مقالات

سناءُ الانصار .. سنوات ازدحمت بالمجد (3)

مزهر بن مدلول

mazher-madlol@hotmail.com

تحية الى الشهيد النصير ملازم شيرزاد

للجبل لغة اخرى ، ابجديتها تبدأ بحروف الموت ، كان عليَّ ان اتعلمها ، وإلاّ ...

اهتديت بمشقة الى الخيمة ، التي انحشر فيها خمسة من الانصار .

لا ارى شيئا ، ظلام المكان ، يشبه في شدته عتمة قبر، وكنت اعتمد على ماتحسه قدمي ، فوصلت .

اريد ان انام ، انا متعب جدا ، وعند منتصف الليل سيكون دوري في حراسة الموقع .

اخذت بطانيتي ونمت . قبل ان اغفو ، تقلبت الى اليمين والى اليسار ، محاولا ان اجد طريقة مريحة لجسدي المرهق . لكني كلما تحركت ، شعرت بأن شيئا يتحرك هو الاخر في فراشي ، مرة عند قدمي ، واخرى يقفز بسرعة ، ويجثم فوق صدري . في البداية لم اكن مهتما بالامر ، وظننت بأن احد البراغيث ، الذين تآلفوا معنا قد اقلقته الحرب ، فأخذ يقفز هنا وهناك ، مسرورا ومطمئنا بمجيئي . لكن عندما تكررت الحالة ، تبين لي ، بأن هذه الحركة كبيرة الحجم ، فنهضت من منامي ونفضت البطانية لعدة مرات ، ثم عدت الى النوم .

حاولت ان اطرد كل هواجس الخوف وتركت جسدي مستسلما باسترخاء تام من اجل ان انام ولو لبضع دقائق ، فساعة الحراسة تقترب .

هدوء تام ، لانجموم في السماء ولاقمر ، وليس من اي بصيص لضوء ، من اي مكان ، وهناك بعض من شخير متقطع، لانصار غارقين في التفتيش بين ملفات الذاكرة ، عن شئ جميل باقي في صفحاتها لسنوات من العمر مرت ، و ينتظرون ساعات حراساتهم التي ستاتي تباعا .

هكذا كنت على وشك ان اطبق اجفاني ، واذا بالحركة تعود بقوة ، كانت كمن يبحث عن شئ بين ثيابي ، تقلبت متجاهلا فازدادت الحركة ، عند ذاك قلقت ، ولم استطع ان انام حتى سمعت صوت الحرس وهو يصرخ [ جي زه لم .. راوسته .. راوسته ] .. فأنتعلت حذائي السمسون على عجل وتأبطت سلاحي وخرجت من الخيمة .

وبالرغم من اني لا ارى شيئا لكني رحت انا الاخر اصرخ .. راوسته .. راوسته .

كان هناك سرب من المهربين يقتربون من الحرس ويشعلون المصابيح [ اللايتات ] ليقولوا نحن ليس اعداء ، ومعهم العشرات من البغال المحملة باللوز والفستق الايراني .

 [ دولي كوكا ] ، اخر المعاقل ، والوادي ، الذي اقمنا فيه دولتنا المستقلة .

لقد عبروا حدودها ، وعليهم ان يدفعوا [جمركا ] لبضاعتهم المهربة ، كنا نتسلم الضريبة على ضوء عدد البغال ، بغض النظر عما يحمله ذلك الحيوان من بضاعة . بعد نقاش وجدال وشكوى المهربين من كثرة الاحزاب ، التي يدفعون لها ، وشكواهم من الذي ينتظرهم في الجانب الاخر من الجيش والجاش ،الذين سيدفعون لهم ايضا ،حصلنا على مانريد ، من النقود بالعملة الايرانية [ التومان ] ، ثم اطلقنا سراحهم ، بعد ان وعدونا ، بانهم سيجلبون عند عودتهم بعض المعلومات عن تحركات الجيش ونوايا السلطة ، ونحن متيقنون بان السلطة ستطلب منهم ايضا معلومات عن تواجدنا في المنطقة . انهم معنيون بتجارتهم لااكثر . جائت نوبتي بالحراسة ، فودعت الحرس الذي قبلي ، واحتميت بصخرة ، استخدمتها كدرع يقيني رصاصة غادرة من الخلف . ركزت سمعي .. فهي الحاسة الوحيدة في هذه العتمة ، يمكن الاعتماد عليها في اكتشاف الخطر . تلك الساعة كانت طويلة ، لاتريد ان تنتهي ، وما اصعب الحراسة بحاسة واحدة ، فكم من مرة ، تناهى الى سمعي صوتا ،ولكن حين اشدد في التركيز ، لم اسمع شيئا غير صفير الريح وبعض عواء لثعالب جائعة ، يأتي من مكان بعيد ، اظن انها مثلي تشتُمُ الحروب كلها .

