مقالات

الحب والوطن

سليمان الفهد / كاتب وسياسي عراقي

Sulaiman_alfahd@hotmail.com

 الوطن ... الوطن .. العالم والإنسان , السعادة والمأساة , الوطن الدم والروح التي تظل تطوف عبر الأزقة والبنايات , الوطن الأخت والزوجة والصديقة , ترى كم يجب علينا أن نحب وطننا , نحب بلادنا نحن أبناء العراق , نحن الأفراد بكل الألوان والطوائف والأديان , بكل الثقافات والمستويات , وكم ينبغي أن نحب وطننا حتى نستطيع العثور على شعلة المارثون وننطلق بها , إننا جميعا نتعلم معرفة حب الإنسان لبلاده , مع انه حب يولد طوعا وينمو مع نمو العظام , واللحم والحواس , بيد أن عظماء سبقونا ويأخذونا من أيدينا ليقودونا إلى اقصر الطرق لهذا الحب.

 من هؤلاء العظماء الفيلسوف والكاتب اليوناني " نيكوس كزنتزاكي " وارتباطه الوثيق بمدينته التي ولد فيها والتي ناضل من اجلها ... " كريت " لقد عاشت في دمه , تحركت وسافرت معه حيث كان وحيث رحل . فهي جاءت بكل أحشائه , ولم اصدق ولو مرة واحدة أن هذا الكاتب لم يتوجه إليها في اغلب كتاباته , " كريت " هي رديف الحرية والبطولة والمأساة والرجولة , فهي حب لم يحدث أن تطرق إليها أي كاتب يوناني من قبل , هي حب وطن . هذا الحب هو الدافع للكتابة , وهو ليست بالكتابة النقدية أو عرض كتب , بل محاولة في تشوق هذا الحب , إنني في حالة إعجاب شديد بهذه القدرة الخلاقة , للحب , الذي جعل " كزنتزاكي " مبدعا , وهناك دليل ساطع على هذا الحب وترجمان صلب له . أن هذا السفر المتوغل في الطفولة والصبا والشباب والكهولة له أعظم حكاية كتبت عن حياة شعب .

 هذا مقتطف عن " نيكوس كزنتزاكي " يدلنا إلى طريق الحب ويحرك فينا الذكريات , ذكريات الطفولة . كل ما ترسب في عقل طفولتي قد تجذر فيه بعمق كبير وكنت قد تلقيته بقدسية إلى درجة إنني , وأنا في هذا العصر لا اتعب أبدا من تذكرة وإعادة أحيائه , بدقة متناهية , أتذكر لقائي الأول بالأنهار والنار والمرأة وبروائح العالم .

 إني انظر إلى العالم , لا لشيء غير الدهشة , هل نفس أحاديثنا عن الدهشة الأولى . لا اذكر بالضبط من قال: ( الفلسفة .. تعني الدهشة. ) , العالم ينكشف بعيني طفل , وينضج ويتكون ويعدو رديف الدهشة حتى إننا دائما نظل نبحث عنها ونحن نعرف جيدا أنها ذهبت ولن تعود إلينا تلك اللحظات الرائعة . فالفيلسوف كالطفل انه يرى مثل الحالم . رؤيا , اتساق بديعا وتكوينا لا يقاس به عمل الفنان العظيم أبدا , هذا العالم الآخذ إلى الخير والجمال والعافية . ما الذي جعله رائعا غير دهشة الطفل التي كانت لنا ذات يوم ولم تعد غير ذكرى بعيدة المنال .

 إن أقدم ذكرى من حياتي هذه : كنت لم أزل غير قادر على الوقوف وقد حبوت على أربع نحو العتبة خائفا وتواقا ومددت رأسي الواهية عبر زجاج النافذة ولم أكن قد رأيت شيئا , أما الآن فأنني أتطلع فقط وقد رأيت العالم للمرة الأولى . ويا له من منظر مدهش .

 كانت حديقة الدار تبدو بلا حدود , وكان هناك طنين من آلاف النحلات غير المرئية , شذى سكر وشمس دافئة بكثافة العسل وكان الهواء يلسع كأنه مسلح بسيوف وكانت هناك حشرات ملائكية متحفزة بجوانح ملونة ثابتة تتقدم نحوي مباشرة , زعقت خائفا , وعيناي مليئتان بالدموع ثم تلاشى العالم .

 لقد عرفت الحب لشيئين أساسيين يبرزان في معظم كتاباتي إنهما الحرية والبطولة وها هنا شيء يستجد يكاد يكون مرتكزا وسفرا للبطولة والبحث عن الحرية , كانت الحرية أولى رغباتي الكبيرة , أما الثانية , التي تظل خبيئة حتى اليوم . كانت الرغبة في النقاء , البطل مع القديس أو المتصوف الروحي , هذا هو النموذج الأمثل للإنسان , وحتى في طفولتي كنت اترك هذا النموذج فوقي في السماء الزرقاء .

 أي نموذج إضافي صعب يبحث عنه الكاتب هنا . وأية حياة صعبة نعيشها وقد بحثنا عنها لنعيش , لا أن نطلبها ونحن جالسون بانتظارها . يجب أن نكون نموذجا للأخلاقي الذي يمزج بين البراءة الأولى وبين التمرد الخلاق . انه شأن العظماء من الأجيال السابقة , شأن أخلاق في الحياة وإبداع في الكتابة .

 أن أية محاولة للكتابة عن هذا النوع الأخلاقي الكبير تتطلب نوعا من الجسارة . لذا , فأن أفضل طريقة للوصول إلى المحراب هو أن نقرأ ونتعلم حب الناس والوطن , هذا الوطن الغالي الذي انشأ رجالا لا تقهر وعقولا لا تتوقف عند الحد الأدنى , وأقلاما لا تنضب , فما علينا نحن أبناء هذا الوطن الجريح إلا أن نحارب من يحارب وطننا ونقاتل من يقاتل وطننا ولن نساوم مهما بلغت التضحيات ولن نخدع بأوراق نقدية تدفع لنا . فحب الوطن واجب لا مساومة فيه وعليه , ولا مفر من الارتماء بأحضانه .

 فهل نحن فاعلون ؟

  

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com