مقالات

انهيار الركن الأخلاقي في السلوك السياسي المعاصر

 علي آل شفاف

Talib70@hotmail.com

لم يسبق للسياسة ـ عبر التأريخ ـ أن ابتعدت عن الأخلاق بالدرجة التي عليها الآن, فإنساننا ـ المعاصر ـ يعيش في غابة شرسة, يتصارع فيها الجميع مع الجميع, ومن يحاول أن ينأى بنفسه عن الصراع, عليه الرضا بأن يكون هو الضحية. لا وسطية, فإما أن تكون مفترِسا, أو مفترَسا. هكذا يحدثنا واقعنا المريع . إنها ـ ذاتها ـ اللغة الغريبة التي تكلم بها المتفردون من الحكماء والفلاسفة الأولون, إلا أن الفرق شاسع. فلم يكن بارود, ولم تكن سيارات مفخخة تحصد الأرواح, أو ألغام تستأصل الأطراف, أو صواريخ تحصد العشرات والمئات في لحظة واحدة, ولم تكن هناك (نوويات) ولا (جرثوميات) ولا (كيمياويات) لتبيد الآلاف من بني البشر.

إن "نيتشة" أو "شوبنهاور" لم يبعثا من جديد, فيصورا لنا العالم غابة شرسة أو ظلمة مكفهرة,  لكن عالمنا هو الذي يصرخ بنا, بل يصفعنا بوقائعه المريرة التي نشاهدها كل يوم.

 تركت الفلسفة قبل "سقراط" المسائل السياسية والأخلاقية للـ "سوفسطائيين", الذين كانوا يعلمون الناس الخطابة والجدل والمغالطة؛ وانغمست هي في الطبيعة وما وراءها. لكن "سقراط" أنزلها من سمائها إلى أرض الواقع, على حد وصف الفيلسوف والخطيب الروماني "شيشيرون" ""Cecero (106 ـ 43) ق.م.[1]. كانت هذه بداية فلسفة السياسة, التي بدأت بالسؤال: ما الذي يجب أن تكون عليه علاقة الفرد بالمجتمع؟ كان موضوعها هو البحث في تطبيق المفاهيم الأخلاقية في المجتمع.

كانت "الفلسفة السياسية"[2] فلسفة أخلاق بالدرجة الأساس. كما أن السياسة كانت فن قاعدته الأخلاق. فقد ". . . جاءت "السياسة" في رسالة "أرسطو" (حول الحكومة) كقسم تال ـ مباشرة ـ للـ "الأخلاق" . . . (وكأنه ـ بهذا ـ يشير إلى شدة التلازم بينهما) . . . فلم يفصل "أرسطو" ـ كما نفعل نحن الآن ـ بين السياسي والأخلاقي"[3]. ومن هنا تتضح قوة الترابط بين السياسة والأخلاق عند أرسطو.

 قبل أن نتساءل عن دور الأخلاق في عالم السياسة المعاصرة, علينا أن نستذكر الخلاف القديم حول مبدأ ومنبع مفهوم "الأخلاق", وهل أنها ذات منبع عقلي؟ أم هي شعور ووجدان؟

يذكر الفيلسوف الإنكليزي "ديفيد هيوم" هذا الخلاف, فيقول: "(هناك خلاف) . . . حول القاعدة التي بنيت عليها الأخلاق, فيما إذا كانت من العقل أو من العاطفة, وما إذا كنا حصلنا على معرفتنا (بالأخلاق) عن طريق سلسلة البراهين والاستقراء أو عن طريق الشعور المباشر والحس الداخلي (العميق)" [4]. كما يذكر ـ أيضا ـ أرجحية الأساس الوجداني والذوقي عند معاصريه فيقول: "بالرغم من تأكيد الفلاسفة القدماء أن ليست الفضيلة (Virtue) سوى الانسجام والتطابق مع العقل (Reason), إلا أنه ,على العموم, يبدوا أن الأخلاق تعتبر  (وليدة) الذوق والعاطفة أو الوجدان. . ." [5]

 لقد ترتب على هذا الخلاف نتائج متعددة: منها إذا كانت الأخلاق نابعة من العاطفة أو الوجدان, فإنها ستكون (نسبية)؛ تتبع عاطفة الفرد وذوقه, أو العاطفة الجمعية للمجتمعات, والتي قد تنشأ من مشتركات عرفية, تتحول بالتقادم إلى عاطفة ووجدان جمعي. ومن هنا نشأت نظرية "الأخلاقية النسبية "Ethical Relativism" التي تقول ـ وبعيدا عن تفرعاتها ـ بأن (الخُلُق) "س" يعتبر صحيحا في المجتمع "ص" في الوقت "ع", و "س" ـ نفسه ـ يعتبر خطأ في المجتمع "ج" في الوقت "ع" ذاته. وكذلك فإن "س" يعتبر خطأ في المجتمع "ص" نفسه, في وقت آخر. ومن هنا نشأت الحركات "الليبرالية" التي تمنع تحديد أو تقييد الفرد والمجتمع بمنظومة محددة من القيم والأعراف والتقاليد المتغيرة والنسبية, وتترك هذا الشأن للفرد ذاته, ليحدده وفق ذوقه وعاطفته.

