مقالات

مخلوق اسمه امرأه (1) .. جدتي

جواد السعيد / السويد

J12alsaaid@hotmail.com

في قرية نائية من قرى الجنوب العراقي على ضفاف نهر الفرات الخالد تداخلت مجموعة من صرائف القصب لتشكل قوس يحاط بسور قصبي أنيق هذا هو بيتنا الذي بناه عمي وأبي وأمهما العجوزالذي أحتضنت الجميع فكان لكل منهم صريفة ولإبن عمي البكر الذي تزوج مبكرا أيضا  مثلهم وصارهو زعيم العائلة بعد أن سافرا عمي وأبي بعيدا عنا للعمل وكلنا تحت رعايته وجدتي المشرف العام على إدارة المنزل الذي تجاوزعدد ساكنيه العشرين فردا يأكلون معا وينامون معا ويتقاسمون الطعام معا بكل شهية وما ألذه نعم لذيذ جدا لأنه من يد امرأة اسمها جدتي الحنون،وأعيد بناء المنزل من الطابوق بنفس الطريقة في الستينات من القرن المنصرم.

صغارا كنا نلتف بردائها نتسابق الى حضنها الدافئ نحتمي بها هربا من غضب الوالدين وكأن طرف ردائها حصن منيع لايتجاوزه أحد مهما علت منزلته نشم عبق البخور في ملابسها البسيطة، تنهض صباحا قبل بزوغ الشمس تملأ الدار بتراتيل صلاتها على النبي وآله نسمعها ترددها بكل اخلاص تدعو بعد صلاة الفجر لعودة الغياب تأن من ألم الفراق تتحرق لرؤيتهم تنتبه لنفسها وتعود للدعاء ثانية وثالثة وهكذا تدعو لكل جيرانها ثم لأمة محمد (ص) بالستر والرزق والعافية كلمات كانت تطلقها بلهجتها الريفية ولكنها مؤثرة ومخلصة في دعاءها, فكانت الخير والبركة وننهض صباحا بعد اعداد الفطور البسيط لنتسارع الى المدرسة وهي توصي بنا أن نحرص على الألتزام بأوامر المعلم وهكذا كل يوم.

وفي المساء نجتمع حول الموقد في أحدى الصرائف أعدت للجلوس في المساء نتزاحم حول جوانبها نتشاجرعلى القرب منها وهي تحتضن الجميع وقبلها يتسع للجميع وتروي لنا الحكاية في كل ليلة بل قد تطول الحكاية الى ليال عدة فلا كهرباء في القرية النائية ولاتلفاز يسلينا وهاهي جدتي تروي لنا من قصص البطولة والمرؤة والشجاعة والتدين والخلق العربي الرفيع ونحن نحملق حولها ونتسائل مرات عدة بعد أن كبرنا كيف لهذه المرأة الأمية أن تروي هذه القصص وبدقة حتى لو عادتها اذا طلبنا منها ذلك فلا تغير في المواقف حتى في وصف المعارك، ونشأنا في كنفها وهي تدبر شؤون البيت بسيطرة تامة فمرة تتفقد الأبقار في الحظيرة ومرة تتفقد الماء الذي يجلب من نهر الفرات وتصنفه ماء للشرب وآخر للغسل وأياك أن تبذر بالماء فعملية جلبه فيها مشقة لأن المسافة بين البيت والفرات ليست قصيرة والأمهات مشغولات بأمور المنزل وليس من واسطة سوى ملئ (المصخنة) وتحملها المرأة على كتفها وصولا الى البيت وقد تكرر الحالة مرات في اليوم وكم رافقت أمي وهي تذهب لجلب الماء لازلت أتذكر كيف تعرف مواعيد المد والجزر وتعلمت منها مامعنى المد وكيف يطفح الفرات آنذاك بالماء وبعدها ينحسر الماء الى خط الصيهود وتتكرر هذه الظاهرة مرتان في اليوم.

نعم جلب الماء مشقة للنساء وأن كان فرصة للتنزه أحيانا سيما الصبايا منهن لشدة ماحولهن من رقابة خوفا من أن يتعلق قلبها بحبيب أو يراها من لايريدون الأهل أن يراها. وللصبايا عند الجدة منزلة خاصة وحديث خاص لم نعرف تفاصيلة ونحن أولاد صغار حتى كنا نغار من ذلك وعند الزعل تأمرنا بالذهاب الى المضيف مع الرجال لنتعلم من المجلس فلا مكان لنا مع النساء بعد اليوم لأننا كبرنا وتتوجه التعليمات بحضور مجالس الرجال والأستماع لأحاديثهم.

جدتي مخلوق اسمه امرأة علمتنا الكثير لازلت أتذكر تلكما اليدين الناعمتين وكيف تدلى جلد الساعدين بعد أن تطاول العمر وكيف ترتعش من شدة الكبر ونحن صرنا كبارا نحنوا عليها نساعدها نتألم لها فهي أم الجميع وحبوبة الجميع.

هنا وأنا أعيش في الغربة بعد أن حرموا أولادي من حنين الجدة  فلا أحد يلوذون به عندما أغضب عليهم ولا امرأة يشكون لها عندما تتأزم الأمور بيننا وأعود لأمارس دور الجدة ولكن للأسف لم أجيد الدور لأنني لست امرأة فأي مخلوق أنت أيتها الجدة والأم والحبيبة.

وأعود لقريتي بعد غربة طويلة فأجد المأساة قد تضاعفت فلا أحد يدافع عن حق المرأة ولا الفرات يفيض بالماء فراتا كي يروي العطاشا بسهولة ويسر بل غار الماء وصار أجاجا ولازلن النسوة يشكون الضمأ ويفترشن الطرقات لبيع السجائر والحلويات الملوثة والسمك بحثا عن العيش وكأن هذا المخلوق جاء للحياة كي يعذب فهل من ناصر للمرأة في عراقنا القاسي؟ وهل من محسن ليرد الجميل على هذا المخلوق الذي أفنى عمره لخدمة الجميع؟

ندائي هذا أوجهه لمن يتسنم رأس المسؤولية في العراق أما آن لهذا المخلوق أن يستريح؟ أو يكرم فكم عجوز تطاول عليها فراق ابنها شرده الطغاة وماتت كمدا وألما؟ وكم امرأة ترملت بعد أن فقدت زوجها وحبيب عمرها وعانت من شظف العيش؟ وكم من أم ماتت من شدة الرعب والخوف وجبروت الرجال؟وكم من فتاة انتهك عرضها وسيقت سلعة رخيصة في سوق الرجال الذين لاشرف لهم؟

من لهؤلاء النسوة يارجال الدولة وأنتم جئتم بشعارات الحرية والمساواة؟ في أي فقه أو شريعة أو دين أو فكر أوملة يعذب هذا المخلوق؟ أسئلة كثيرة بحاجة الى جواب.

 ولكن على المرأة في العراق أن لا تستسلم لواقع بائس ماعليها إلا أن تقتحم الميدان بشجاعة وتطالب بحقوقها مهما كانت هذه الحقوق سياسية أو دينية أو اجتماعية كي نستطيع أن نبني أمة قوية تصلح أن تعيش بعصر صار فيه على الجميع أن يحترم المرأة ويبجلها.

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com