مقالات

قصائد كأنها أدعية وشعراء كأنهم رجال دين

 خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

تشير الأديان وأحاديث الأنبياء الى ضرورة الدعاء والتضرع لله لما في ذلك من توسل للتغيير المادي. وهناك مداخلات عديدة في هذا الصدد ، نتناول منها ماذهب اليه الدكتور حسن الشرقاوي في كتابه ألفاظ الصوفية ومعانيها : " يعتقد أهل الطريق الصوفي أنه عن طريق استخدام اسم الله الأعظم تتحقق القوة الروحية في التصرف في الاشياء على نحو يماثل تغيير خواص المعادن من خسيسة الى معادن ثمينة ، كتحويل الرصاص الى ذهب ، ولذلك يسمون الله اكسير الكيمياء النفسية بما يحقق من معجزات مادية ومعنوية لايصل اليه الاكسير المادي في تأثيره . واضح ان هذا النوع من الكيمياء لايمكن ان يستخدمه شخص عادي فلابد من أن يكون حاصلا على مقومات العلم اللدني ، ذلك ان احالة الاجسام النوعية من صورة الى اخرى تختلف عنها تماما ، انما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العلمية " .

 واذ يكمن هنا تصور غريب ثقيل الفهم على وعي العقل المادي فان المؤمنين بالغيب واثقون ايمانا من ان الله قادر على التدخل في جزئيات حركة الاشياء في التاريخ لما يخص الطبيعة والخلق . ان ابراهيم طوقان في قصيدته " نعمة العافية "- على سبيل المثال - ليؤكد ذلك شعرا ً .

 

وما للطبيب يد ٌ في الشفاء

ولكنها يدك الشافيه

تباركت َ أنت َ معيد الحياة

متى شئت في الأعظم الباليه

وأنت المفرج كرب الضعيف

وأنت المجير من العادية

 

 ان يد العلم هنا ، لاتقوى لوحدها على شفاء مريض مالم يكن الشفاء بإذن الله ، وهنا يستند الى سورة الشعراء : " واذا مرضت فانه يشفين ".

 

ان التسليم صدقا بأن الله هو الخالق استنادا الى فكر المدرسة المثالية في التفكير ، يستوجب حقا وفعلا ، الدعاء والتضرع لله من اجل التوفيق . الأ ان الأمر تعدى على يد بعض الخارجين على صدق وجماليات التصوف من الذين يدعون تغيير المواد الخسيسة الى مواد ثمينة وذلك لأنهم بمجرد تفكيرهم بالمادة والذهب والغنى انتهوا من كونهم متصوفة ، ولو اتاح حقا ان يقوموا هؤلاء بهذه القدرات لكانوا قد حلوا لنا مشاكلنا من مجاعات وكوارث وامراض ! ولما كنا بحاجة الى يونيسكو ويونيسيف ومنظمات خيرية واطباء بلا حدود ! والخ .

 انهم يستعملون كلمات كبيرة من قبيل ان الله اكسير الحياة النفسية ، ونقول كيدا لهم ! جل الله عما يصفون ، ان الخالق كما يرد اسمه ودوره في كل الكتب السماوية هو لوحده قائما بذاته ، وبدون تعاريفهم ، قد خلق وأفنى وحور وغير وطور وامتحن واسعد وأفقر والخ ، أوليست الطبيعة لوحة التغيير بالبنى والاشكال والمفاهيم والمعادن والحراك الارضي والجوي والبحري الخ . فلمن يتدخلون كذبا وزورا وبهتانا في ان الصوفي قادر بالنقاء النفسي التعبدي على بناء عالم البلور وتحويل التراب الى كوكب ماسي . ما هذا الدجل ؟ . ان العمل وحده القادر على التحولات الغنية وكنز الحياة لا بأكاذيبهم انما بهذه البوصلة الغالية : " وليس للانسان الا ماسعى ".

 أما ابراهيم طوقان القائل وما للطبيب يد بالشفاء

ولكنه يدك الشافيه الخ ...فله كل الحق فيما ذهب اليه من ايمان ، لكن ان نقول وما للطبيب يد بالشفاء فان هذا الامر يقع في دائرة الاجحاف والغمط وهو دحض لدور العلم والطب وحاجة الشعوب الى العلاج والعمليات الجراحية ، ولو نرى اليوم ونسمع ، فان اعلاماً هائلا يستصرخ العالم المتمدن بأن يجود بالدواء والغذاء ويوصله الى بقاع مختلفة من الارض .

 وعلى العكس من ادعاءات العلم اللدني ، يعتقد كثير من الشعراء بأن كلمة الله لوحدها جديرة بالترديد لأنها تشتمل على رموز واسرار فهي تغير من حيث ندري او لاندري مصائر الاشخاص والجماعات والشعوب . اضافة الى انها تشتمل على مهابة وقوة وعمق وتفكر وغموض وقيم عصية عن الكشف . يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري على سبيل المثال : في قصيدة بعنوان سجين في قبرص :

 

يامن يجل شعار الدين مستمعا

لله آيات اجلال واكبار ِ

حتى على البحر للتكبير مأذنة

تقام كل عشيات وابكار ِ

" الله أكبر " رددها فان بها

خواطرا ورموزا ذات اسرار .