أما إذا كانت الأخلاق ذات منبع عقلي قابل للبرهان, فيستتبع ذلك أن على جميع المجتمعات الإنسانية التقيد والالتزام بنفس المنظومة الأخلاقية. إذ لا يمكن أن يحدث خلاف حول تقييم خلق معين لأنه مثبت وفق البراهين العقلية الثابتة. ومن هنا نشأت الكثير من النظريات القطعية التي تؤمن بقيم معينة تفترض أنها هي الصواب, الذي يجب محاربة مخالفيه. وكان هذا هو الوجه الأوضح للسلوك السياسي القديم وامتداداته المعاصرة, والذي كانت أغلب مبرراته ناشئة عن قطعية أخلاقية أو مبدئية أو دينية.  

 قد تكون هناك ـ كما أحسب ـ نسبية في الأمر, لكنها من نوع آخر. تتبع كل خلق على انفراد. فقد يكون خلق ما نسبيا بين مجتمع وآخر, وبين وقت وآخر؛ فيما يكون آخر قطعيا عقليا. وقد يكون قطعيا بالوجدان أيضا, لكونه حس إنساني جامع. 

 يأتي استذكارنا لهذا الخلاف, لكونه منشأ التطرف اللاحق في نبذ العامل الأخلاقي فيما بعد. فأكثر الحروب جاءت عن طريق القطعية الفكرية والدينية والسياسية. ولأن الأخلاق تمثل التجسيد الخارجي لهذه الأفكار والمبادئ, لذا قامت على أساسها الكثير من هذه الحروب على مدى التأريخ الإنساني الطويل. قد يكون الفراق بين الأخلاق والسياسة في عصرنا الحاضر هو أحد تداعيات الصراعات والحروب التي حدثت في نهاية القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في بريطانيا وفرنسا وباقي أوربا بين "الثيوقراطيين" أصحاب الحق الإلهي في الحكم والاستبداد الملكي كـ (جيمس الثاني في إنكلترا ولويس الرابع عشر في فرنسا والسلطة البابوية في روما) من جهة؛ وأصحاب الحكومة "البرلمانية التمثيلية" ومن تبعهم من "الليبراليين" أصحاب الحرية الفردية ودعاة "العقد الإجتماعي" كـ "جون لوك" و"جون ستيوارت مل" و"جان جاك روسو" (على التوالي). فحروب "المئة عام" و"الثلاثين عاما" وغيرهما في أوربا, دفعت الكثير من المفكرين والمنظرين السياسيين إلى محاولة كسر هذا القيد (المهلك), لكنهم سرعان ما ذهبوا بعيدا في الأمر حتى جاوزا المعقول والمقبول.

كرد فعل على ما جرى من حروب وإبادات بسبب القطعية الفكرية والسياسية وبالتالي الأخلاقية, اندفع قسم كبير من الفلاسفة والمفكرين للبحث عن (مبدأ) آخر أو قاعدة أخرى, أرادوها أكثر (استقرارا) و(واقعية), يمكن من خلالها تحقيق أعلى درجات المنفعة والكسب, كـ "القوة" و"المصلحة" أو"المنفعة" و"التحرر" وغيرها, فعملوا على إهمال العنصر الأخلاقي تماما في العلاقات الفردية والاجتماعية؛ واعتبروه قيدا وهميا, وضعه البعض لتقييد حركة الفرد في المجتمع. فما لبثوا أن أدخلونا الغابة مرة أخرى, ولكن من بابها الخلفي هذه المرة, وعادوا بنا إلى شريعة الغاب من جديد.

 فبعد أن بنيت الفلسفة السياسية في "العصر الوسيط" على أسس "ثيوقراطية" وأخلاقية, تحت تأثير المنهج الأرسطي والمدرسة الرواقية . . . "جاءت طروحات "ماكيافيللي" لتمثل ضدا ورفضا, وتحديا لهذا النهج. فقد كان "ماكيافيللي" ينبذ القواعد الأخلاقية والشرعية في الفعل السياسي أو الحركة العامة للدولة, بالإضافة إلى رفضه الأصول اللاهوتية"[6]. فكان بذلك أبرز من ركل الأخلاق بعيدا عن طريق السياسة. وبعد أن رأى "نيتشة" أن لا حياة إلا للقوي السيد, والقضاء على الضعيف هو بر به, لأنه لا يستحق الشقاء في حياة لا أمل له بها, وأن الإنسان ليس سوى "كتلة أفاعي اشتبكت وهي في تدافع مستمر لا تسكن إلا لتتفكك منسابة في شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها"[7] . . جاء دور الثلاثي الأمريكي "ديوي" و "بيرس" و "جيمس" لتتسيد "براغماتيتهم" حياتنا السياسية المعاصرة متناغمة مع وجودية ـ بل عدمية ـ "هايدجر" و "سارتر" ومتممة بذلك الانفصال والطلاق ـ البائن ـ بين السياسة والأخلاق.

