مقالات

درس انتخابي من "كيرالا"

د. عبدالله المدني

باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية

elmadani@batelco.com.bh

الانتخابات التشريعية التي جرت في وقت سابق من الشهر الجاري في ولاية "كيرالا" الهندية الجنوبية، و هي الثانية عشرة منذ تأسيس الولاية بحدودها الحالية في عام 1956 عبر دمج أراضي ما كان يعرف زمن الهند البريطانية بإمارتي ترافانكور و كوشن مع أجزاء من مدراس و ساحل مليبار، أسفرت عن فوز جبهة اليسار الديمقراطي التي يهيمن عليه الشيوعيون بنسبة 90 بالمئة تقريبا، بثمانية و تسعين مقعدا من مجموع مقاعد المجلس التشريعي المحلي البالغة 140 مقعدا.

 الحدث لا يشكل مفاجأة بطبيعة الحال ، لأن الشيوعيين حكموا الولاية مرارا و تكرارا منذ أول انتخابات تشريعية محلية في عام 1957 ، بل كانت كيرالا هي أول مكان في العالم و في التاريخ المعاصر يصل فيه حزب شيوعي إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية حقيقية. إنما ما استرعى الانتباه هو أن مسلمي الولاية الذين يشكلون نحو 25 بالمئة من تعداد سكانها البالغ 32 مليون نسمة، فضلوا أن يصوتوا بكثافة لصالح الشيوعيين على أن يصوتوا لأحزابهم التقليدية ممثلة في حزب المؤتمر الحاكم في نيودلهي و حلفائه.

 و هذا يصلح كدليل جديد على أن الناخب الهندي المسلم، سواء في كيرالا التي تحتضن ثاني اكبر كتلة بشرية مسلمة في الهند بعد كشمير أو في غيرها من الولايات، قد تجاوز ما يجري في المجتمعات الإسلامية الأخرى من ربط طريقة تصويته في الانتخابات التشريعية باعتبارات إيمانية و مسائل فقهية أو رضوخه للفتاوي الدينية عند توجهه لصناديق الاقتراع. و ما كان هذا يحصل لولا علمانية الدولة الهندية التي ترسخت عبر عقود من الزمن و خلقت أجيالا مؤمنة بالمواطنة كقيمة لا تعلو عليها أي من القيم أو الاعتبارات الأخرى حين الاختيار. و لعل أقوى ما نستشهد به كمثال مستمد تحديدا من حالة كيرالا ذات الروابط التاريخية السحيقة مع عرب الخليج و الجزيرة العربية، هو أن تنظيم "جماعت إسلامي" ذا المنشأ و الجذور " الاخوانية " فشل في تكوين نفوذ سياسي أو قاعدة شعبية له في هذه الولاية بدليل أن عدد أنصاره و نشطائه لا يتجاوز الألف شخص باعتراف أمير التنظيم " عارف علي " نفسه. ليس هذا فحسب، بل لم يسجل اكتراث احد قط بدعوات التنظيم المتكررة للجمهور المسلم على مدى العقود الماضية بضرورة رفض الديمقراطية ومقاطعة الانتخابات و الإحجام عن العمل في المؤسسات الحكومية و مقاومة نظام التعليم الرسمي و غير ذلك مما عده التنظيم شركا و كفرا و دعما لعلمانية الهند.

 و المثير حقا هذه المرة هو أن هذا التنظيم نفسه راح يساند علنا جبهة قوى اليسار للوصول إلى السلطة، في تناقض واضح لكل ما دعا إليه دهرا، مبررا خطوته تلك بتبني الشيوعيين و اليساريين لبرامج و سياسات منسجمة مع طروحاته مثل " محاربة الفاشية و الإمبريالية الأمريكية و العولمة". و على حين وصف حزب المؤتمر و حلفائه هذا التحول بالانتهازية و محاولة الحفاظ على بعض المصالح الشخصية الضيقة، رد اتحاد الطلبة المسلمين السنة في الولاية ببيان في الشهر الماضي، طالبوا فيه تنظيم "جماعت إسلامي" بالاعتذار علنا عن أكثر من خمسة عقود من تضليل الجماهير المسلمة و الكذب عليهم و تحريضهم ضد الدولة و مؤسساتها و دستورها.

