مقالات

اللاشعور

علي ماضي

alimadhy67@yahoo.com

كلنا قرأ أو طُرِق على مسامعه هذا المصطلح العلمي اللاشعور او اللاوعي .وحتى غير ذوي ألاختصاص يعتذرون أحيانا من أنهم فعلوا كذا أو تصرفوا كذا لا شعوريا. فتعالوا نلقي نظرة مبسطة على هذا اللاشعور ،خالية من تعقيدات الكتب العلمية وجفافها الممل.

الشائع في الأوساط العامة ان اللآشعور هو مستودع الأفكار الغير مرغوب بها ، والمستبعدة من قبل الضمير،وتسمى بالمصطلح العلمي بالعقد ،وتشبه الدكتورة وفاء سلطان( في احدى مقالاتها التي تنتقد فيها العقل العربي الشرقي) اللاشعور بفناء الدار الخلفي ،والكبتوتات التي تعاني منها الشخصية بالنفايات ،لذا تقول تصور انك في كل يوم ترمي النفايات في فناء دارك الخلفي ،ففي نهاية المطاف ستمتلئ الباحة الخلفية بالنفايات ،وتفوح منها رائحة نتنة كريهة تزكم الأنوف.

وفي الحقيقة أن ما ذكرته الدكتورة وفاء سلطان هو نصف الحقيقة عن اللاشعور. بحسب ما يراه الباحث العراقي العملاق الدكتور علي الوردي في اغلب مؤلفاته ،ومنها شخصية الفرد العراقي ،ومهزلة العقل البشري، وخوارق اللاشعور.

1. حيث ،يصف الإنسان كونه كائن متطبع،وليس متعقلا اي انه يعتاد على مجموعة من السلوكيات ،ثم يتعلم كيف يبرر لما اعتاد عليه.

2. كما ويقلل الدكتور الوردي من اهمية العقل بالنسبة للأنسان، . ويعتقد انه عُرضة للخداع كما تخدع الحواس.

3. ويعزي النجاح إلى اللاشعور،وليس إلى الوعي والتخطيط ،لذا تراه يسخر من المثل القائل من جد وجد ومن زرع حصد ،ويرى أن نجاح الإنسان مرهون بكفاءة المنطق المركوز في لا وعيه.

4. إن المجتمع بكل مفاصله يمارس نوع من التنويم على الفرد منذ نعومة اظفاره، اطلق عليها اسم التنويم الأجتماعي ،وهي عملية تشابه تماما عملية التنويم المغناطيسي . ويذكر الدكتور الوردي أمثلة عن التنويم المغناطيسي،وكيف أن روزخونا نومّ مغناطيسيا على أن يذكر أهل الكفر والإلحاد بخير حين يسمع دقات الساعة التاسعة ،وكانت دقات الساعة بمثابة أمر التنفيذ لما نُوّم عليه رجل الدين هذا.

5. تلتف مجموع العادات حول الأنسان لتشكل حوله طوقا عازلا اطلق عليه القوقعة البشرية .

6. الأنسان ليس حرا في تصرفاته وانما هو اسير لمجموع العادات والتقاليد التي غُرسِت في لا شعوره.

ولو كان الوردي، يعيش بيننا الآن ويملك المعلومات التي نملكها عن الحواسيب ،لشبه اللاشعور بالقرص الصلب (hard disk) ،وشبه الشعور بالذاكرة العشوائية(RAM)، ولكان نصيب وحدات الأدخال مثل (keyboard) إن تُشبه بالحواس. و لكانت أوامر استدعاء البرمجيات ،تقابل ما يعرف بالمنبهات الشرطية.

وليكون الموضوع أكثر وضوحا،كلنا يتذكر اليوم الأول الذي تعلم فيه كيف يقود مركبته ،كيف كان مرتبكا ومشدود الحواس ،إلى درجة انه لا يستطيع الكلام ،أو أن يلتفت يمينا أو يسارا،خشية أن تخرج المركبة(السيارة) عن السيطرة ،وكيف كان يفكر مليا في كل خطوة قبل أن يؤديها ولكن بمرور الوقت وتتابع الممارسات،يتمكن من قيادة المركبة بشكل تلقائي ،أو بعبارة أخرى بدون تفكير ، ،إلى درجة انه يتمكن من أداء فعاليات متنوعة إلى جانب أداءه القيادة ،كالحديث مع صديق أو المزاح معه ، وقد يصادف انه يقطع مسافات ،ويعبر جسور ، دون أن يعي كيف وصل إلى هذا المكان وبهذه السرعة.وهنا لابد أن نطرح السؤال الآتي!