 ولَإن كان أمراء القرون الوسطى قد وصفوا حروبهم بأنها "حروب الحق مع الباطل", فإن معاصرينا فعلوا نفس الشئ ولكن من أجل "المصلحة" . . لا فرق فالنتيجة واحدة والضحية واحدة ـ أيضا. فبعد أن كان الإنسان الأول ضحية للإفراط, أصبح إنساننا الحالي ضحية للإفراط أو القطعية, وضحية للتفريط أو الفوضوية . . ضحية لكل منهما على انفراد, وضحية لصراعهما (الجدلي التفاعلي العنيف الهدام ) المستمر؛ الذي لم, ولن يحسم.

 وهكذا وبعد أن بدأت السياسة ملازمة للأخلاق, وصلنا الآن إلى مرحلة يعتبر فيها ـ عمليا ـ المعيار الأخلاقي عيب من عيوب السياسي المعاصر, من يلتزم به يعتبر سياسي فاشل. أصبح منطق الربح والخسارة ـ فقط ـ هو الذي يحكم عمل معظم محترفي السياسة المعاصرين, دون أي دور حقيقي للمبادئ والأخلاق والشعور الإنساني. فالتضاد والتضارب في مواقفهم, والتغير في تحالفاتهم, والتشتت في ولاءاتهم,  أصبح نهجا متأصلا . . فلَإن كانوا على استعداد للتهالك, وإراقة ماء الوجه, والتذلل, والاستجداء؛ فهم على استعداد ـ أيضا ـ لأن يجسدوا الظلم والقسوة والقمع بأبشع الصور. وهذا هو تعريف ووصف السياسي المحترف الماهر والحاذق في هذا العصر!!

 قد يظن بعض السياسيين المعاصرين وخصوصا في الشرق العربي والإسلامي أنهم لا يزالون يتمتعون بقدر ما من الأخلاق في عملهم السياسي لكن الواقع يفضح الجميع . . ومن حاول أو يحاول أن يتمسك بشئ منها يصبح سياسيا فاشلا, سرعان ما يسحق تحت الأقدام. والعراق أمامكم.


[1] الكتاب الخامس, الفقرة الرابعة, من رسالة "شيشيرون"  Marcus Tullius Cicero, Tusculanae disputationes  المترجمة للانكليزية عن اللاتينية. حيث كتب فيها: "كان سقراط أول من أنزل الفلسفة من السماء, ووضعها في المدن والبيوت, وأجبرها أن تتساءل عن الحياة والأخلاق وعن الخير والشر".

[2] لا بد لنا أن نفرق بين الموضوع الذي تبحث فيه الفلسفة السياسية, وبينه في "علم السياسة", الذي امتد إلى السؤال عن علاقة المجتمعات ببعضها, وعن شكل الكيان الناشئ عن التكتلات الاجتماعية, ومعايير تشكيل الأطر العامة لإدارة وحكم المجتمعات, ومقومات بناء الدولة, والجوانب العملية التفصيلية للحكم. أي أن "علم السياسة" يتعامل مع شؤون الدول القائمة فعلا, كالمسائل المتعلقة بالدساتير, وتوازن القوى, والعلاقات الدولية, وغيرها. بينما تشكل "الفلسفة السياسية" نظرة عامة عن الحياة الأفضل للمجتمع, ودور الفضيلة والقيم الأخلاقية, وأثرها في علاقة الفرد بالفرد, والفرد بالمجتمع, ومكونات المجتمع بعضها بالبعض الأخر؛ كالقيم التي تتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة. ومنها تتفرع عدة فروع, تبعا للتوسع في بناء المجتمعات, وبالتالي ازدياد الحاجة إلى قيام أو أيجاد منظومات (رؤيوية) فكرية, ومن ثم هياكل تنظيمية, لتسيير شؤون هذه المجتمعات؛ كفلسفة القانون, وفلسفة الاقتصاد, وغيرهما. 

 [3] مقدمة لرسالة أرسطو في "الحكومة" ترجمها إلى الإنكليزية عن الإغريقية "وليمز أليس".  

[4] القسم الأول من كتاب AN ENQUIRY CONCERNING THE PRINCIPLES OF MORALS BY DAVID HUME

 [5] نفس المصدر.

[6] Political Thought from Gerson to Grotius: 1414–1625: Seven Studies John Neville Figgis Batoche Books Kitchener 1999. page 18

[7] نيتشة, "هكذا تكلم زرادشت".

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com