 في أسباب تصويت الناخب المسلم في كيرالا لقوى اليسار بقيادة الحزب الشيوعي الهندي الماركسي، و هو الحزب الذي انشق في عام 1964 - بسبب خلافات أيديولوجية - عن الحزب الشيوعي الهندي الأم الذي تأسس في عام 1925 ، قيلت أشياء كثيرة مثل تذمر المسلمون الهنود من السياسات الخارجية لحزب المؤتمر الحاكم، و لا سيما فيما يتعلق بانسجامها مع السياسات الأمريكية ذات الصلة بقضايا العراق و الشرق الأوسط و الملف النووي الإيراني. غير أن ما يضعف هذه الحجة هو أمران: اولهما أن الناخبين الهنود بصفة عامة و المسلمين منهم بصفة خاصة قلما بنوا خياراتهم الانتخابية على مسائل السياسة الخارجية. و ثانيهما هو أن قوى اليسار نفسها داعمة من الخارج لبقاء حزب المؤتمر بسياساته الحالية في السلطة المركزية و ذلك عبر نوابه الواحد و الستين في البرلمان الاتحادي.

 إذا لا بد و أن هناك أسبابا أخرى دفعت أبناء كيرالا – أو من عرفوا عند آبائنا و أجدادنا في الخليج باسم المليباريين - لمنح أصواتهم للشيوعيين و إعادتهم إلى السلطة المحلية مرة أخرى. هذه الأسباب يمكن إجمالها في القضايا المعيشية والتنموية و التي تأثرت في السنوات الأخيرة سلبا بخطط الخصخصة و رفع الدعم و ظاهرة العولمة و غير ذلك من العوامل المشابهة التي عادة ما تصاحبها بعض الصعوبات المعيشية لفترة ما قبل أن تظهر معالم الانتعاش في أوصال الاقتصاد المحلي. و بعبارة أوضح، يبدو أن الناخب المسلم في هذه الولاية، التي لا تشكل سوى 1.18 بالمئة من إجمالي مساحة الهند و نحو 3.5 بالمئة من عدد سكانها، تذكر أن احد أسباب تميز كيرالا عن باقي الولايات الهندية في العديد من أوجه التنمية هو سياسات حكوماتها المحلية الشيوعية.

 ففي ظل النظام الديمقراطي الليبرالي الهندي، لم يكن متاحا للحزب الشيوعي في حالة صعوده إلى السلطة المحلية أن يمارس ما عرف عنه في أماكن أخرى من إقصاء و ديكتاتورية و تضييق على حرية التعبير و الفكر و تلوين المجتمع بصبغة أيديولوجية أحادية. غير أن الطريق كان معبدا أمامه كي يفعل محليا أجندته الرعائية و الإنمائية و الاجتماعية ضمن سياسات الدولة العامة، و هذا ما فعله بإتقان و دون تعسف و من خلال الأطر و المناظرات البرلمانية. و كانت النتيجة أن برزت كيرالا كولاية تكاد تنعدم فيها الأمية و تفتخر بالمساواة الجندرية و وصول خدمات الصحة و الكهرباء إلى كافة أصقاعها و توفر التعليم العام و الجامعي المجاني فيها و ارتفاع معدل أعمار سكانها إلى 73 سنة ( أعلى من أي مكان آخر في الهند) و حلولها ضمن اقل مناطق العالم لجهة معدلات المواليد السنوية (18 لكل ألف) و تصنيف اليونيسيف و منظمة الصحة العالمية لها في خانة المناطق الأولى على مستوى العالم في رعاية الأطفال حديثي الولادة، فضلا عن انخفاض معدلات الفقر فيها تدريجيا من 69 بالمئة في السبعينات إلى 19 بالمئة في التسعينات.

 و بطبيعة الحال فانه من المبالغة أن تعزى كل هذه الإنجازات إلى الإدارات الشيوعية المتعاقبة وحدها، لكن الأخيرة لعبت دورها هاما فيها و وضعت بصماتها عليها، خاصة و أن مجموع السنوات التي حكمت فيها الولاية منذ عام 1957 يتجاوز العشرين عاما. كما انه من المبالغة القول أن كل سياسات تلك الإدارات كانت صائبة، بدليل أنها وقفت و لا تزال تقف ضد إطلاق يد الاستثمارات الاجنبية في كيرالا، الأمر الذي جعل الأخيرة متخلفة نسبيا عن شقيقاتها في قطاع التصنيع، و دفع الكثيرين من أبنائها المؤهلين فنيا و تقنيا للبحث عن وظائف تناسبهم في الولايات المجاورة أو في الخارج. و من هنا قيل أن على الحكومة الشيوعية الحالية إن أرادت الاحتفاظ بشعبيتها أن تنتهج نهجا اقتصاديا براغماتيا مشابها لما تتبناه مرجعيتها الإيديولوجية في الصين.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com