 

 وأما الملاذ الايماني عند عبد الوهاب البياتي فهو شمس الله :

 

" تفسخ الجديد والقديم

تعفن الماء وجفت الآبار

تعرّت الأشجار

ونثر الخريف فوق الغابة الرماد

وها أنا احمل في نقالة الموتى ، الى مدينتي البحر

أمد كفي مثل شحاذ الى المطر

لعل قطرة تبلل الزجاج ، تثقب الظلام

- تهرأ الخيّام

وسقطت أسنانه وجفّت العظام

وهجرت يقظته عرائس الأحلام

والدود فوق وجهه فارَ وفي الأقداح

العندليب قال لي ، وقالت الرياح

- الليل طال ، طالت الحياة

فأين يارباه !

شمسك تحيي الحجر الرميم

وتشعل الهشيم . "

 

 ان شمس الله هنا تعني مرة اخرى ، نور الحياة السرمدية التي هي الهدأة الأبدية بعيدا عن هذا الأجيج الزاخم من ظلمات الدنيا وآلامها . ان هذا التعويل ، على مابه من اصالة في طهر التوجه الى الملكوت ، هو من جهة اخرى يعبر عن الرغبة بالأمان واللجوء بعيدا عن ارض الشرور والعلل والمعاناة وكما قال الشاعر قديما : " ماهذه الدنيا بدار قرار ِ " فانه من قبيل الهدأة النفسية لإنسان يقف ازاء اعتم حقيقة ألا وهي الموت أن يتشبث كما يقول الشاعر النجفي الجواهري :

 

" الله أكبر رددها فان بها

خواطرا ورموزا ذات اسرار ِ "

 

ان فيها كما هو واضح ،من النص ، الأسرار ومغاليق الحقائق التي يعجز الانسان عن ادراكها . وفيها وفق ابراهيم طوقان الرحمة استنادا الى الآية القرآنية " والله قدير والله غفور رحيم " . واذا عرجنا على النص الثالث للشاعر البياتي ، ستطل صورة الحنين الى الله وقدرته على الانقاذ من واقع عليل . ولابد من الاشارة هنا الى نشأة البياتي قرب مسجد الكيلاني التي مكّنته من دراسة جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وطاغور والخيام وعبد الصبور والفيتوري .

 

 وهذا هو الشاعر ابراهيم ناجي في قصيدة بعنوان " عاصفة " انه يؤكد كما هو جلي للعيان على حالة ايمانية بوجود غير زائل ، وجود علوي مسؤول مالك لهذا الكون يمثل الأمل بالرحمة وبحياة اخرى أمام زوال الدنيا ، ووجود خالد هو الاله المتوكل عليه والذي لايجب نسيانه :

 

" غرب الحظ كما مال الشراع

هكذا الاعمار في الدنيا تميل

وسرت في الجو اشباح الوداع

وتنادى كل شئ بالرحيل

 

الى ان يقول :

 

أ اذا اشتد على القلب البلاء

أاذا اشتد عباب وتناهى

تعصف الامواج عصفا بالرجاء

كيف ننسى ان للكون إلها " .

 

 فالاله هنا المنقذ ، وهو مئآل وملتجأ وهو الذي يرحم في زمن اشتداد القسوة وهو الذي يُعقد على تذكره الأمل في الأزمة والاحباط وانهيار الرجاء . فالله هنا قوة تغييرية في الدنيا كما عبر النص مشبّها الحياة بالسفينة الذاهبة الى شواطئ الختام .

 وأما الشاعر محمود سامي البارودي فقد أوكل عن يقينية راسخة كون كل امرئ ملاقياً ربه ، وانه ليشير الى جهل الناس بذلك ، ولو كانوا قد علموا وهابوا يوم الملاقاة لما ظلوا على مرضهم وفسادهم ، وان ملاقاة الرب ليست لذاتها بل لفعل تغييري هائل هو العقاب او الثواب وعندها ، كما يوحي النص بذلك ، تنفتح عوالم وعوالم :

 

سر يانسيم فبلغ القبر الذي

بحمى الامام ، تحيتي وودادي

أخبره أني بعده في معشر ٍ

يستجلبون صلاحهم بفساد ِ

طبعوا على حسد ٍ فأنت َ تراهم ُ

مرضى القلوب أصحة الأجساد ِ

ولو انهم علموا خبيئة ماطوى

لهم الردى ، لم يقدحوا بزناد ِ

كل امرئ ٍ يوما ملاق ٍ ربه

والناس في الدنيا على ميعاد ِ .

 

هنا يحيل الشاعر الذاكرة البشرية الى أكثر من آية قرآنية :

" يحيي العظام وهي رميم "

و " انه يحيي الموتى وانه على كل شئ قدير "

وكذلك الآية " فاذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون " .

