لا يمكن استثناء المؤسسة الدينية من التأثر بضغوطات الواقع السلبي الموروث وانعكاسه لا شعورياً على قراءتها وفهمها النصوص الدينية وبالتالي على استنباط الأحكام الشرعية المتعلّقة بشؤون المرأة.

وعن هذه المسألة بالذات وطبيعة التعقيدات التي تشهدها قضية المرأة في العالم الإسلامي يرى السيد محمد حسين فضل الله أنّها تعقيدات ناتجة عن ((حركة الواقع السلبي في تعامله معها انطلاقاً من مفاهيم ضبابية ربما تتحدّث بشكل يشرّع للواقع مفاهيمه أو يحاول أن يستمد من الواقع إيحاءاته؛ ليكون التأويل في النصّ لمصلحة الواقع بدلاً من أن يكون الواقع حركة في اتجاه النصوص… من هنا فإننا نجد طبيعة الواقع في رواسبه وتخلّفه، تفرض نفسها على المفاهيم فيؤولها لمصلحته)).

ما ينبغي الحذر الشديد منه ـ أيضاً ـ في هذا المجال، تسويق شعار الحضارة الغربية المعاصرة بتحرير المرأة من خلال ((مساواتها بالرجل في كلِّ شيء))، فإنه ينطوي على فاجعة كبرى تتهدّد وجود المرأة وشخصيتها، فالدعوة إلى المساواة ـ بالمطلق ـ بين الرجل والمرأة تهدف إلى إخراج المرأة من أنوثتها كي تصبح ذكورة خالصة، تتقمّص مواقع الرجال وفروسيتهم وعنفهم؛ بل لتسترجل أكثر من الرجل، وفي ذلك تنكّرٌ لواقع المرأة وخصوصياتها وانتهاك لإنسانيتها وكرامتها؛ بل انقلاب شامل عليها، وهي نزعة تخريبية تدفع بالأسرة إلى التفكك والضياع، وبالمجتمع البشري نحو السقوط الأخلاقي، كما هي الحال في المجتمعات الغربية اليوم.

لذا فإنَّ تحرير المرأة ـ في الرؤية الإسلامية ـ لا يخرجها عن حدود أنوثتها كريحانة؛ بل ليستنقذها من أسر الواقع السيئ الذي تقبع فيه؛ من أجل أن تستعيد دورها النهضوي كإنسانة لا تختلف مع الرجل في إنسانيتها، من دون أن يعني ذلك أنها تتماثل معه في كلِّ شيء، فالحياة لا تتكامل ولا تزدهر إلا بتكامل الرجل مع المرأة.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com