لماذا كانت الحواس منشغلة في بداية التعلم ،ولم تعد كذلك بعد فترة من الممارسات المتوالية؟ أين اختفى ذلك الإرباك ،والشد العصبي ،والخوف؟ وهل لم يفكر بالقيادة فعلا من قطع مسافات دون أن يعي كيف قطعها؟!

الجواب طبعا لا والدليل انه يستجيب لكثير من العوارض أثناء الطريق،ويتخذ ردود الأفعال المناسبة لها ،بشكل تلقائي ودون سابق تفكير كالاستجابة للإشارة الضوئية ،أو للتوقف المفاجئ للعجلة التي أمامه، وغيرها من العوارض الأخرى.

ولكن الذي حصل فعلا انه خلال فترة التعلم كان في طور إدخال برنامج القيادة الى اللاشعور ،عن طريق وحدات الإدخال ألا وهي الحواس الخارجية ،وفي هذه المرحلة يستخدم ألإنسان الشعور (الوعي) وبعد توالي الممارسات ينتقل برنامج القيادة من الوعي أو الشعور إلى اللاشعور ليستقر فيه،وبهذا يقال انك أصبحت ماهرا أو كفوءا في حال كنت تؤدي عملا حرفيا،وتوصف بأنك تملك الملكة في حال كنت تعمل في مجال ألأدب والشعر.

ويطرح في مجال الأدب تساؤل مهم هل أن القصيدة الشعرية مثلا هي وليدة اللحظة ؟؟ أم أنها ليست كذلك بل استغرقت زمنا ما ،ولم تكن لحظة الولادة سوى أن الأديب تعرض لمنبه استدعى مخزونه اللاشعوري .

وتذكر كتب الأدب أن الشعراء فيما مضى كانوا يعتقدون أن للشعر شيطانا ،وكان لكل شاعر شيطانٌ خاصٌ به ،يلقنه الشعر،كما وتذكر كتب السيرة ، أن بعض الشعراء كان يهيم في الصحاري ،أو يتدحرج فوق الرمال ،قبل أن يكتب الشعر ،وحقيقة الأمر أن كل هذه الأفعال ما هي إلاّ محفزات أو منبهات اللاشعور ،أما أدباء العصر الحديث فان غالبيتهم العظمى يحتسون الخمر ،بغية تغييب الوعي وإطلاق العنان لـ( اللاشعور).

أما السؤال ألأكثر أهمية في الموضوع هو، كم من البرامجيات مودعة ألآن في عقلنا اللاواعي تتحكم بنا ،وتسيطر على الكثير من أفعالنا،دون أن نشعر إنها تستولي علينا تماما؟ كما هو الحال في مثال قيادة المركبة ،ولكنها تطفوا على السطح ما أن تحصل على منبهها الشّرطي . وكنت قد رويت في إحدى مقالاتي ،كيف أن رجلا وقور يتكلم عن العقل والحلم ،والصبر، تحول إلى وحش مفترس لأن احدهم اسقط عقاله على الأرض دون قصد،وكيف أن برنامج التلازم بين العقال و الكرامة المخزون في لاشعوره قد أثير ليطفوا إلى الوعي , وسيطر على فعاليات الرجل وحوله الى شبه مجنون .

احد الأصدقاء نسي قبل أيام أين وضع بعض الأوراق المهمة ،وعبثا حاول التذكر ،وفتش في ألأمكنة التي يستخدمها ، إلى أن وصل حدّ اليأس ثم اخذ يتمتم بكلمات عرفت انه يقرأ سورة الفاتحة ،سألته ماذا تفعل فأجاب اقرأ الفاتحة إلى أم البنين( أم الإمام العّباس) ،وهي من العادات الشائعة لدى أهل الجنوب ، ولم أكد أغلق الستار على ابتسامتي الساخرة ،حتى صرخ تذكرت ،الم اقل لك أن أم البنيين لن تخذلني !

