مقالات

ثقافة الموت .. عزلة سوداء وقتل أبرياء

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

 في الأمس كان المتصوف يفنى حبا في صلوات وعشق يسوّغ له الاقتراب من المناهل الاولى ، فيدخل في طقوس الفكر والطهرانية والعبادة ، واليوم يظن الدنيويون جدا ، انهم في باحة السمو لو فجروا انفسهم وقتلوا خلق الله . ما أسمى المتصوفة ، وما أردأ المتطرفة ، وأرذل المرتزقة والمأجورين وأعداء العراقيين من شذاذ الآفاق ومعتوهي التحجر العقائدي الحقود والمسموم .

  وردت مفردة الموت كثيرا في قاموس التصوف اذ قيل في كتاب " الفاظ الصوفية ومعانيها " : " ان الموت حالة الانسان بدون اتصال الروح به .. "، وهناك لو صح التعبير ، الموت الصوفي ، فمن الألفاظ التي يستعملها الصوفيون لفظتا السحق والمحق ، فالاولى " ذهاب كثافة المادة التي تحجب الانسان . واما المحق فانه يلي مرتبة السحق ، فهو بعد تمام تغير التركيب الجسمي فلا يبقى للعبد شئ من وجوده بل ولايشعر بشئ بحسه ووعيه لأنه في حالة فناء كلي ، أي في حجر الرحمن . ".

 ان التوحد بحب الله ، في هذا الصدد ، هو الاسلوب الأضمن للاقتراب من المدرج السامي ، واما حرق الناس فلاضمان له في محبة الله ، وذلك لأن المنتحر يحرق مخلوقاته .

  يقول جبران خليل جبران في قصيدة يانفس ، من مجموعته الكاملة :

 

يانفس ماالعيش سوى

ليل اذا جن ّ انتهى

بالفجر ، والفجر يدوم

وفي ظما قلبي دليل

على وجود السلسبيل

في جرة الموت الرحوم .

 

ومن اجل ذلك الفجر واستجابة للظمأ باتجاه السلسبيل يجري اختيار الموت الدنيوي باتجاه المشهد السامي . ان التوجه الصوفي المستغرق عبادة وشوقا ومن اجل غاية ما ، يؤدي الى الافناء قبل الفناء الطبيعي ، لكن الغايات تبقى لدى كل متعبد غايات سامية وهادفة . والمتصوفون يرتقون بلا شك ، في مدارج التعبد وترويض النفس بالتقوى ونبل القصد والفرح والنشوة بما يتلذذون به من ( مشاهدات ) فيشيحون بوجوههم عن

الدنيا . والحياة هنا مجازا مع الله ، عند محاريب التقى . والموت مع الدنيا بعدم الاشتراك والاسهام فيها ، وتتحكم بدواعيه اسباب موجبة منها ماعبر عنها الشاعر جبران خليل جبران (نثرا ) من انها ميل نفسي لدى الانسان اذ يقول في معرض كتابته عن الفيلسوف الغزالي ، في المجموعة الكاملة لمؤلفاته : " بين الغزالي والقديس اوغسطينوس رابطة نفسية ، فهما منظران متشابهان لمبدأ واحد ، رغم مابين زمانيهما ومحيطيهما من الاختلافات المذهبية والاجتماعية . أما ذلك المبدأ فهو ميل وضعي في داخل النفس يتدرج بصاحبه من المرئيات وظواهرها الى المعقولات فالفلسفة فالإهيات " .

والميل الى معرفة اسرار الكون . واطلاق الاسئلة الحارقة ازاء الماهيات ، والتشوق الى النظر في طلاسم الحياة ، من اين جاءت الحياة ؟ ولم الحياة ؟ والموت كظاهرة مرافقة ! .. وماهي صورة الاله ؟ وما دواعي الامتحان الكوني هذا ؟ كلها أسئلة وهواجس قد يسبغ عليها الصوفي بعباداته وحبه للخالق طبيعة غير غرضية او نفعية الا انها واقع الحال استفهامات في المخيلة البشرية . كلها تدفع بنوع من البشر الى تكريس الذات باتجاه الحقيقة .

 يضيف جبران : " اعتزل الغزالي الدنيا وماكان له فيها من الرخاء والمقام الرفيع وانفرد وحده متصوفا ، متوغلا في البحث عن تلك الخيوط الدقيقة التي تصل أواخر العلم بأوائل الدين . متعمقا في التفتيش عن ذلك الاناء الخفي الذي تمتزج فيه مدارك الناس واختباراتهم بعواطف الناس واحلامهم . وهكذا فعل اوغسطينوس قبله بخمسة أجيال . فمن يقرأ له كتاب " الاعتراف " يرى انه قد اتخذ الأرض ومآتيها سلما يصعد عليه نحو ضمير الوجود الأعلى " .