 ان كثرة كاثرة من شعراء العربية تميل الى - الايمان - في نصوصها ، لتعني ان المنطقة تطفو على بحر من التراث الديني ، ولا بد من أخذ هذه البوصلة بنظر الاعتبار . أما التغيير الذي لابد من ان يحصل في الاتجاه الحضاري و – العلماني - للمنطقة العربية خاصة فهو تغيير يعنى بتطوير العمل وحب الحياة الفاضلة القائمة على الحق وهذا يمكن ولابد ان ينبع من نظريات جديدة معاصرة ، ومن الدين ذاته مادامت ضرورته تعنى جوهريا بالعدالة ، وكلما توازنت الحياة حضاريا وايمانيا فوتت على المتطرفين والقتلة من دعاة المغالاة بالدين ومكممي الافواه من ابداء الرأي في الحرية المدنية ، فوتت عليهم فرصة التصدر في مراكز القرار والأ عدنا الى دولة بني عثمان والطالبان والى العصر الحجري وان كان الأخير أكثر رحمة من عصرنا الحالي ! .

 بالنسبة الى البياتي ، لايمنعه الايمان بأن شمس الله هي التي تطهر العالم الدرن والعفن والرذيل ، بقدر مايجب أيضا ان نتدجج بالقوة في فعل التغيير والقدرة على ازاحة الظالم من طريق الحياة ذاتها ، وهذا مافعله البياتي في كثير من قصائده الاخرى ، وللجيل ان ينهج ذات المسار الايماني والعملي ، مع نسبة من التغيير والجدة في اسلوب عمله ولا مناص من التكيّف مع المتغيرات العالمية الجديدة .

 ان شعراء العربية جميعهم تقريبا من احمد شوقي وحافظ ابراهيم وصلاح عبد الصبور وابراهيم ناجي في مصر ، وعلي الشرقي والشبيبي والجواهري والرصافي ، عدا بعض الشذرات في فصل الفلسفيات من ديوانه ، ونازك الملائكة والسياب والبياتي ومصطفى جمال الدين والصافي النجفي وحتى الزهاوي – رغم محاوراته الفلسفية - كلهم شعراء مؤمنون او تحت مظلة الايمان ، وكذلك الحال مع ايليا ابي ماضي لو اطلعنا على مجموعته الكاملة ، وميخائيل نعيمه وجبران خليل جبران في لبنان ، وحتى ادونيس في مجموعته الكاملة ، وبدوي الجبل من سوريا ، والشابي من تونس ، ومفدي زكريا من الجزائر وعديدون عمالقة آخرون . كل هؤلاء يقفون مثل تلاميذ في ساحة المدرسة يحيون العلم صباحا ويذهبون الى حجرة الدرس الديني حيث ينهلون ويقتبسون من المبادئ والآيات والقصص والرموز الخ .

 وجميعهم – ربما - يتفقون مع محمود سامي البارودي حيث قال : كل امرئ يوما ملاق ٍ ربه .

 لكن ورغم كل هذا الإرث الجمالي والدعوات الى الخلق الانساني والروحاني ، تقف كثير من الشوامخ الفكرية منذهلة أمام مايحدث على ارض الواقع من تدمير للانسان " صورة ذاتنا البكر " كما يقول جبران على لسان الإله .

ان العراق اشنع واسطع نموذج لتناقض الكلمة والواقع ! اذ غدا لكثرة حرق الكتب السماوية فيه والاستهتار بقيم يادجلة الخير وروائع الفيلسوف الزهاوي ورفاقهم ، غدا محرقة الدين والشعر والفلسفة ! ان الارهاب هنا لا يقتل الانسان القتيل بل يمسخ الانسان القاتل فكريا ويحيله الى بهيمة .

 انه وفي الوقت الذي لاتقوى هذه الشرائع والمعاييرعلى الحيلولة دون الدمار فهل سيجود علينا متصوفة العلم اللدني ، بدلا من انتاج الذهب من المواد الخسيسة ، بانتاج أقيام المحبة والسلام بين بني البشر او على الأقل بين ابناء الوطن الواحد التي تمزقه التمايزات والاحتراب الحزبي والطائفي ؟. ان الله الذي يؤمنون به يتألم أشد الألم منهم ومن الذين يحزبون خلقه ويبيدونهم بإسم الدين .

 وعلى الرغم من قول القائل بأن لايمكن لأُمة شعراؤها مثل رجالات دينها أن تتغير ! فان الأمل يحدونا بقدرة التوازن الديني والحضاري على بناء دعامة التقدم الاجتماعي . ان التواشج السلمي هو لغة العصر وان الشخصية المحورية اللاحزبية هي وعاء انساني اشمل من الشخصية ذات البعد الواحد – الحزب جزء والمحبة الانسانية الشاملة كل - ، ولو انتهجنا الدرس هذا لتعددت مشارب القصيدة وتباينت النظرات الفلسفية مثلما اقتضى ويقتضي تجاور الاديان وتعايشها بسلام .

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com