قبل ايام قليلة ، وصلت رسالة من صديق ، غادرنا منذ اربعة اشهر الى بودابست ، يقول فيها ، بعد ان حمّلها الكثير من التحايا والمحبة ، انه .. ويقسم باغلظ اليمين .. قد كان مشتاق جدا لساعة حراسة معنا .. كنا فرحين باخباره ، ونحسده على تلك السفرة ، لكننا ضحكنا كثيرا ، لقد كانت مجرد مزحة . انتقلنا الى هذا المكان ، بعد ان ضاقت بنا وديان كردستان ، بواسطة السيارات ، لكني اخذت من الوقت الكثير ، اتمعن بهيكل السيارة واحملق في عجلاتها ، فذلك زمن طويل قد مر دون ان ارى تلك العربة ، حتى كادت ان تغيب من ذاكرتي تماما . حينها تسارعت الصورالى مخيلتي فهاهي مدينة الناصرية ، مزدحمة بمقاهيها ، صاخبة بتمردها وذلك [ عكد الهوا ] بهوائه وهواه ..... إني أراه ...

شعلت اللايت الصغير بطريقة سرية ، مر زمن حراستي ، ايقظت الحرس الذي بعدي ، وكنت اتغلب على نعاسي بصعوبة بالغة ، ولاشك اني حين ارمي بجسدي على الفراش ساروح في [ سابع نومة ]. دسست حذائي تحت الوسادة لتكون مرتفعة قليلا ، وتسللت بهدوء تحت البطانية . عادت الحركة من جديد ..! الطناطل لاتجرأ ان تاتي الى هنا أبدا... هل ان احدا من الانصار يريد ان يمازحني بهذه الطريقة ..؟ نهضت من فراشي ، سحبته الى اخر الخيمة ، وتركت مسافة بيني وبينهم ، لكن الحركة مازالت مستمرة ولم تهدءا ، شعلت اللايت ورحت ابحث عن ذلك الكائن ، اللغز ، الذي ازعجني ، لكني لم اعثر على شئ ، ثم حاولت ان اتجاهله .

استمرت تلك اللعبة لساعات، ولم يبقى لانبلاج الصبح الا القليل، ويأست من اني سانام هذه الليلة . لكني لم انم منذ ليلة البارحة ، حين خرجت من عنق زقاق الموت باعجوبة ، فعند الغروب بدأ الجيش بالتسلق نحونا ، كنا مستعدين للمعركة ، ومطمأنين ، باننا استطعنا ان نبني سياجا من الالغام في طريقهم ، سياج يبعد عن موقعنا بنحو خمسين مترا ، وكانت خطتنا ، بان نمطرهم بالرصاص ، حال اصطدامهم بسياج الالغام . مرت ساعات ونحن ننتظر ، الرؤيا معدومة تماما ، حتى سمعنا حركة اقدامهم وهي تتعثر بالصخور ، التي تملأ منحدر الجبل ، الالغام لم تتفجر، فبادرنا باطلاق النار بطريقة كثيفة ، وكنا نرمي ونصرخ ونشتم ونتحدى ، نحن في قمة الجبل وهم على سفحه ، هؤلاء كانوا اغبياء ، فمن المستحيل ان يقتحموا المكان بهذه الطريقة ، دام الاشتباك لبضعة دقائق ، وولوا هاربين ، سررنا بذلك الانتصار ، الذي سرعان ما تحول الى كابوس مرعب ، فقد كانت القذائف تنهال علينا بشكل لم نراه سابقا ويبدو انه كان انتقاما ، يدل على ان بينهم كان بعض الاصابات ، قفزت كغيري الى قاع الملجأ ، الذي كان لايتسع لاكثر من شخص واحد ، فتكومت على جسد الشهيد شيرزاد الذي سبقني اليه ، قال لي لاتذهب ، لنموت سوية . رفست الارض دون ارادة مني ، فازعجت ذلك الكائن الذي يقاسمني اريكتي الترابية ، غضب مني .. ولدغني في ساعدي الايسر ، كان متشبثا بي ، لايريد افلاتي ، فنفضت يدي بقوة وطلبت من الانصار النجدة ، استيقضوا حين صرخت بصوت مرتفع . . اخ ... حتى الحرس ترك مكانه وجاء راكضا ، فتح الجميع مصابيحهم ، فتشنا في كل انحاء الخيمة وفي كل فراشي ، ولم نعثر على شئ . كانت اللدغة قد سببت لي ألما ، كأن حريق شب في هشيم جسدي ، وانتفخت يدي متورمة على طول ذراعي . جلسنا ندخن ، ورغم الالام التي اشعر بها والتعاطف الذي حضيت به ، فقد كنت مثارا للضحك والسخرية ولتعليقات الانصار الجميلة ، حتى انقشع الظلام ، ذهبنا الى الفراش ، فوجدنا [ ام السبعة والسبعين ] وفي فمها قطعة من لحم جسدي ، اخذتها واختفت تحت حجر !! .

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com