 ان العزلة هنا لا تفضي الى مشاهدة للحقيقة المطلقة والعودة والتصريح بها . فالتلذذ بالمشاهدة شئ خاص . وفضح الأسرار جزاؤه القتل كما أنبأنا تاريخ الصوفية . اذ لابد من أن تدور المسألة في حلقة مغلقة وهي كما قال شاعر العرب الأكبر عن سر المتنبي :

 

" أقسمت أنك عملاقٌ به غلَق ٌ

لا الأرض عن سرّه تنبي ولا اللحد ُ "

 

 ان ادعاء الرؤية مسألة ذاتية تبدأ وتنتهي بالموت لو صحت الرؤية . فما جدواها والعالم يتضور الماً ويكابد الويلات ؟ هل هي عملية انقاذ ذاتية ؟ بينما ضمير الوجود الأدنى – على حد تعبير اوغسطينوس - قد خصته الكتب السماوية في جوهرها السامي بضرورة اصلاح الحياة والدفاع عنها .

هل نحن مع عزلة الغزالي الذي اشاح بوجهه عن مشاكل عصره ، وقام بتكفير الفارابي والكندي وابن سينا في كتابه تهافت الفلاسفة 

.وكذلك كُفّر ابن رشد الذي احرقت كتبُه .

 هل نحن مع الغزالي الذي وقف ضد الفلسفة اليونانية والمنطق وحارب العلم والهندسة والرياضيات وتطور الحياة ؟ مكرساً جهوده كلها من اجل ذاته- الروحانية - فحسب ؟.

 ماذا لو تصوف كل كائن على الكرة الأرضية للتلذذ ، وعم الموت الحياة ؟. أي حقيقة عتماء هذه ؟، بينما أطهر التدين هو حب بني الحياة وخدمتهم وتحقيق العدالة بينهم وتطوير قدراتهم الحضارية .  

 أليس من قبيل الموضوعية بمكان الدخول الى الحياة والتفاعل معها لصالح أكثر الحقائق

قربا وسطوعا الأ وهي الرحمة والمحبة

الانسانية ؟. 

أن جبران ذاته وكجانب من اهتماماته الروحية ، كان قد تناول  في قصيدة بعنوان ( البلاد المحجوبة ) استحالة الرؤية المادية للمغزى السامي ! :

 

يابلادا حجبت منذ الأزل

كيف نرجوك ومن أي سبيل ؟

أي قفر دونها أي جبل

سورها العالي ومن منا الدليل ؟

أسراب ٌ أنت ام انت الأمل

في نفوس تتمنى المستحيل ؟ .

 

ان الروحانيات حياة وانشغال عن الفعل الدنيوي بالفعل ازاء الاخروي . ولكن مردودات ذلك ، تبقى انانية يحملها في اعماقة كل متصوف . ولايجوز البوح بها لأبناء الدنيا . فالطريق اذا محسورة حسرا ً وهي تؤول الى أسرار . لكن دروس وعبر التصوف التي تستنتج مآثرها قائمة في التكريس لجمال الآخرة ونبذ الدنيا . وهذا وحده هرم مقلوب على رأسه !

  ولذا فمن حقنا القول ان الروحانيات تتطور بالفعل المادي لإبتكار اجمل اسلوب عادل للحياة ! من قال ان الروح تنفصل عن حق ممارسة دورها في تطهير المادة مما يشوبها من تدن ٍ . ان الروح مسرح لبناء الحياة المادي . هاهي قصيدة الشاعر جبران خليل جبران في قصيدة ( البلاد المحجوبة ) تتغزل بعوالم البهاء :

 

يابلاد الفكر يامهد الألى

عبدوا الحق وصلوا للجمال

ماطلبناك بركب ٍ أو على

متن سفن او بخيل ورحال

لست في الشرق ولا الغرب ولا

في جنوب الأرض او نحو الشمال

لست في الجو ولا تحت البحار

لست في السهل ولا الوعر الحرج

أنت في الأرواح أنوار ٌ ونار

أنت في صدري فؤآد يختلج .

 

 اذا ً فوفق جبران لايوجد هناك مكان مادي الهي محدد ، بمعنى انه في كل مكان ، لكن هناك اختلاج في الصميم من الانسان بروعة الروحانيات وعلوها ورفعتها .

 ان البحث عن حقيقة مطلقة لايحول دون ضرورة التغيير في ابداع الحياة العلمية . ان الحضارة هي طريقنا والبناء هو الهدف . و ما ثقافة قتل الذات بسحقها ومحقها الاّ منحدر بائس عفا عليه الزمن . واؤلئك الضالعون بقتل الأبرياء بسبب آرائهم او اختياراتهم انطلاقا من عقيدة ما وقياسات ما ، ومسطرة ما ، انما يعني الوقوف ضد تيار الحياة .

  وفي عصر الحوار لامكان لثقافة الموت . لامكان لتحويل ساحات المدن الى مسالخ ومحارق . ولكن هناك مكان للفرد بأن يمارس حقه بكيفية التدين واختيار اسلوب الحياة وحتى اسلوب موته الخاص به لوحده . العلم يتقدم حقا ً ، ونحن نلتصق بالتطرف العقائدي نظن ذلك انه رفعة للروح ، بينما رفعتها في ترقيتها واعلائها للحياة المادية.

 ان الروح والمادة كالماء والدقيق لايمكن فصلهما ، وفي توازنهما استمرار للحياة ، فهما زادها . والموت  مهوى ثقافة الموت ... لامحالة .

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com