وحقيقة ألأمر انه في البداية كان يستخدم عقله الواعي في البحث ،ولم تكن قراءة الفاتحة سوى إعلان عجز الشعور ،ومنبها شرطيا لإستخدام اللاشعور ،فقام اللاشعور بتزويده بما يريد على الفور، شرحت هذا ألأمر لصديقي ،ولكنه حمد الله لأن بين أذنيه قناة اوستاكي إذ أن كلامي مرّ بالأذن اليمنى وخرج من الأذن اليسرى عبر تلك القناة، والحقيقة أنا لم أتوقع منه أكثر من ذلك ،لأني أدرك تماما أن الشخصية ليست قميصا نغيره أنّى شئنا.

يحسب ألإنسان نفسه حرّ طليق ، وما يدري انه أسير لما خطته يد القدر ، نعم يد القدر ،فلا يوجد احد يستطيع أن يختار عائلته ،أو بيئته ألاجتماعية ،بكل مفاصلها الدينية ، وعاداتها وتقاليدها، والتي تلعب دورا أساسيا في بناء شخصيته ، واعتناق عقيدته. وكنت دائما اسأل المتطرفين من أصحاب المذاهب حين أحاورهم ، لو ولدت في عائلة بوذية وفي مجتمع بوذي، ماذا ستكون عقيدتك ؟ ستكون بوذية دون أدنى شك ، وستدافع عن البوذية بنفس القوة والضراوة التي تدافع بها عن معتقدك الحالي . لأنك لم تختر ما أنت عليه ألآن .

وقد يدافع البعض من انه بعدما نضج وكبر وقرأ استدل على صحة معتقده ، والحقيقة أن هذا هراء محض ، لأنه لم يلقن عقيدته فحسب وإنما لُقن معها منطقا خاطئا يقوده إلى نفس النتيجة دائما ،لذا تراه في قراءاته يعزز تلك النتيجة التي تسللت إلى لاوعيه ،من دون أن يشعر ،بل ويظن انه استدل استدلال على صحة معتقده ،من دون أية مؤثرات ،وانه كان حياديا تماما.

لذا يا أيها المتعصب مهما كان ما تتعصب إليه، من دين أو مذهب أو انتماء قومي.... ، ما أنت سوى منوّم مسكين ، وتمسكك بما تعتقد به لا يختلف كثيرا عن تمسك أبو لهب بوثنيته، واظنك لو ولدت في زمن الوثنية لكنت من رموزها التي يشار إليهم بالبنان، لأنك محكوم بمنطق التعصب لما اعتدت عليه .

وعلينا أن لا ننسى من أن القابلية على التبرمج التي يمتاز بها الإنسان ، يمكن أن تستغل بما فيه مصلحته ،فيما لو غرست في لا شعوره قيم إنسانية عالية ،تبتعد به عن التعصب وتغرس في لا شعوره قواعد محترمة ،وصدقت الدكتورة وفاء سلطان في معرض انتقادها للمقولة المشهورة عن أبي ذر عجبت لمن بات ولا يوجد في بيته خبز لا يخرج حاملا سيفه ،تقول لماذا حاملا سيفه! لماذا لا نقول حاملا فأسه !.

لذا أرى أصبح من الضروري أن تلتفت المجتمعات العربية إلى هذا الموضوع وتبدأ بتغير المناهج الدراسية وذلك بحذف كل ما له علاقة ، بتعميق روح البدواة،وتعميق مبدأ العنف والقوة ، واستبدالها بقواعد مبنية على احترم الآخر ،ونبذ مطلقية الحقائق ،وترسيخ نسبيتها ، وان نغرس في لاوعي أبناءنا إننا نعيش في عالم متغير ،وروعته تكمن في قدرته على التغير هذه.

آن الأوان لإعادة برمجة اللاشعور العربي بما يطابق المقاييس الإنسانية الراقية ،وبما أن لكل شيء بداية ،فلتكن بدايتنا من عالم الطفولة،لأنه من الصحيح قولهم التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com